25
Oct
2019
2

الحرية ١٥ – لبنان: استعادة الثقة بالذات

انتصر اللبنانيون على أنفسهم. بعد أكثر من عام على انتخابات نيابية شاركوا فيها بحماس كعادتهم. انفجروا بركانا ثوريا فاجأ الجميع، بما فيه هم أنفسهم. فجأة تحولوا عن غرائزهم الطائفية، ولو جزئياً، وعن انقيادهم لأكباش الطوائف وزعماء طبقة سياسية بالغي التفاهة والفساد والعبثية والاستهتار بمشاعر الناس وحاجاتهم. قرر اللبنانيون فجأة في مساء الخميس 17/10/2019، فيما يشبه الاجماع، أن الطبقة السياسية برمتها يجب أن تسقط، وأن النظام يجب أن يتحرر من الفساد، وأن الأموال المنهوبة يجب أن تسترد. قبل ذلك كانوا يعتبرون أن النظام اللبناني غير قابل للتغيير، وأن هناك استثنائية لبنانية تجعل النظام (نظام الحكم) بغير حاجة الى دولة، بل يكفي تحالف الطوائف أو ما يسمى مكونات النظام الطائفية. كان القول أن لا وجود للدولة ليس توصيفياً للأوضاع، بل كان أشبه ما يكون إقرارا أنهم ليسوا بحاجة الى دولة، وليسوا بحاجة لأن يكونوا مواطنين وأن لبنان تحميه قوى خفية، وأنه بلد الاستثنائية بتركيبته الاجتماعية الطائفية، بل ربما اعتبروا أن الطائفية وتوازن القوى يحميان ديمقراطيته وحرياته، وأنهم لا يجب أن يتدخلوا في الأمر، وعليهم أن يبقوا رعايا الطوائف وأكباش الطوائف. كان نصيبهم المهانة ليس طغيان الديكتاتور، كما في أقطار عربية أخرى، بل طغيان الطائفية وأوساخها. كانت الطائفية تدمر فكرة الدولة وتعلو عليها، وكانت الكرامة الوطنية مفقودة، وكان كل فريق طائفي يبرّئ نفسه منها باتهام الآخرين بها. وكانوا يبررون تدبير المكائد للطوائف الأخرى. كل طائفة كانت تعتبر الدولة مجرد غنائم حرب أو مؤامرات تحاك.

فجأة علت فكرة الدولة على الطائفة. في مساء ذلك اليوم تجمعوا في الساحات والميادين، واختلطوا، وتعاونوا. صاروا وكأنهم ملائكة الوطنية والسياسة والنقاش والحوار في المجال العام. اشتدت أواصر هويتهم الوطنية وتراجعت أمام الهوية الطائفية. انبهروا بأنفسهم. فجأة صارت الحرية تنبع من داخل كل منهم. حدث انقلاب في باطن الذات. غلب الباطن على الظاهر. لم تعد المسألة مجرد حرية أنفسهم يساهمون في كبته. سقطت خرافة الاستثنائية اللبنانية. هم أنفسهم يصنعون أنفسهم. الثورة أن يصنعوا أنفسهم. أتباع الأحزاب شاركوا في الميادين رغماً عن أكباش الطوائف. أبناء الكوادر الحزبية شاركوا في الميادين. وكانوا يقولون غير ما أراد أباؤهم. لم يجرؤ أحد من أهل السياسة التصدي لهم بالحجاج والمناقشة أو التصريحات. كل ما صدر عن هؤلاء بدا اعتذارياً.

خرجوا من ذل الطائفية ومهانتها الى حرية الطبقة وانفساح مجالها. خرجوا من أنفسهم أو أن ذاتهم خرجت منهم. خرجوا على استبداد الطائفة. وجدوا الحرية في الدولة وفي السياسة والنقاش الحر في المجال العام. سكنوا المجال العام يومياً كل ذلك بفرح ومرح عظيمين.

زلزال فجرته الأزمة. أزمة المهانة الطائفية، بل أيضاً أزمة البطالة وبرنامج الإفقار. أزمة النظام الذي بدا أنه لا يحتاج الى شعب، أو يحتاجه مرة كل أربع سنوات للادلاء بأصوات الاقتراع في الصناديق، التي يعرف اللبنانيون جميعاً أنه مهما كان قانون الاقتراع، إلا أن التلاعب بها يجري في كل دورة انتخابية؛ دلالة على أن أصواتهم، أصوات الناس لا قيمة لها ويغيرها النظام بالتزوير متى شاء.

