8
Jun
2019
1

الاستبداد – انتصار الفاشية على الأمة والطبيعة على العلاقات الاجتماعية ٢٢

لا يصنع الإنسان الأمة والطبيعة. العلاقات الاجتماعية هي بين الناس الذين يصنعونها فيما بينهم؛ هي الناس في تبادلاتهم. الأمة كيان فوق انساني يتجلى في الإنسان حين يروق له. الطبيعة معطى كوني، وبالتالي يشبه الإلهي؛ هو في أساسه فوق الإرادة البشرية؛ هو من الأساس يتجاوز الإرادة البشرية. حاولت القوميات على مدى قرنين من الزمن جعل القومية كياناً طبيعياً فوق ما هو اجتماعي، وفوق ما تقرره الإرادة البشرية. مُعطى منذ بداية التاريخ أو قبله.

لا غرابة أن تأتي انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة بانتصار أحزاب اليمين المتطرّف القومي وأنصار البيئة. كلاهما يدين بالطاعة لكائن فوقي غالباً ما يكون وهمياً، سواء كان الأمة أو الطبيعة. غابت الأحزاب الشيوعية. وكادت الاشتراكية تغيب. ما يغيب هو العلاقات البشرية الاجتماعية التي يصنعها اللإنسان. لا أحد من المنتصرين أعطى اهتماماً للعدالة الاجتماعية، إلا كبند في الهوامش. يرتكبون ما ارتكبته مجتمعاتنا العربية بأسلوب ديمقراطي أرقى.

غاب عن ذهن الطرفين (اليمين المتطرّف بالأمة التي تخصه، والبيئيون بالبيئة التي لا تخصهم) أن كلاً منهما يصنعه البشر وأن وراء الكوارث التي يصنعها البشر رأس مال بأبشع أنواعه المالية.

فرضوا على أتباعهم، وهم في غالبيتهم من الطبقات الفقيرة، أن يغيب الصراع الطبقي، عند اليمين، وأن يغيب خراب البيئة على يد الرأسمالية في سبيل تراكم الربح. دفعهم الى ذلك الخوف من الآخر، من المهاجرين والإرهابيين. غاب عن ذهنهم أن الأساس في صنع الهجرة هو الحرب الأهلية عند الغير والفقر. والإرهابيون من الغير هم حصيلة أنظمة دعمتها سلطاتهم.

ما عاد الصراع الاجتماعي طبقياً. هكذا تبرهن انتخابات البرلمان الأوروبي أخيراً. الصراع ميتافيزيقي حول “معطيات” أو بالأحرى “مقولات” الأمة والطبيعة. غابت عن الذهن العلاقات الاجتماعية التي تحدد العلاقات بين الناس من جهة وبين الناس والمؤسسات من جهة أخرى. وصار موضوع التصويت هو المعطيات الغيبية قبل الأمة والطبيعة. كلاهما مقولة معطاة. يتجاوز الناس ما يمكن فعله الى ما لا يمكن فعله. لم تعد إرادة المجتمع هي موضوع الصراع. الأمة معطى فوق طبيعي يتجلى أحياناً في الكون المادي؛ الطبيعة تحولت الى موضوع ميتافيزيقي لا إرادة للانسان عليها. تريد الرأسمالية أن تكون الأمة مصنوعة، معطاة كأنها كائن تاريخي طبيعي تشكّل المجتمع على أساسه. وتريد الرأسمالية أن تكون الطبيعة التي نعيش في حناياها دون تناول البشر. ما يبدو التعدي على الطبيعة ليس إرادة ربّانية بل عمل رأسمالي يخفي أرباحه ويحملها للمجتمع. لا يريد الرأسماليون أن يعترفوا بأن نظامهم هو التعدي على الطبيعة، ويريدون تحميل المجتمع، عن طريق الضرائب والبنى التحتية (مجارير نزع أحراج) الكلفة. لم يتدخّل الناخبون في الأسباب بل في النتائج. وكان التصويت ضد أنفسهم.

