4
Jul
2018
0

تفكيك الدول ومجتمعاتها

“صفقة القرن” تتعلّق بفلسطين والعرب، وبتحديد معنى جديد للعروبة. تقضي صفقة القرن بأنه لا توجد فلسطين بعد الآن. أن تُضم الى الأردن (ليس واضحاً ما مصير غزة). لا يريد يهود إسرائيل التلوّث بالضفة الغربية. يجب بنظرهم ضمها الى الأردن. تتشكّل دولة جديدة. ربما ضمت غزة. ينسى الفلسطينيون حق العودة. يزول الشعب الفلسطيني من الوجود، بالأحرى ينتهي الكلام عنه في المحافل الدولية. توجد دولة أردنية فيها عرب فلسطين والأردن. مشروع قديم جديد.

يستعيد الفلسطينيون حقوقهم في أرض غير أرضهم؟ المهم، بنظر أصحاب الخطة، أن ينال الفلسطينيون حقوقهم أينما كان الأمر. هذا كان محتوى سياسة السادات قبل زيارته القدس عام 1977. قبل حرب 1948 رفض الصهاينة أرضاً في إفريقيا وفي وسط أسيا لدولتهم المزمعة. هو الحل المشابه الذي يحاولون فرضه على الفلسطينيين.

يعتقد الصهاينة أنهم يستطيعون إعادة تشكيل الوطن العربي. ربما يخططون لتغيير حدود الدول العربية مع بعض التغيير السكاني هنا وهناك. تطهير عرقي مناسبته الحروب الأهلية العربية والصراعات السنية الشيعية. “الحل” أكبر من أن تستطيع إسرائيل فرضه بمفردها. تخطط له. تنفذه الولايات المتحدة. علاقة مريبة بين أميركا وروسيا تسمح بتمرير أشياء كثيرة. ربما كان النفط عاملاً مهماً في الترضيات المتبادلة.

يتطلّب الأمر حكومات لدول عربية توقّع على اتفاقات من نوع ما. لا يهم إذا كانت الحكومة شكلية الوجود، بمعنى أنها تحكم ولا تحكم.  تحكم بالقوة رغم أنها مسلوخة الشرعية.

المسألة ليست فقط إعادة رسم حدود الدول العربية مع بقاء السكان في مكانهم، والأمر ينطبق على بقية المشرق العربي كما فلسطين، بل هي إعادة تشكيل الشعوب العربية وإزاحة السكان من مكانهم الى أماكن أخرى، بتهجيرهم في الداخل، والى الخارج. ما يبدو صراعاً على السلطة أو حرب الثورة المضادة على الناس، أو صراعاً سنياً-شيعياً، هو على الأرجح إبادة عرقية-سياسية-مذهبية. يُقتل فيها الكثير من الناس، لكن أعداد الذين ينزحون من أماكانهم (يُهجّرون) هم أكثر بكثير. ما هدأ القتال في منطقة سورية إلا بعد اتفاق قسري يكون جزء منه إجبار الناس على النزوح الى منطقة أخرى.

قضية المهاجرين عبر المتوسط التي يُقتل فيها ألاف البشر، ويُعتقل البقية الباقية على قيد الحياة، ويُستعبد بعضهم، ربما كانت الواجهة لقضية تهجير أكبر بكثير في المنطقة. شاشات التلفزيون ترينا المهاجرين عبر المتوسط. ما لا نقرأ أو نشاهد كثيراً عنه هو نزوح (أو الإجبار على النزوح) لملايين البشر في داخل وخارج كل قطر عربي في المشرق.

إذا كان هناك صفقة القرن، فإنها لا تتعلّق بفلسطين وحدها، بل بالأمة العربية جميعها: تفكيك دول هذه الأمة. لم يعد الأمر يتعلّق بانقلاب هنا أو هناك، بل بتدمير دولة هنا أو هناك. تدمير الدولة يعني شرذمة الشعب أو والشعوب الموجودة ضمن الحدود. هو ليس شرق أوسط جديدا بدوله الحالية، بل شرق أوسط جديدا بتركيبة جديدة لشعوبه. عدة الشغل موجودة بغزارة، ميليشيات متعددة، دول تتحوّل جيوشها الى ميليشيات، نشوء ميليشيات موازية للجيوش، ميليشيات مذهبية وإثنية، لغات متعددة يطالب الناطقون بها بالحق بتقرير المصير (أي بالانفصال عن دولهم لتكوين دول خاصة بهم).

يصير حق العودة للفلسطينين أمراً ثانوياً هامشياً بالنسبة لحق العودة لشعوب عربية (وغير عربية) بكاملها. كان مطلب الشعوب العربية “الشعب يريد إسقاط النظام”، أي بناء دولة ذات شرعية مستمدة من شعبها. مطلب الثورة المضادة الذي يرعاه عدد من الدول الكبرى  اقليميا ودولياً، هو شرعية الوجود العربي: شرعية المجتمعات العربية وحقها في الوجود. مقابل إنشاء دولة إسرائيل على أرض تمتد من نهر النيل  الى نهر الفرات، وذلك بناء على شواهد تاريخية خاطئة. وهناك إلغاء أمة عربية مستمرة منذ ألاف السنين لبناء أمة جديدة. مكان أمة أنتجها التاريخ تُبنى دولة لأمة يُنتج لها التاريخ.