زلزال فجرته أزمة اقتصادية، هي من صنع النظام والطبقة السياسية. أدرك الجميع أنهم مهما تعلموا وتخرجوا واكتسبوا مهارات يبقى المطلوب منهم التسكّع على أبواب أكباش الطوائف لنيل وظيفة. أدركوا أنهم يراد منهم أن يبقوا أتباعاً لا لزوم لهم إلا يوم التصويت، وأن ما يراد لهم هو في النهاية الهجرة. المهاجرون منهم، وهؤلاء كثر، شعروا أنهم طردوا من بلادهم فتظاهروا في مختلف أصقاع الأرض. بعضهم جاء من الجزيرة العربية، وبعضهم يهيّء نفسه للمجيء من أوروبا وأوستراليا للمشاركة في الميدان. لسان حالهم كالمقيمين مع جرح الطرد والإلغاء. مهانة البطالة، وهي تشكّل نسبة عالية فاحشة من اللبنانيين، خاصة الشباب منهم. لبنان الذي أحبوه لم يعد مركز إقامة بل مصدر تهجير وطرد. لم تعد الهجرة طوعية بل صارت قسرية. كل مطرود يشعر بالإهانة.

في أعماق الأزمة اكتشف اللبنانيون ذاتهم. اكتشفت الذات نفسها. انفجرت حريةً. قوة الزلزال تساوي عمق الأزمة. الشباب أكثر حركة لأنهم أكثر نشاطاً، وأقل تدجنا في النظام. كلما أمعن أهل النظام في التحريض الطائفي وسياسة الإفقار والتهجير والطرد من البلاد وافتعال الأزمة الاقتصادية والمعيشية وخدمات البنى التحتية من الكهرباء الى الماء الى النفايات، الخ…، كلما توغّل اللبنانيون في أعماق ذاتهم. اكتشفوا أن هذه الذات العميقة غير الذات التي تبدو على السطح. واكتشفوا أن الذات التي صنعها النظام كي يبدو على ما هو عليه هي غير الذات العميقة.

كنا في لبنان نعيش حالة من التحرر، وكنا مسرورين بذلك مقارنة بالأقطار العربية الأخرى. نحن الآن نعيش حالة من الحرية، حيث تعلو الذات فوق النفس، والنقاش فوق الأمر، وحيث الخيال فوق الواقع، وحيث التمنيات فوق الواقع، وحيث ما يجب أن يكون فوق ما هو كائن. وحيث القاع الإنساني فوق ما صنعه النظام، وحيث النظام يتهاوى أمام إصرار المواطنين، وحيث الرغبة في المواطنة فوق معطيات الجنسية،  وحيث  أن تكون لبنانياً هو فوق أية هوية أخرى. لا مفر عند ذلك من العروبة والإنسانية. ما يربط العروبة بالانسانية هو ما يربط كون الواحد منا لبنانيا بعروبته. لم تعد العروبة عقبة. العقبة الوحيدة والأساسية والنهائية هي الانتمائات الى غير الطبقة وغير الوجود الإنساني.

ما يمثل الوجود الإنساني هو هذا الجيل الجديد الذي لم يلطّخ بالعار بعد، وبقايا النظام القديم من الذين حفظوا تراث الحرية ولم ينجروا الى التبرير للتحرر وما جرّ من وراءه من ويلات الاستبداد. الحرية هي ما في النفس. التحرر هو اندراج النظام في منظومة دولية مع هذا الغرب أو ذاك ومع هذا الشرق أو ذاك، علماً بأنه لم يكن الفرق كبيراً بين الشرق والغرب إلا فيما هو على السطح. مآزق الديمقراطية الآن هو أنها تواجه الحرية. كنا على الدوام نظاماً ديمقراطياً ولم نكن مرة نظاماً للحرية. على كل حال ليس للحرية نظام. الحرية تستعصي على النظام. هي الذات المكبوتة التي لا تظهر إلا في انفجارات ضد النظام، وضد القسر والإكراه، وضد ما هو غير النفس الإنسانية. التحرر يعني الإفلات من ربقة استيلاء نظام على الآخر، مع بقاء النفوس مسجونة في أقفاص الايديولوجيا والتعبئة التوتاليتارية، والشعارات التي لا تحمل المعنى ذاته بالنسبة لمخترعيها وبالنسبة لمن يسيرون وراءها. ليس العيب في الشعارات. هو في السلطة التي تحدد الشعارات وتفرض على الناس أن ينضبطوا في اطارها؛ بالأحرى في اطار السياسات التي ترسمها أجهزة المخابرات والحكام.