يعلن الناس عن الإحباط في نفوسهم. يئسوا من أحزاب الوسط ويسار الوسط ويمين الوسط. ويئسوا من أحزاب النظام التي حكمت خلال العقود الماضية، منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل. الخاسر الأكبر الشيوعيون، والى درجة كبيرة الإشتراكيون. وخسرت الدولة أمام الأمة. كان الكاتبون يصفون كلا من هذه الدول بتعبير الدولة-الأمة. اعترف الناخبون بالأمة على حساب الدولة. أعلنوا عدم ثقتهم بكل ما يتعلّق بالدولة، من النظام البيروقراطي، المدني والعسكري، الى العلاقات الاجتماعية السائدة. أعلنوا تعلقهم بالأمة، كائناً معطى ميتافيزيقياً غيبياً. النضال في إطار الدولة ضد طبقة رأسمالية، أو اقطاعية فيما مضى، أو حتى نقابات عمالية ومهنية يقودها أهل النظام، صار هو نضال الأمة ضد أعدائها: الهجرة والإرهاب. الأمة عادة تُصنع مع الدولة. لكن الأمة في نظرهم نهائية ثابتة معطاة خارج الوجود المادي وخارج الطبيعة. يئسوا ممّا على الأرض فلجأوا، ولو مجازياً، ولو كان بعضهم ملحدين، الى ما فوق الأرض والطبيعة، الى السماء. المهم أنهم رفضوا النظام الذي يصنعه الإنسان الى ما لا يصنعه، المعطى التاريخي الأزلي والأبدي. حتى ولو علموا أن ذلك المعطى وهم في وهم. خطوة أخرى نحو الفاشية. نحو كائن اجتماعي كلّي، لكنه يسيطر عليهم: كائن يدعى سلطة الشعب. لا الشعب الموجود بلحمه وعظمه ودمه، ولا الكائن العامل والمنتج الحقيقي لاقتصاد المجتمع، بل الصانع الحقيقي للمجتمع وعلاقته بالطبيعة. وأغفلوا أنهم بذلك يسلّمون أمرهم، كما في الدين، لمن يصادر الله والدين. يسلّمون أمرهم لمن يدّعي تمثيل الأمة وتاريخها ومصيرها. أغفلوا أن السلطة الحقيقية هي فيمن يكمن وراء الرأسمال وعلى رأسه؛ وأن هذه طبقة تدير العالم. لا من خلال مؤسسات ديمقراطية برلمانية تمثّل الشعب، أو دولية تمثل الدول كما في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية. اعتبروا أنفسهم (الناخبون) شيئاً واحداً مع الطبقة العليا التي تمتص دمهم، متحدين في الأمة؛ الأمة التي تمتثل لها الدولة ولا تمتثل لإرادة الشعب، على ما في هذا التمثيل من تلاعب واحتيال في تشكيل لوائح المرشحين. صار الشعب صدى للأمة وليس العكس.

أما أحزاب الخضر فهم يريدون الحفاظ على الطبيعة من جور الإنسان وتعدياته. تجاهلوا، أو يجهلون، أن من يتعدى على الطبيعة هو الرأسمال المالي والصناعي والزراعي. هم طبقة لا تدفع ثمن ما تخرّبه في الطبيعة بل تحمّل ذلك للمجتمع. حتى الآن تتجاهل هذه الطبقة الرفيعة كل ما يقال عن الاحتباس الحراري وتغيّر المناخ بأفعال “بشرية” بل رأسمالية، حتى ولو ثبت ذلك علمياً. طبعاً يضربون بالعلم الحديث عرض الحائط حين يتعارض مع مصالحهم. يرفضون أن يكون الاعتداء على الطبيعة ذا كلفة منضمة في أكلاف الإنتاج. وضرورة أن تحسم هذه الكلفة من الأرباح الطبيعية بنظرهم معطى؛ المعطى يتعرّض لتعديات الإنسان، وليس أمراً يخضع للعلاقات البشرية، علاقات الإنتاج التي يسيطرون عليها هم.

ما من دولة طبيعية وأخرى غير طبيعية. كل الدول غير طبيعية. كل الدول يصنعها الانسان. الفرق كبير بين أمة يصنعها الإنسان وأمة تصنع الانسان. في الحالتين يكمن الفرق في اعتبار الإنسان لنفسه وعلاقته بالدولة أو بالأمة. يسوس الاستبداد وصولاً الى الفاشية في الخيار المأخوذ واعتبار أن الدولة أو الأمة يصنعها الإنسان. تكون الديمقراطية احتمالاً وازناً عندما يعتقد أهل البلد أنهم هم الذين صنعوا البلد والأمة. تتعرّض الديمقراطية للانهيار عندما يعتقد سكان البلد أنهم معطيات انبثقت من الدولة الأمة، وأنهم أي الناس أدوات تسيّرها مقولات شبه سماوية، وأنهم يسيرون ويسلكون بموجب ما قُدّر لهم. وما يُقدّر لهم هو في الحقيقة ما يقرره زعماء وقيادات الدولة أو الأمة.

