30
May
2018
0

استقلال ما بعد حروب التحرر الوطني ٣

ما أن استقلت بلدان العالم الثالث حتى شكلت تحالفاً دولياً من دول عدم الانحياز، أو ما يُسمى الحياد الإيجابي. كان الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية يخوضان حرباً، وكان ينحاز بعض العالم لهذا الفريق والبعض الآخر للفريق الثاني. حققت دول عدم الاتحياز إنجازاً كبيراً بالحياد الإيجابي، لكنه كان إنجازاً سياسياً منفصلاً عن القضايا الاقتصادية والاجتماعية. اعتبرت بلدان عدم الانحياز أنها تستطيع بذلك أن تحوز على فوائد اقتصادية أكبر باللعب على الحبلين. اعتمدت الى حد كبير على المساعدات الأجنبية (على هذا المعسكر أو ذاك) من دون أن تعتمد على نفسها. علما أن عددا كبيرا منها لجأ الى الخطط الخمسية التي كانت حجر الأساس فيها الصناعات البديلة، أو ما يسمى بدائل الاستيراد، وهي في معظمها صناعات قائمة على استيراد القطع وتجميعها.

أصبح دارجاً ومشهوراً مبدأ التنمية بالاعتماد على الخطط الخمسية وعلى تدفقات الاستثمارات الأجنبية. كانت هذه جميعها لقاء تنازلات سياسية لهذا المعسكر أو ذاك. ما افتقده الحكام الذين قادوا حركات التحرر الوطني الى الاستقلال هو اعتبار أن التنمية ليست خططاً خمسية بالدرجة الأولى، بل هي الاعتماد على الذات وعلى القوى البشرية العاملة. رفض مبدأ الغزو الثقافي في وقت كان يجري فيه تدمير التراث الثقافي. لم تستطع بلدان عدم الانحياز أن تبني ثقافة جديدة. عزوفها عن الغرب لم يجعلها قادرة على الاعتماد على الشرق السوفياتي الذي لم يكن ذا حيوية ثقافية وسياسية تجعله يقدم شيئاً اقتصادياً إلا بعض المشاريع الكبرى. اعتمدت بلدان العالم الثالث على الصناعات البديلة والخفيفة، وذلك على حساب الزراعة والمزارعين. زاد فقر هؤلاء واشتدت الهجرة الى المدن. بموازاة ذلك ازدادت الديون الأجنبية وازداد معها فقدان السيادة، وحلّت التبعية مكانها.

اعتبرت الأنظمة التي تلت التحرر الوطني أن الحل هو بالتكنولوجيا، وبالتقدم التكنولوجي، وبالعقل التكنولوجي، وبالروح التكنولوجية. أفقدت شعوبها روحها. دخلت في مرحلة خواء ثقافي. صارت تعتمد على ما يرد إليها من كتابات حول التبعية والتنمية في الغرب. لم تعتبر أن مشاركة شعوبها هي الأساس في كل تقدم. قتلت الإبداع العلمي عند شعوبها. قتل الإبداع الروحي أدّى الى قتل الإبداع الشعري والفلسفي. الحل التكنولوجي سهل وبسيط. يُستخدم أصحابه وهم لا يعرفون اللغة المحلية. السكان المحليون محميون من الأفكار الغربية التي تواكب التكنولوجيا وخلقها، أي الروح العلمية التي أدّت الى إبداع التكنولوجيا. العلم الحديث فيه خطر. التفكير في الأسترولونوميا يمكن أن يقود الى الحديث في الفلسفة والشعر. كل الأدوار مقبولة إلا التفلسف والتنظير والشكّ والتفكير، ذلك انها امور تقوّض النظام الذي يدعم نفسه بالجهل، بغياب التفكير في الأسباب والنتائج، والتفكير في أصل الكون ونهاياته. ما دام كل شيء موجودا في كتب الأقدمين، فلماذا إذن التفكير في هذا الموضوع. “من يعمل مثقال ذرة” أية تفسّر القنبلة الذرية أو ما قبلها. قصة التكوين تفسّر التاريخ. ممنوع التفكير. أفكارنا تأتينا بالأوامر. تتحالف السلطة والدين والمال. الدين من أجل تمكين الجهل. الجهل من أجل استخدامه للبقاء في السلطة. المال من أجل أن لا يفهم الناس أن الاستقلال ديْن، والديْن دين، والدين يبرر المال بكل أفعاله. أما ما بعد الحداثة التفكيكية، فهي تفكك النص، وربما الكون، حتى لا يبقى له معنى. بالمناسبة، تحريم الربا في القرون الوسطى في المسيحية والإسلام لم يتحوّل الى تحريم الفائدة التي تبلغ أحياناً 20% شهرياً أي 240% سنوياً.