ما يحدث في لبنان هو انتصار الذات العميقة على الذات المصطنعة. انتصار ما هو انساني في هويته على الهوية المصطنعة. كل الهويات مصطنعة بما فيها الدولة إلا الهوية الإنسانية الأصلية. اختار اللبنانيون هوية الدولة خلاصا من هويات الطوائف، رغبة منهم في جعل السياسة مجال الإنسانية وجعل الدولة لا سلطة فوق الناس بل هي الناس في مجموعهم. الناس في السياسة والحوار والنقاش؛ السياسة في استعلائها على الصراع على السلطة. لم تعرف أجيال الطائفية في لبنان من السياسة إلا وجه الصراع على السلطة؛ صراع الطوائف التي تعتبر كل منها الطائفة الأخرى مؤامرة، والتي تعتبر كل منها الدولة مجالا للغنائم وحسب. لم يشهد لبنان في السابق، وفي أية مرحلة سابقة، طبقة سياسية تعتبر الدولة غنيمة كما هو الأمر الآن.

يثأر اللبنانيون لكرامتهم لأنهم يعتبرون أنفسهم غير غنائم لهذا النظام أو ذاك، لهذه السلطة أو تلك؛ لأنهم يعتبرون أنفسهم، أو يحبون ويريدون أن يعتبروا أنفسهم، شركاء في الدولة وفي النظام، ولأنهم يعتبرون أن الشراكة، الفردية بالدرجة الأولى، والنهائية في النظام، هي الدولة. الدولة هي تلك الشراكة التي يكون فيها الفرد مواطناً لا تابعاً ولا عضواً في طائفة، ولا اسماً قيمته لا تتعدى سجل النفوس. لا ننسى أننا نسجّل في الطوائف قبل وحين أن نولد.

الذي يجري في لبنان ليس حديث العهد. هو ثأر من حداثة مختلة تبقي حزازات النفوس كما هي. ما يغضب النظام أن الحزازات في لحظة تجلي، أو لحظة تخلي بالنسبة له، اختفت. ما يتمناه المرء أن تستمر لحظة التجلي وتشكّل تاريخاً جديداً.

استعاد لبنان ذاته، استعاد عروبته. أثر ما جرى في لبنان على عرب المشرق لن يكون قليلاً. ها هو العراق يستفيد من تجربة لبنان، وسيكون هناك اصطفاف للناس ضد السلطة. ما حدث في لبنان أكبر من حجم لبنان بكثير. هو حدث عربي من الطراز الأوّل. عدنا نموذجاً يُحتذى. تجربة فذة فريدة تستحق التقليد. تجربة فذة ليس لأنها استثنائية تريد الانعزال، بل هي فريدة فذة لأن ما يجري يستحق التقليد والاحتذاء. فرادة الحدث اللبناني تنم عن كثافة يصعب تكرارها، وعن سياق لم يسبق أن وقع في لبنان، لكنه مثال يحتذى.

هي حركة شباب منذ البداية. هم الأقدر على الحركة. هم الأقل تدجيناً لدى النظام. هم الذين لديهم الفجوة متوسعة بين الإمكانات وما يمكن أن يتحقق. لقد أصابهم اليأس قبل أن يختموا دراستهم ويخرجوا الى الحياة. يعرفون أن مآسي الحياة التي يفرضها النظام ستجابههم حالما يخرجون الى الحياة العامة. أصابتهم الخيبة قبل الأمل بحياة جديدة منتجة. جيل جديد. لكنه جيل الخيبة المبكرة. من حسن الحظ أن هؤلاء لا يتعبون بسرعة. عليهم المثابرة في سيرورة تغيير النظام.