يفعل الخضر شيئاً شبيهاً عندما يعتبرون الطبيعة شيئاً لا يمسّ، بينما في الحقيقة أن امتداد العمران والمصالح العقارية هي التي تقرر الى أي مدى يحصل التلاعب بالطبيعة. اعتبار الطبيعة مجرّد معطى لا يجدر المس به إلا عند الضرورة، هو اعتبار يتجاهل أن المسّ بالطبيعة يحصل بقرارات من الطبقات العليا. احتجاجاتهم ضد هذه الطبقات ضعيفة ومتقطعة وآنية. ويكاد يتجاهل الفاعل في معظم الأحيان. تجاهل العلاقات الاجتماعية وسيطرة طبقات عليا بعينها هو ما يجعل العلاقات الاجتماعية قيد التجاهل. ضعف حركات الخضر نابع من كونهم احتجاجا مع الطبيعة وليس مع العلاقات البشرية التي يمكن أن يؤدي تغييرها الى ما يقود لتأثير مفيد على الطبيعة. لا بدّ من العمران وتوسّع البناء العقاري مع زيادة عدد البشر. لكن الفرق أن يكون الأمر مخططا لصالح الربح أو لصالح الإنسان.

في عصر النيوليبرالية وسيطرة الرأسمال المالي يهملون كل ذلك. المال خالق آخر يفرض ضرورات أشبه بالقوانين العلمية. الدافع الوحيد فيها هو الربح على حساب المستقبل البشري. تسعى النيوليبرالية الى تقليص الدولة. تقليصها فيما يتعلّق بإدارة شؤون المجتمع. تقليص إرادة الناس في إدارة شؤونهم. المال وحده يحكم (أصحابه الكبار بالطبع) والربح المؤدي الى تراكم الثروات لديهم هو الدافع الوحيد. مسموح للقطاع الخاص أن يربح. ممنوع على الدولة أن تربح. القطاع العام، كما يدّعون، مدير أو تاجر سيّء. والقطاع الخاص تاجر جيّد بدليل تراكم الثروات، حتى عند كبار أصحاب المال على حساب المجتمع والمنتجين.

ألهة جديدة للأمة والطبيعة. استسلام لها. هذا ما تٌعلّمنا اياه النيوليبرالية. تجري تربية الأجيال الجديدة على ذلك. ضعفت التنظيمات الاجتماعية. ضعفت حركات الاحتجاج ضد الرأسمالية الكبرى. غياب النقابات العمالية، أو عدم الاكتراث لها عندما يتم التحرّك في الشارع، كل ذلك جزء من الهزء بالانسان  والسخرية منه، بتقدير “موضوعي” لقواه الاحتجاجية. يضحكون من الإنسان بكل سخرية على اعتبار أن لا مهمة له إلا العمل لإنتاج الثروة ليملكها غيره؛ أما حياته اليومية والكاملة فهي الى الجحيم. وما خلقوا إلا ليعبدوا إله المال. الدين يؤبّد الرأسمال المالي. وهذا من طبيعة الأمور. ويؤدلج له.

تخلق النيوليبرالية الفاشيات الجديدة، وتثيرها ضد الدولة. الليبرالية الاجتماعية تأخذ حذرها قليلاً بما يتعلّق بالطبيعة، لكنها تُجهّل الفاعل. تضع الإنسان في موقف المتهم. تريد السيطرة على الأدلة لكي تغيّر دورها ليعلو شأن الأمة الميتافيزيقية على الانسان وحياته اليومية. الرأسمال الكبير ليس متهماً، كي يبدو الخضر وحركاتهم بلهاء. الفاشية استسلام جماعي لإرادة غير الإنسان. تبرع النيوليبرالية ومثقفوها وإعلاميوها في التبرير لذلك. التعمية تسود الموقف. المهجرون والإرهاب: عصا طويلة تستخدم كي ينخرط الناس في الأمة المتعالية المتسامية، وكي يتجاهل الناس المآسي الكبرى الناتجة عن انتهاك الطبيعة.

