25
Sep
2020
0

بيع فلسطين دون مقابل

فلسطين في الوجدان العربي (الشعور) غير فلسطين في الوعي العربي (العقل). فلسطين في الوجدان العربي كم ثابت، مقولة لا تزيد ولا تنقص. ربما تزيد لكنها لا تنقص عن حد معيّن. النقصان عن حد معيّن يعتبر خيانة. يعرف العرب معنى الخيانة والانتماء العربي. يعرفون من باع وتاجر بقضية فلسطين. يعرفون من حاول التلاعب بمشاعرهم ( وجدانهم) دون جدوى. فلسطين في وجدانهم كم لا يتغيّر. البؤس العربي لا يغيّر ذلك، ولا يؤثر في ذلك حال النهوض. في حال البؤس، كما عليه نحن الآن، تُستغل القضية من قبل أناس من الخارج. في حال النهوض، يستحيل ذلك إذ يكون العرب هم الذي يتولون القضية. في الوجدان العربي فلسطين ليست قضية للأخذ والرد. بل هي أمر محسوم: فلسطين عربية وستبقى كذلك. هذا الأمر لا يخضع لموازين القوى أو اعتبارات النصر والهزيمة.

في حالة النهوض العربي، فلسطين قضية وعي مضاف الى الوجدان. الوعي هو الظاهر. هو الذي يزيد أو ينقص. هو الذي يتوجب عليه التعامل بميزان القوى العربية والدولية واللإقليمية والعالمية. تقع المقاومة أو المقاومات في مجال الوعي، لذلك يصح الكلام فيها سلباً أو ايجاباً أو مزيجاً من الإثنين. في مجال الوجدان، لا يجوز النقاش. هي قضية وجود، يكون أو لا يكون.  هي مسألة وجود أو عدم. الوجود الصهيوني يخضع لشروط عربية. العدم الصهيوني يقررونه هم، اليهود. في حالة النهوض العربي تكون اسرائيل مهزومة. العرب أو المنتصر هو الذي يحدد الشروط المفروضة على المهزوم. ليس لدى قوى المقاومات العربية على أنواعها، السنية أو الشيعية، اليسارية أو اليمينية، الرسمية (الممانعة) أو غير الرسمية (حرب التحرير الشعبية) أي تمييز بين الوجدان والوعي؛ ليس لديهم أي برنامج يتناسب مع ظروف المجتمعات العربية. يكررون شعارات عفا عليها الزمان.

في الوجدان العربي اسرائيل دولة لا مكان لها. حالة إنكار تامة وثابتة. في الوعي العربي لا مكان للإنكار. واقعية الوجود الصهيوني تفرض نفسها. الواقعية العربية إما أن تكون إستسلامية كما حدث لبعض الدول العربية منذ كامب دايفيد حتى اليوم، وإما أن تكون طوباوية تقرر الأمور حسب موازين القوى حين تنهض المجتمعات العربية. وهي لا بدّ أن تنهض عاجلاً أم آجلاً.

 المهم أن الوعي العربي أرقى من حالة الإنكار لدى مقاومات تعتبر نفسها راهناً في حالة انتصار. هي تبني اعتبارات الانتصار على حالات جزئية.  هي أشبه بالابتزاز لمشاعر الأمة ووجدانها. وجدان الأمة الرافض رفضاً كلياً لوجود اسرائيل الصهيونية عاصٍ على الابتزاز. الوعي العربي يُبنى على الوقائع بغض النظر عن الوجدان. يقر بالهزيمة ويعمل للخروج منها. من لا يقيمون وزناً للتمييز بين الوجدان والوعي، ومن يدرجون أنفسهم في خانة المقاومة، يعتبرون النصر في أمر اليوم، وينكرون ميزان القوى، وينكرون الهزيمة، وينكرون الواقع. يجهلون مجتمعاتنا وجوانيتها.  لا يأبهون إلا لما لا يطفو على السطح. لا يدركون أن الانسان عميق الغور. لا يدركون أن ادعاءات النصر الملتبس مقطوعة الوشائج بشعوبنا ومجتمعاتنا. الاستسلاميون الذين لا يهمهم النصر أو الهزيمة، واللاهثون وراء إسرائيل هم أيضاً مقطوعو الوشائج بشعوبنا.