ليست الديمقراطية هي ما يقود العالم، بل الطغيان، والحكم بالأمر، والاقتصاد بالأمر، والثقافة بالأمر، والدين بالأمر، وطبعاً الثقافة بالأمر. صعود الفاشية يزيد في العالم السياسات بالأمر.  يتوسّع الطغيان ويتعمّق تلقائياً بواسطة سياسات الهوية. ومع انتشارها لم تعد القومية وسيلة تحرّر. مع انتشار المنحى الفاشي للقومية، تصير سياسة الهوية والقومية من قواعد الطغيان. انتشار الرأسمالية في عصر النيوليبرالية ليس وسيلة تحرر، بل هي سلطة المال بالأمر. مصارف تتجمّع فيها أموال الناس، ويتحكّم بها وبأصحاب الإيداعات مديرو المصارف؛ وهؤلاء أقوى من السلطة السياسية؛ يوجهونها؛ يحددون سياساتها. يخسر الناس مدّخراتهم في صناديق التقاعد، خاصة في الأزمات المالية، وهم لا يفهمون آلية عملها، أي آلية تحقيق الواقع بالأمر. تهرع السلطات لمنع الانهيار. ويكون مال الانقاذ قد اجتبي من مداخيل الفقراء. يتقدم العالم. تتوسّع القاعدة الصناعية. ومع ذلك يزداد الناس فقراً، ويزداد، بعد أزمة 2008، عدد أصحاب البلايين. ولا يقولون من أين أتت أموالهم. أهم القطاعات الإنتاجية هو إنتاج المال. لا يعرف معظم الناس كيف؛ ولا يعرفون أين تودع الأموال؛ فيما يُسمى مصارف “أوف شور”، حيث تكون مجرد أرقام حسابات. لكنها حسابات أرقام، رموز تدير العالم وتوجهه. أليست مقدسات الدين رموزا، مجرد رموز؟ ما هو مكانها في العالم؟ وكيف تتعايش مع رموز المال والسلطة الحقيقية. لا بدّ أن التحالف مضمر، وبعيد عن الأنظار. هناك في الأوف شور، التي تعني حرفياً، البعد عن الشواطئ، أي البعد عن الأنظار، حيث تكمن السلطة الحقيقية، تعاونها على الأرض السلطة السياسية، والجيوش، والشرطة، والقضاء، والبيروقراطية، وبرلمانات العالم. الأف شور هناك حيث تقبع الدولة العميقة. عميقة لأنها مخفية.

يتلظّى الناس في فقرهم. معظمهم لا يملك شيئاً، أي أكثر من نصف سكان المعمورة. إذا وجدوا عملاً (في أسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية، وأحياناً في الغرب) فذلك لا يسدّ رمقهم. أهم شيء عند النظام العالمي هو أن يصرخ هؤلاء من دون ان يفهموا. هذا هو الجهل المقدس. الجهل تغذّيه الرأسمالية؛ القداسة ينتجها الدين. كما أنّ الحداثة انتقلت الى ما بعد الحداثة، والليبرالية الى النيوليبرالية، أي ما بعد الليبرالية. انتقل الدين الى الأصولية والتطرّف، أي الى ما بعد الدين. ما بعد الدين يسلب عقول الناس. يساوي بين الحياة والموت. الموت على الأرض هو الفقر والهجرة، وأن يهيم الناس على وجوههم في سبيل الوصول الى المكان المأمول، حيث يتوهمون الجنة على الأرض. في مسلسل وثائقي على قناة البي بي سي، قال المهاجر السوري الراجع من أوروبا أنه لم يجد جنة الله على الأرض. فهناك عنصرية مدمرة. هو يعود الى أرضه، حيث لن يجدها أيضاً. تبخرت الأرض مع احتراق سندات الملكية، أو حرقها عمداً. تنظيف عرقي. تنظيف الأرض من الشعب حيث تخوض السلطة حرباً أهلية ضد الشعب. الشعب لا يلزم. الذي يلزم هو الطاغية وحده، والحاشية معه؛ أموالهم في الأوف شور؛ بعيداً عن الشاطئ، في كهف أرقام الحسابات. نظام عالمي. الطغيان المحلي جزء من النظام العالمي. الحرب العالمية تجري في منطقتنا. الطغيان جزء من النظام العالمي.

الاستبداد في بلدان التحرر الوطني جزء من النظام العالمي. الديمقراطية ضرورية. ضروري معها تحويلها الى طغيان، والى اقتصاد بالأمر، والى ديْن بالأمر. الديمقراطية في الغرب أساس من أسس الحرية. الحرية في بلدان العالم الثالث معدومة بسبب ديمقراطية الأمر. مرشحو الديمقراطية يختارهم أصحاب الأمر، وهم حلفاء أو أتباع أهل السلطة الحقيقية، اي سلطة المال. دينياً، يتسلّى الناس بسفر التكوين والقصص القديمة، وتتسلى الرأسمالية بسفر المصير؛ هي تقرر المصير. ما نراه على شاشات الفضائية هو سفر التكوين معكوساً. لا الأوهام عن أصل البشرية وخلقها، بل الخيال العلمي عن مصير البشرية وفنائها. أليس النووي جزءاً من الحوار الدولي، حوار حول فناء الجنس البشري؟