27
Sep
2019
0

الحرية ١١ – دين مدني، مجتمع مدني، دولة مدنية

الدين فطرة.الوهم فطرة. الوهم سبق الحقيقة في الوجود. نخرج من الوهم الى الحقيقة، تدريجياً ونسبياً. الحقيقة نسبية. إذا كان الدين يدعي الحقيقة لأي موجود فيزيائي أو ميتافيزيائي، فهذا وهم. كل الموجودات هي، في الزمان والمكان، إذن نسبية. تأسس الدين في عصر الأوهام. يعاصر الآن عصر اكتشاف الحقائق. يتناقض مع الحقائق. صراع عنيف. نمر بمرحلة يتفوّق فيها الدين على الحقائق. هو في الآن نفسه انتشار التطرّف الديني، بالأحرى انتشار الفاشية والعنصرية والأصولية. في كل منها تدعي الأنا لنفسها حقيقة مطلقة غير مسبوقة. تتفوّق الذات على الموضوع. الصورة الذهنية ذات أولوية على الواقع. تتعالى الصورة الذهنية. تتعالى الذات. تنذوي الوقائع الموضوعية. تذوي الحقائق. الدين أوهام. حقائق موهومة. يستنبطها سدنة الهيكل من مبادىء أساسية لا برهان عليها ولم تُستخرج بالتجربة من الوقائع ولا بالاستقراء من ملاحظة الوقائع. الدين استنباط مما في النفس من مبادىء هي في الغالب أوهام.

عندما يتشكّل المجتمع من طوائف، فإنه يتشكّل من أوهام. الطائفة غير الدين، لكنها نابعة من الدين. تصادرك الطائفة من الدين عند الولادة. تسلمك للدولة بالأحرى للسطة. تولد دون حرية. بالطائفة تستمر بعدم القابلية للحرية. كيف تكون حراً وأنت أسيراً مصادراً؟ الدولة اطار ناظم للمجتمع. النظام هو السلطة في المجتمع وعلى المجتمع. عندما ينادي الناس، كما في كثير من البلدان العربية بإسقاط النظام، فهم لا يفعلون ذلك لإلغاء الدولة. يعرفون معنى الدولة.

الدولة هي المجتمع في تجريده. الدولة الفاشلة هي في حقيقة الأمر مجتمع فاشل. المجتمع المكوّن من طوائف؛ يتآكل المجتمع (الدولة) بتأثير الطائفية. الطوائف وحوش كاسرة عندما يتعلّق الأمر بالدولة. تعتبر الطوائف الدولة سلطة. كل طائفة تحاول أخذ حصة من السلطة ومرافقها. فكأنها مجموعة غنائم. يسود السلب والاستلاب. تتحوّل الطائفة الى قبيلة أو ما يشبه القبيلة. يتراجع الدين أمام القبيلة كأساس للطائفة. يصير الدين مجرد طقوس مكرسة للطائفة. تحل الطائفة ومن يملكها محل الألهة. تعدد الأديان يؤدي الى تعدد الألهة أو تعدد التصورات حول الإله. نوع من الوثنية. يتراجع الإله الواحد المطلق في المخيلة أمام أوثان الطوائف.

لا يستقيم أمر الطائفة إلا بمصادرة الناس منذ ولادتهم. حين يعطون أوراق الولادة. يسجلون كأبناء الطائفة الى جانب كونهم مواطنين. تفقد المواطنية معناها، بالتالي تفقد الدولة معناها عندما تكون الطائفة شرطاً عليها. الدولة بالتعريف شرط لما عداها، ولا شرط عليها. الدولة هي أيضاً إرادة العيش معاً، لا التعايش أو العيش المشترك بين الطوائف. هي إرادة العيش معاً كمواطنين حيث تكون أولوية الولاء للدولة لا الطائفة. في الدين المدني يكون الولاء الأول والمطلق للدولة. هناك ولاءات ثانوية مثل الطائفة أو النقابة أو المدينة أو العشيرة. يمكن للمجتمع ذي دين مدني أن يكون أكثر تديناً من مجتمع الطوائف. لكن القدسية العليا في الدين المدني هي للدولة، للمواطنية، لإرادة العيش سوية. تسلب الدولة من الطائفة القدسية كما الأولوية.