دمّروا فكرة التقدم. لا تقدم إلا لصالح الربح وتراكم الثروات. أما التقدم المبرمج لصالح الإنسان، وعن طريق اجتماع البشر في الدولة، فالى الجحيم. الدولة إما أن تكون أداة بيدهم أو لا تكون، هذا هو حظ العرب. الإنسان لا يُعتدّ به. هو موجود أصلاً وبنظرهم من أجل الإنتاج، وليقتطعها أرباب الاستثمارات. الإنسان وسيلة لا هدف. وسيلة لتراكم الثروات. ليس هدفاً من أجل حياة سوية.

هو استبداد من نوع آخر. ليس الطاغية الجلف بل الرأسمال الذكي. إخضاع الإنسان لمتطلبات غيره، بل لأوامر هذا الغير، هو الاستبداد الأشد والأدهى. استبداد يأخذ الإنسان باتجاه كوارث أكثر خطراً على مصير البشرية. لا تأبه النيوليبرالية (الرأسمال الكبير) لذلك إلا كذباً ونفاقاً. إيهام الناس عن طريق ديمقراطية عدد الأصوات أنهم هم أرادوا ذلك. طغاتنا، نحن العرب، صاروا جزءاً من الطغيان العالمي الذي أحدثته النيوليبرالية بعنوان العولمة. هم يتخلون عن ذلك الآن، لصالح ما يُسمى الأمم. يستسلم الإنسان لا كأفراد بل كأمم-دول كما يبرمج لهم. أمم-أدوات تسير في طريق النيوليبرالية وتعتقد في الوقت نفسه أنها تعبّر عن إرادتها. إرادة مصنوعة لغير صالحها. وهي لا تدري. وإن كانت تدري فالمصيبة أعظم.

ازدهر الاستبداد في بلادنا منذ صعود النيوليبرالية. ولم يلبث أن أحرز انتصارات في الانتخابات الأوروبية لكل دولة وللبرلمان الأوروبي. في حين تزامنت الليبرالية مع الديمقراطية، تعقد النيوليبرالية صفقات عديدة مع الطغاة حول العالم، المنتخبون منهم وغير المنتخبين، من آل سعود، وسوريا الى الهند والفيليبين والبرازيل وغيرها. عندما بشّر أحدهم بظهور التعددية الديمقراطية بعد سقوط جدار برلين، وبرّر هنتنغتون حرب الثقافات، كان المعنى أن الديمقراطية ستنتصر ويأتي منها اليمين المتطرّف (الفاشية)، وسوف يؤدي صراع الثقافات الى صراع الأمم. نظام عالمي جديد يدار في دافوس. تقرر الأمم السياسات لا الأفراد. النيوليبرالية على الجماعات أكثر مما على الأفراد. الرأسمال المالي الكبير يعقد صفقات بالجملة لا بالمفرّق.

ليست النيوليبرالية امتدادا لليبرالية بل نقيضاً لها. الليبرالية تعترف بالضرر والمجتمع والتعددية وتعاظم دور الدولة في المجتمع والتلاؤم بين فئات الشعب والسياسة، والوصول الى

“الهارموني” عن طريق الحوار والسياسة والديبلوماسية والصالح العام في الدولة. وتخضع لمقتضيات المنظمات الدولية، مثل الاتحاد الأوروبي؛ في حين أن النيوليبرالية تضرب عرض الحائط بكل ذلك ولا تعترف إلا بالأمم والقوميات والفروق في المجتمع ورفض الغرباء، وإقصاء المهاجرين، وسياسة العالم عن طريق الأمر لا الديبلوماسية.

النيوليبرالية هي تعبير عن وصول الليبرالية للقمة مما أدى بها الى كشف القناع ليرى الجميع أن حقيقة الرأسمالية الكبرى (المالية) هي غير ما كانت تدّعيه يوم كان الصراع محتدما مع الاتحاد السوفياتي. تنبّأ أحدهم بسقوط الليبرالية مع حائط برلين. تبنت الرأسمالية الكبرى النيوليبرالية كايديولوجيا لها، وتضامنت معها جحافل المثقفين والبيروقراطيين في العالم. لم يعد بلد من العالم الثالث بحاجة الى تراكم سياسي نخبوي. هو بحاجة الى ديكتاتور عادل يدير الأمور ويأخذ القرارات ولا يضيّع وقته في النقاش بين النواب. مع ازدهار النيوليبرالية ازدهر عهد الطغاة في العالم الثالث. فتحوا الأبواب لها، وجبوا ثروات طائلة لقاء الخدمات التي قدّموها. وتخلوا عن شعار الأمة عن طريق التحرر والتنمية المحلية والاتكال على الذات. وصار كل بلد يعتمد على الخدمات من دون صناعات وزراعات تُذكر. وكثر الدين بشكل مقصود. تكاثر الديْن على هذه البلدان وغرقت في التبعية من جديد. هذا هو جوهر أسلوب الإنتاج الكولونيالي. بلد مستقل يدير شؤونه الاقتصادية والاجتماعية (والعسكرية والسياسية) كأنه مستعمرة.