الوجدان في طبيعتنا وفي العناصر التي تتكوّن منها هويتنا. الوعي هو في صنع هذه الهوية، وفي صنع مستقبلنا معها. وجودنا البائس لا يتيح لنا صنع الهوية والمستقبل. هو ما تستفيد منه الدول المتصالحة أو المطبّعة مع اسرائيل. عندما يخرج وجودنا من بؤسه ويتحرر وعينا من الواقعية الاستسلامية، ستحال الأنظمة العربية المتصالحة والمطبعة مع اسرائيل الى مزبلة التاريخ.

الوعي السائد يقرر الوضع السائد. الظروف الموضوعية عامة خلقتها الأنظمة التي تقود الأمة ضد نفسها. منظومة لا تعرف شعبها، ولم تتغلغل يوما الى وجدانه. ولا تأبه لوجوده. ترى نفسها ضعيفة. تلجأ للاستبداد. تستعين بالقوى الأجنبية. تعتبر أن مجتمعها لا سبب لوجوده سوى الطاعة والاستسلام لها، فإذا استسلمت لإسرائيل، فإن شعبها (شعوبها) سوف تفعل الشيء نفسه، لكن بالقوة والقسر والإكراه. لا يستسلم الوجود ولا الوجدان. يستسلم الوعي. لا يستسلم المكبوت. يستسلم الظاهر. الوعي الذي يظهر سائداً هو وعي الأنظمة. الوجود والوجدان لا يظهران. يتلخّص البؤس العربي أن الموجود أو الوجدان، المعبر عنه، يعجز عن مصادرة الوعي. الوعي ملك الأنظمة وهي تمليه على مجتمعاتها. كثيراً ما لا يتطابق خطاب السلطة أو الوعي السائد الذي تنشره السلطة مع وجدان شعوبها؛ خاصة إذا كان ذلك يتطابق مع رغبات القوى الكبرى التي ترعاها. في وقت تخاف الأنظمة مما تبطنه شعوبها. أنظمة فاقدة السيادة الفعلية. تختار ما بين الامبريالية الأميركية التي تعتقد أنها تحميها، وبين ايران التي تعتقد أنها خطر عليها أو تهددها. اختارت الامبريالية الأميركية بكل صفاقة ووقاحة. أعلنت أنها لا يهمها وجدان شعوبها؛ هذا الوجدان الذي لم تعد تتعرف عليه. وإن كانت تريد أن تعرفه، فإن ثورة 2011 دلتها عليه.  أنظمة تريد الاحتماء من شعوبها، ولا بدّ لها من حماية خارجية من شعوبها  والشعوب العربية التي رفعت في ثورة 2011 شعار إسقاط النظام. إسقاط النظام العربي من المحيط الى الخليج. هي أنظمة في الأساس تخاف شعوبها، وتخاف من نفسها ان هي سايرت  هوى شعوبها، أو عبرت عنه. لا ننسى أن دول الخليج العربي قليلة السكان. ومهما كان هواهم، إلا أن العمالة الأجنبية أصبحت أكثرية السكان. الإكثار من العمالة الأجنبية هو أيضاً حماية من شعبها لدى أكثرية أجنبية تُعامل بما يشبه العبودية، ولا تبالي في وجودها الخليجي إلا بما يؤمن لها قوتها اليومي، وبعض المدخرات التي ترسلها الى عائلاتها ذات الفقر الشديد والقاطنة في آسيا.