الله الواحد مطلق، ليس بحاجة الى برهان. الايمان توق عند الإنسان للاتصال بالله، إذا أمكن ذلك. محاولة البرهان على وجود الله أو عدم وجوده بؤس في التفكير. الطائفة جماعة دينية تجعل الأولوية لا للايمان بل للعقيدة؛ محاولة إثبات وجود الله وما يترتب على ذلك من عقائد وطقوس. العقائد والطقوس محاولة بائسة لإثبات ايمان بالله الذي لا يحتاج الى عقائد وطقوس. الانسان يحتاج للإيمان. هذه مسألة روحية بسيكولوجية. موقع الايمان هو الفرد. موقع العقائد والطقوس هو الجماعة. أما الطقوس فهي حركات جسدية تهدف لإقناع الخالق بأن من يصلي له يقوم بدوره لإرضاء الخالق ثم للخلاص. نصحّ من هذه الطقوس عندما نعقد النية سلفاً على العبادة؛ عقد النية وحده دليل الإيمان. ما تبقى من الطقوس هو برهان للجماعة على أن الفرد يفعل كما يفعلون؛ إذن فهو في عداد الجماعة. الخلاص في الأديان السماوية (وما شابهها) يعتمد على الطقوس. فكأن الله يحمل كمبيوتر لتعداد أعمال كل بشري ومحاسبته بعد الممات. ينسى هؤلاء أن للنية (الايمان) دوراً أكبر، وهذا لا يحتاج الى كومبيوتر. ليس له حساب مقاس.

يفتقد الدين الخلاصي الذي يعتمد أصحابه على الطقوس فقط دون الايمان الى الأخلاق. عندما لا توجد النية فمعنى ذلك أن إقامة الطقوس مناورة على الله، ومعنى ذلك أيضاً مناورة على الضمير البشري. كل فعل يتناقض مع متطلبات الضمير البشري الفردي ( موضع الايمان) هو احتيال على العقل ومناقض للأخلاق.

في الدين المدني ممكن أن ينتمي الفرد الى طائفة لكن ما يقرر انتماءه الطائفي هو الفرد لا الجماعة. والطائفة جماعة مجتمعية لها دور ثانوي، ليس موازياً للدولة بل خاضعاً لها. في هذه الحالة تختار الدولة موظفيها دون اعتبار للطائفة بل للكفاءة الفردية والانتماء للدولة. بالطبع هذا تصوّر عن الباراديام، يمكن أن يُتهم بالمثالية. ربما كان معظمه أوهام. لكن البارادايم هنا يختلف عن الباراديام الطائفي حيث الانتماء للطائفة أولاً، وللدولة ثانياً أو ثالثاً أو عاشراً.

بهذا المعنى يكون فك الارتباط بين الدين والمجتمع. لا يعني ذلك إلغاء الدين. برهنت التجربة أن ذلك غير ممكن وغير مطلوب. كل ما يجري تأكيده هو أولوية الانتماء للدولة على الطائفة وعلى كل وسيط آخر بين الدولة والفرد. يعني ذلك إزاحة البارادايم الديني عن المجتمع كي يتحرر العقل ويصير الخلاص أمراً دنيوياً لا آخروياً. وتصير أمور الدنيا ذات حساب في التفكير حول السماء، وتصير المعرفة العلمية توقاً دائماً للخروج من اعتبار المعرفة الدينية هي كل شيء، ويصير الخلاص مربوطاً بالدنيا قبل السماء.

الدين المدني يعني فصل الدين عن المجتمع لا إلغاء الدين؛ لا يمكن إلغاؤه أصلاً. يعني أيضاً تحرير المجتمع من الطائفية؛ هذه أصلها العقائد والطقوس لا الايمان. أسوأ الطائفيين في كل الطوائف لا يؤمنون. الايمان المجرد يحتمل العقائد والطقوس، إلا إذا كان المقصود تشكيل الطوائف. وهذه مؤداها حروب أهلية متواصلة. الايمان لا يحتاج الى طائفة. لا يحتاج الى دين جماعي. يحتاج فقط الى ضمير فردي. موقع الإيمان هو الضمير لا الجماعة. الطائفة تضع شرطاً على الدولة، تلغيها بجعل الطائفة وسيلة أو واسطة بين الدولة والفرد. إذا أريد حرية دينية فإنها تتحقق لا بالدين الطائفي بل بالدين الفردي. الحرية تكون بالايمان لا بالعقائد والطقوس. الحرية حالة نفسية متحررة من ضغط وإرهاب المجتمع المتشكل من طوائف. الطائفة تصادر أفرادها. تقيدهم وتلغي حريتهم. الطائفية بعد الاستعمار وسيلة لإبقاء الاستعمار والهيمنة في بلادنا.

لا تكون الدولة مدنية إلا بمجتمع مدني. وهذا لا يكون مدنياً إلا بدين مدني. معنى أن تكون مدنياً هو أن يكون الخيار للناس. وأن يكون الخيار فردياً. وأن يكون تأثير الجماعة الدينية على أعضائها ثانوياً بالنسبة للانتماء للجماعة الكبرى (الدولة). استخدم تعبير “المجتمع المدني” في السابق، ومنذ أكثر من مئتي عام للتمييز عن المجتمع الخاضع لقدسية الملكية أو الدين أو حتى العسكر. هو مجتمع فاقد القدسيات إلا على المستوى الفردي. يخضع الدين فيه لرغبات وميول وتيارات يشكلها الناس؛ وهذا أكثر ما يكون في البروتستانتية التي هي متعددة المذاهب أكثر من أي دين آخر؛ وقبل ذلك في الوثنية المتعددة الآلهة والأديان والخيارات البشرية بينها.