استبداد جديد من نوع حديث. لا لحداثة صنعها الإنسان، بل لحداثة تنمّ عنها واجهة المحلات والسيارات وسلوك النساء والرجال. استبداد دعمه الدين السياسي واعتبره ازدهاراً. صار الدين يقدم في المشرق العربي غير ما تتطلبه الوهابية في الجزيرة العربية. كل منهما وجد تبريراً لنفسه. الدين حمّال أوجه. الخلافات بين القاعدة وداعش من جهة وأنظمة الاستبداد هي صراعات تنمّ عن مستوى الخطوات التي بلغها كل قطر. تتحالف واحدة من أخوات داعش والقاعدة. لم يكن خلافاً حول السلف الصالح والتقليد والحداثة، بل خلاف حول مراحل تطوّر كل من الفرق المتطرفة. هذا التطرّف ضروري كما في الغرب. يجدر أن يصدّر الإرهاب والهجرة من هذه المنطقة وأمثالها الى الغرب كي يخاف هذا الغرب ويلبّي الحاجة الى ديمقراطية الخوف واليمين والمتطرّف والفاشية. جميعهم مهما اختلفوا وقاتلوا بعضهم يخدمون النظام العالمي نفسه، الذي يحكمه فعلاً الرأسمال الكبير المالي. جميعهم يخضعون للهدف الذي خلقوا من أجله وهو عبادة المال. عبادة الله وعبادة المال وجهان لعملة واحدة. إله جديد على الأرض يستعيض عن الكتب المقدسة بحاملات الطائرات؛ بالأحرى يستعمل تلك في خدمة هذه. اليوخارسيت والنفط يغذون الجسد الجديد. النفط يلزمه وهابية فلتكن هي الدين الذي يخدم اليوخارسيت خضوعاً لمن يسيطر على هبة الله لأهل الأرض وهي النفط والغاز ومشتقاتهما.

أزعجتهم ثورة 2011 العربية فاصطنعوا ايران عدواً. استخدموا أذنابهم للتحضير للحرب. شنوا حرباً على البحرين. شنوا حربا أخرى لتدمير اليمن وهذا هو الأهم. اليمن تهديد لهذا النظام أكثر من ايران. الوضع لا يختلف في أقطار الوطن العربي الأخرى. لكل قطر حربه الأهلية.

تراجعت أنظمة الاستقلال وحروب التحرير الشعبية الى التّبعية؛ وقعت مرة أخرى تحت سلطة الامبريالية. جاء الجيل الثاني بعد المحررين بالخصيان. لم يعد بلد أي منهم محكوما بقوة أجنبية واحدة. صار مرتعاً لعدة قوى.

رفعت النيوليبرالية رداءها. لايوجد تحته ديمقراطية ليبرالية. بل رأسمالية بأبشع أشكالها. سقط الاتحاد السوفياتي. جاء بوتين بتفوّق العرق الأبيض. تلعثمت أوروبا بتعدديتها. بعث إليها الأميركيون (والروس) ستيف بانون وجماعته لترتيب بيت الرجل الأبيض. حارت الهند فكان القرار بعودة مودي ليقضي على كل الأقليات. آسيا تضطر للتخلي عن الأقليات. يبقى هذا البحر المتوسط. جنوبه صحراء، ليس فيها إلا الصحراء والأنهار الكبرى. الأنهار الكبرى تتبع بلدان المنبع. والصحراء تصير مجدبة أكثر. لا تتسع للسكان. يزولون. يبقى هذا القرآن. يقرأ فيه عدد من سكان البشرية الذين يتجاوز عددهم العرب بأربعة أضعاف. هم يقرأون الكتاب بلغة مترجمة. لم يبق من اللغة العربية سوى شبح شبيه بالسريانية، التي تكاد تزول.