من تدمير السلطة الى تدمير الدولة الى تدمير المجتمع. تدمير بمعنى الفكفكة كي تبقى أعداد القتلى ضمن المعقول (المقبول عالمياً). هي حرب عالمية في المنطقة وعلى المنطقة ومجتمعاتها. في الحربين العالميتين الأولى والثانية كان عدد الضحايا عشرات الملايين في كل منهما. هنا يكفي عشرة ملايين أو أكثر.

مجتمعات أفقدها النفط والدين السياسي مناعتها. النفط أسس لنماذج ذهنية عن الثروة من دون العمل. والدين السياسي أسس لأوهام الحلول الجاهزة. تبلّد الذهن (صار بليداً)، وقاد ذلك الى وهن الوجود المادي. لم تستطع هذه المجتمعات العربية مقاومة العدو الخارجي، سواء كن إسرائيل أو الغرب، ولم تكتسب مناعة ضد الاستبداد. الاستبداد بدوره أمعن في تفتيت الوعي وتشويشه. الحداثة التي جاءت مع الاستبداد استخدمت مقولات كاذبة وهمية ضد الدين السياسي؛ واعتمدت التوزيع (توزيع الثروات ومصادرتها) في أشكال من الإصلاح الزراعي ضد قطاع لم يعد موجوداً. الوطنية صار مبدأها التوزيع لا الإنتاج.
جرى تدمير التقاليد القديمة ولم يكن بالمستطاع إيجاد تقاليد حديثة. لم يكن ذلك ممكناً بينما النخب الثقافية والسياسية في السجون أو في المنافي. جاء المضحك المبكي في عام 2001 اذ نقلت مقاومة الأمة عملياتها للخارج. وكانت حادثة نيويورك ومدن أميركية أخرى. رد الغرب (الولايات المتحدة وحلف الناتو في أوروبا) بالعمل على تصفية دول عربية وإسلامية. فكانت حرب أفغانستان وحروب العراق.  لملمت المجتمعات أشلاءها فكانت ثورة 2011 من المحيط الى المحيط. ردت المنظومة الحاكمة العربية بالثورة المضادة. فكان تدمير الدولة في سوريا واليمن وليبيا. سبق ذلك تدمير الدولة وتشليع المجتمع في الجزائر والصومال.

سيطرت العبثية أي الاعتقاد أن لا شيء مجدٍ. سيطر الأخوان المسلمون في مصر وتونس لمدة قصيرة. لم يقدما شيئاً لأن ما اعتمدوا عليه من أفكار يدور كله حول شعار ساذج: “الإسلام هو الحل”. فِرق الإسلام السياسي فرّخت وتوالدت منه. ظهرت داعش بعد القاعدة. إقامة دولة إسلامية سلفية مكان مقاومة وهمية. خرجت الوهابية (السلفية) سياسياً من المعادلة، بعد أن ساهمت في التأسيس الذهني لكل الأوهام الدينية. إقامة دولة إسلامية؛ اعتبرت مرحلة أعلى من المقاومة القاعدية. أوهام تولّد أوهاماً. أسوأ ما في هذه الأوهام أنها خداع للنفس. كما نسف تمثال بوذا في باميان-أفغانستان. جرى قطع رأس أبي العلاء المعري وغيره في أنحاء كثيرة. سلفية من دون تراث. سلفية تفكّر بالتاريخ وتعتبره عبءاً وكفراً. مجتمعات تدمر نفسها. لا معنى لديها للتطوّر والتراكم. قيم العمل مفقودة. الثروة التي أتت من باطن الأرض النفطي كانت ثروة وهمية؛ دولارات يجري تحويلها الى أمكنة أخرى في العالم. أو تُستخدم لمشاريع تُبهر الأنظار؛ أو تقتطعها دول الغرب والشرق في سبيل شراء أسلحة ليقاتل الناس والدول بعضهم بعضاً. سلفية الثروة النفطية قادت الى سلفيات أشد هولاً وسذاجة وعدمية. انسحبت للاحتماء بحداثة تعتقد أنها تنقذها. ربما كان في الأمر إغراء من قادة العالم؛ إغراء بشروط المشاركة في “شرق أوسط” جديد، شرق أوسط بعد تشكيله برمته: مجتمعات ودولا.

صفقة القرن يتكرر الحديث عنها، نتحدث بما نعرفه عن أبعادها. أما أسبابها فهي أننا أمة (مجتمع، مجتمعات) عاجزة عن فهم ما نريد، وعاجزة عن تحقيق ما تريد. عندما أردنا شيئاً في ثورة 2011، وقف الإسلام السياسي يدّعي أن المسألة تتعلّق بالسلطة وليس بما هو أعمق. تحدث الناس عن السلطة العميقة، وكأنهم يعنون بها أجهزة الدولة المتجذرة، الأمنية والبيروقراطية؛ ربما كان الأفضل الحديث عن بُنى المجتمع الذي وضع لنفسه أهدافاً مستحيلة. استحالة تكرار الماضي (السلفية) واستحالة (العجز) صنع المستقبل بسبب البنى الذهنية ذاتها التي لم تعد تصلح لشيء في هذا العصر.

أرادت المجتمعات العربية اسقاط السلطة (اسقاط النظام) فجاءت الثورة المضادة لتفكيك الأنظمة والدول ومجتمعاتها…

 (يتبع)