المجتمع المدني هو حين يكون الله تعبيراً عن الجماعة. لا يكون الناس تعبيراً عن الله؛ يكون الله على صورة الانسان لا الانسان على صورة الله. في الدين المدني طقوس وعبادات، وخضوع لله والمقدسات، لكن كل ذلك يخضع للخيارات البشرية؛ يستطيع المرء أن ينتقل من دين الى دين ومن مذهب الى مذهب بقرار يتخذه هو؛ والمجتمع يعتبر ذلك أمراً طبيعيا. ليس فقط مسموحاً بل ضرورياً عندما تتغيّر الاقتناعات. تتنافس المذاهب لكسب تأييد المنتسبين كما تتنافس الأحزاب السياسية. هي السياسة زائد المقدس. المقدس يأتي بعد السياسة، أو بعد الخيار السياسي.

في المجتمع المدني حرية الدين والمعتقد كاملة، مهما بلغ التعصّب الديني. وهل يمكن أن لا يكون هناك تعصّب حيث الدين والاعتقاد بالله يحمّل أتباعه الحقيقة كاملة؟ لكن المجتمع المدني سياسي بالدرجة الأولى. يقلد الدين فيه السياسة وليس العكس. حتى المنظمات التبشيرية، التي منها ما يعتقد بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، هي أشبه بأحزاب سياسية متنافسة. يتدخلون في السياسة على أساس ديني. لكن الغاية سياسية والوسائل سياسية. ايمان عميق وربما غير ذلك. وعقيدة تتبدل كما في السياسة. يغيّر المرء مذهبه في السياسة والدين كما يغيّر رداءه. لا تصادره الطائفة. لا ينغلق على نفسه في مذهب. الدين مطروح في الساحة العامة والمجال العام. كل شيء قابل للتبادل والتداول. المقدسات موجودة لكنها فاقدة السيطرة. الانسان يصنع مقدساته. يخضع أو لا يخضع لها متى شاء. الحرية تعبّر عن نفسها بأشكال شتى في هذا المجتمع. لكنها حرية نابعة من الضمير الفردي. ولا حرية إلا في الضمير الفردي.

حرية نابعة من مركزية الانسان في هذا الكون. الحداثة بدأت مع مركزية الأنسان، ومركزية العقل، ومركزية الضمير. جاءت ما بعد الحداثة لتدمير ذلك. جاءت ما بعد الحداثة مناسبة للنيوليبرالية. عاد معهما التعصب والتطرّف حول العالم. تطل العنصرية من جديد، وهي الاعتقاد لدى جماعة ما أنها بسبب لون البشرة أو الإثنية (أصل واحد) أو المذهب الديني تقبض على الحقيقة دون الآخرين. الجماعة المؤمنة (المعتقدة) هي جماعة الله والآخرون جماعة الشيطان. الآخرون مدانون بالتكفير والظلامية والإرهاب. يستحقون القتل دون أي اعتبار للقانون أو حقوق الإنسان. جماعة مسكونة بالرعب من الآخرين. تخاف على نفسها من غضب الله، كما تخاف على نفسها من الآخرين وإرهاب الشيطان. الذين يدانون بالكفر هم أنفسهم الذين يدانون بالإرهاب. كيف لا وهم ضالون غائبون عن الحقيقة؟

المجتمع المدني ذاته تغيّر في زمن النيوليبرالية. صار بحاجة الى آخرين مشيطنين إرهابيين. تُطبّق عليهم العقوبات عشوائياً. جماعة الله وقمة الاقتصاد الرأسمالي يعتبرون أنفسهم استثنائيين في عالم مليء بالخطايا. تقفل النيوليبرالية المجال على نفسها. لا يكفيها الدين المتحوّل عن المدني. تستخدم العنصرية كسلاح ايديولوجي آخر، والإرهاب لممارسة العقوبات على الآخرين. هي تمتلك المال والحقيقة. إذن هي تقرر القانون الدولي. تملك القوة العسكرية الأميركية التي تبلغ ميزانيتها العسكرية ضعف بقية العالم. تملك أكثر من ألف قاعدة عسكرية حول العالم. هجومها على الحرية مشهود. تتعاون مع كل الديكتاتوريات في العالم. قانونها الدولي يمثله الطغاة القابعون فوق البشر. البشر أدوات للقوة العليا. كما هم أدوات لكهنة الهيكل في الأديان الخلاصية، وغير الخلاصية.

إمكانية الحرية تتحقق في دولة مدنية. وهذه في مجتمع مدني. وهذا في دين مدني. تتحقق الحرية، وهي حالة نفسية داخل الضمير، عندما تفك القيود من حولها. يناضل الانسان من أجل فك القيود، ومن أجل أن يصير الفرد مواطناً.