هي أنظمة تخاف من مجتمعاتها العربية، ومن المجتمعات العربية كافة. بل هي على استعداد كامل للتخلي عن عروبتها في سبيل البقاء في السلطة. كما حولت السكان لديها بالقمع الى ما يشبه العبيد، وتمارس هي دور العبد لدى حماتها الامبرياليين واسرائيل من بينهم. فلسطين قضية عربية وهي تخيفهم، كما تخيفهم العروبة، لأن عروبة الشعوب العربية لا تؤكد نفسها إلا بالسير على طريق الحرية، نقيض الاستبداد الذي يتماهى مع كل نظام، قليل السكان أو كثيره، يخاف من شعبه. اخترعت هذه الأنظمة التي هي قليلة السكان، خلطة ديمغرافية، ركيزتها غير العرب. ذلك تحسباً لطوارئ تفرضها عروبة مجتمعاتها (والمجتمع العربي عامة).
الخطاب المعلن لهذه الأنظمة المعترفة بإسرائيل والمطبّعة معها هو أن ذلك يساهم في عملية السلام، أو أنه يؤمن العدالة للشعب الفلسطيني. لا ننسى أن السادات مهد لزيارة القدس قبل كامب دايفيد بالحديث المستمر عن السلام وعن حقوق الشعب الفلسطيني، واحتمى بالدجل حول الانتماء الإسلامي. دفع ثمن ذلك حياته، مع صعود الإسلام السلفي والدين المتطرّف، في مصر، الذي قتله في عام 1982. ومع إعلان الجامعة العربية في مؤتمرها عام 2002 القبول بمبدأ السلام مقابل الأرض، أمعنت اسرائيل بضم أرض الضفة ثم الجولان. كأن معنى السلام لدى اسرائيل هو السلام من جهة واحدة.  هو السلام بمعنى أن لا تشن حروباً ضد الدول العربية، وأن تحافظ الأنظمة العربية على السلطة، علماً بأن بقاء السلطة صار مقروناً بالقمع واضطهاد المجتمعات العربية. هو سلام مقرون بالذل وأخذ الصور مع الرئيس الأميركي في البيت الأبيض وتحت إبطه رئيس وزراء اسرائيل، وتحت قدمه زعيم الدولة العربية المعترفة باسرائيل.

السلام في المجتمعات العربية، بينها وبين أنفسها، مفقود. السلام داخل الذات العربية مفقود. الذات العربية أو ما يُسمى الهوية معرضة للفناء. ليس الفناء بالله على الطريقة الصوفية، بل الاندثار العربي مع بقاء اللغة كلغة القرآن، يقرأه معظم الشعوب الإسلامية ولا يفهمونه، لأنهم بالأساس لا يفهمون اللغة العربية. على كل حال، ميزة كل دين أن أتباعه لا يفهمونه، بل تفهمه نخبة من المثقفين ورجال الدين، والعامة أتباع، بحكم العصبية أو التعصّب.

يعتمد السلام، كي يكون حقيقياً أن يتم بين شعبين، بالأحرى دولتين. يعرف كل منهما ماذا يريد ويتمتع بنوع من الاستقرار ليعرف ماذا يريد. تفعل اسرائيل والامبريالية كل ما بوسعهما كي لا يكون هناك استقرار عربي.؛ وكل الدول غير العربية المساهمة في الحروب الأهلية العربية، كلها امبريالية. يتطلب السلام قبول كل شعب من الشعبين بما لديه. العرب يقبلون بأقل ما لديهم، وقد قبلوا بالفعل؛ اسرائيل لم تقبل غداة القمة العربية ومبادرتها عام 2002، حين أُطلقت مبادرة غير مسبوقة. شنت اسرائيل الحرب على العرب في اليوم الثاني. قتل الاسرائيليون قبل ذلك رئيسهم الذي وقّع في أوسلو. تعتمد اسرائيل على سياسة اخترعها الأميركيون، هي ما يُسمى “عملية السلام”، أي مفاوضات لا تنتهي في حين يمضي الاسرائيليون “المتطرفون” في قضم الأرض، وتمضي الدولة الاسرائيلية في ضمها. على الأقل تستطيع اسرائيل أن تحدد مجالها الجغرافي، حتى يعرف العرب والفلسطينيون ما هو الكيان الذي يتفاوضون معه وما هو السلام الذي يقرونه معه.

لقد قرر العرب مبدأ السلام ولم تقرر اسرائيل الرضى به. تعرف اسرائيل أن وجودها أمر صعب. يرفض العرب بوجدانهم وجودها. ربما رضوا بذلك في وعيهم. لم تفعل اسرائيل شيئاً إلا لتعميق الهوة بين وجدان العرب ووعيهم. يفترض بها أن تسترضيهم مقابل الأرض، لكنها لا تفعل إلا ما يستفزهم. تشارك اسرائيل الأنظمة العربية في قمع وذبح الشعوب العربية؛ وكأنهم متفقون على إذلال هذه المجتمعات. جعلت اسرائيل من نفسها “دولة عربية” في الاستبداد والقمع وارتكاب المذابح بحق المجتمعات العربية. كما الأنظمة العربية تحكم شعوبها بالارهاب والقمع، كذلك تفعل اسرائيل. أصبح الوجدان العربي يعتبر اسرائيل واحداً منهم. الأولويات كثيرة لدى هذا الوجدان: إسقاط النظام واحد منهم، إسقاط اسرائيل واحد منهم. لا نعرف إذا كان المقاومون لاسرائيل يريدون إسقاط نظامها أو إسقاط دولتها، أو إسقاط شعبها. ولا نعرف إذا كان المطبّعون مع اسرائيل يعترفون بها كما هي أو كما تريد هي أن تكون بغض النظر عن الكلام المبهم حول السلام. السؤال نفسه يوجّه الى المقاومين والممانعين. عدم الإيضاح سببه وضع العرب البائس. ووعيهم الأكثر بؤساً. سببه من طرف اسرائيل فائض قوة ليس معروفا الى متى يدوم.

حدث في التاريخ أن استنجد حكام عرب محليون بدول أجنبية من أجل الدعم في السلطة، كما في أيام الحمدانيين؛ وزراء مصر الفاطمية استدعوا قوى الفرنجة الصليبيين الى القاهرة؛ ملوك الطوائف استنجدوا بأراغون وقشتالة وغيرهما. هؤلاء الحكام العرب الذين يستدعون اسرائيل،  يزعمون أن ذلك خوفاً من التهديد الإيراني. المعروف أن الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا كل واحدة منهما تحميها ضد أي تهديد خارجي. دول هي في الأصل محميات. أما كانت تلك الحماية كافية؟ وهي مستمرة. لكنها حكومات، مهما ادعت، فإنها ترى الخطر الأكبر من شعوبها، التي صارت ربما أقليات في البلاد التي تحكمها.  أما أن يقال أنه اعتراف وتطبيع من أجل السلام، فهذا استخفاف بعقول الناس. لو قالوا أنهم يريدون اسرائيل عضواً في الجامعة العربية لكان الأمر أشد وقعاً. على كل حال الأمر مشكوك فيه أن تقبل اسرائيل الجلوس مع نكرات. كان يمكن أن يكون الاعتراف لقاء مكسب من أي نوع. كان مجانيا! اسرائيل تمعن في الاغتصاب وهم يمعنون في الاعتراف والاستسلام.

ألا يستحق مطلب الدولة الواحدة في فلسطين التاريخية، دولة يهودية وعربية، البحث كي يكون بديلاً؟ اسرائيل لم ولن تنفذ حل الدولتين رغم الإقرار به دولياً (بما في ذلك الولايات المتحدة). واسرائيل ستكون في مأزق تجاه حل الدولة الواحدة الديمقراطية. لكن استسلام بلدان عربية يراد له أن يكون دون مقابل لكي يكون جزءاً من “صفقة العصر”. صفقة من طرف واحد.