6
Nov
2021
0

خلل البيئة ونهاية البشر

لا  يستطيع الإنسان العيش تلقائيا دون الحاجة الى موارد الطبيعة أو ما يسمى البيئة. الإنسان لا يعيش بنفسه ولنفسه. هو محتاج الى الغير في علاقات إنتاج ضرورية كي يصنع من موارد الطبيعة ما يفيد الاستعمال، أو ما يُسمى الاستهلاك وسد الحاجات. للإنسان صفات كثيرة، غير ان أهمها في الزمن الحاضر هو تدمير الذات. نظامه الاجتماعي الراهن الذي يوصف بالنيوليبرالية والرأسمالية المالية، قديمها وحديثها، يؤدي الى تدمير الذات والقضاء على الإنسان والحضارة؛ على واحدهما أو كليهما. السبب الرئيسي في ذلك أنه لم تعد الطبيعة على هذه الأرض خزاناً لا متناهياً للموارد الأولية، والمياه، والوقود، والمعادن، والمنتوجات الغذائية. هذه تتناقص بفعل الإنسان وتأثيره على الطبيعة. تدمير البيئة فعل بشري. ليس التكاثر البشري هو ما يؤدي الى تزايد الاستهلاك، وبالتالي التناقص النسبي للموارد، بل هو النظام الاجتماعي. نظام الرأسمالية التنافسي. هدف الرأسمالية الربح لا الإنسان، والثروة لا البقاء البشري. تتناقض الرأسمالية مع الإنسان ومع البقاء البشري، لأن تناقضاتها الداخلية تحتّم عليها التناقض مع الوجود البشري. هي تستهلك الوجود البشري باخضاعه لمنطق المنافسة والحرب والاستهلاك غير المجدي. بقاء الرأسمالية مرهون بزيادة الاستهلاك ولو كان في إنتاج الأسلحة، ومنها سلاح الدمار الشامل.

لا أكثر من تعبير “سلاح الدمار الشامل” دليلاً على قابلية الإنسان لتدمير نفسه وحضارته. حتى ما يُسمى الاستخدام السلمي للطاقة النووية يقضي على الإنسان. كم من محطة كهرباء تستخدم الطاقة النووية فشل أداؤها لأسباب بسيطة أو طارئة أو غير مرتقبة، فتسربت الاشعاعات القاتلة وصارت مناطق واسعة غير صالحة للسكن والاستخدام، مع الأخذ بالاعتبار الضحايا التي نتجت عن ذلك، وهي كثيرة. الرأسمالية خطرة في السلم والحرب. والطاقة النووية واحدة من السموم الكيماوية والبيولوجية التي تبيد الإنسان إبادة شاملة.

لكن الأفظع من ذلك هو عملية الإنتاج ذاتها التي تخرج كميات متناهية من الملوثات على الأرض وفي الجو. إذا كان مصيرنا الجنة أو جهنم، فإننا لوثناهما قبل أن نصل الى واحدة منهما. الأرض صارت أكثر من جهنم بفعل الفقر، والمجاعة، والوباء، والغذاء الملوّث، والتصحّر، والنفايات البلاستيكية التي لا تكاد تفنى ولا تعود الى الطبيعة. طبعاً، نرمي النفايات البلاستيكية وغيرها خارج رؤية العين، ونظن أنها أصبحت خارج الطبيعة. لكنها تعود لتعشعش في حنايانا بطريقة أو بأخرى. إغلاق أعيننا وعمى البصيرة لا يغيّران الوقائع بل ينتجان خطرا أكبر.

إلا أن تدمير البيئة الأكثر فظاعة والذي لا يمكن رد أثاره بعد أن يتفشى أمره والذي يتم يوميا وكل ثانية، وعلى مدار السنة، فهو التلوّث البيئي اللامحدود والذي لا سقف له. يؤدي تزايد الانبعاثات الكاربونية الى تآكل طبقة الأوزون المانعة للضوء فوق البنفسجي، المؤدي بدوره الى ارتفاع الحرارة والى خلل الطبيعة. ليست الطبيعة خزانا للنفايات الضارة أو ما يسمى الملوثة. ثبت أن تكاثر السموم الملوّثة تعود الى أسباب بشرية، صناعية، وزراعية. وليس تكاثر البشر هو العلة بل النظام الاجتماعي-الرأسمالي. يمكن معالجة كل النفايات السامة الملوثة إذا احتسبت من كلفة الإنتاج، وإذا أجبر أصحاب الأعمال على معالجتها كجزء من عملية الإنتاج. معنى ذلك أن لا تحتسب ككلفة خارجية بأن ترمى النفايات في الخارج، وتترك كما هي أو يُعهد للدولة معالجتها، وهي غالبا ما لا تفعل ذلك بل تنقلها الى قارات أخرى دون معالجة. يجب أن لا يترك معمل اسمنت أو منجم لمعدن ثمين حراً في إزالة تلال أو جبال دون أن تعاد المساحة الخضراء إليها وتحميل كلفة ذلك لصاحب المعمل لا لدافعي الضرائب. بكلام آخر، لا يجب أن يترك الرأسمالي لخفض كلفة الإنتاج بإهمال أو التخلي عن معالجة نفاياته. سيقال أن ذلك سيجبر صاحب العمل على زيادة أسعار المبيع وتحميل الدولة بالنهاية دافع الضرائب العادي، المواطن الذي لا ناقة له ولا جمل، أي لا دخل له، بدفع الكلفة الإضافية. لا يمكن جعل كل منزل أو شقة معملاً لمعالجة النفايات، لكن الشركات الكبرى، وهي الأكبر والأقدر، عليها أن يكون في كل منها وسائل أو معمل لمعالجة نفاياتها السائلة والجامدة. ربما أدى ذلك الى انخفاض الأرباح، فليكن. آن الأوان لجعل الربح قيمة ليست هي الأعلى والأسمى في سلم القيم. آن الأوان أيضاً لإدراك أن أولوية الربح قيمة تتناقض مع القيم الإنسانية، وأهمها بقاء الوجود البشري.

لكن المسألة ليست مسألة محاسبة وتقدير حسابات الربح والخسارة بل هي مسألة اعتراف الإنسان في نظامه الاجتماعي، أو اعتراف الإنسان بنظامه الاجتماعي، أو اعتراف الإنسان ونظامه الاجتماعي، أي الرأسمالية وطرقها السياسية، أن الإنسان جزء من الطبيعة في تماه معها، وأن سيطرته عليها معناه فهم قوانينها واستخدام هذه القوانين لفائدة الإنسان. ولا فائدة للإنسان إلا في الطبيعة، في الحفاظ على توازناتها. مطلوب التواضع. تواضع الإنسان عن القول بالسيطرة على الطبيعة وجنون الاستنزاف لتوازناتها خلال القرن الماضي وحتى الآن. يعتمد الوجود البشري على الطبيعة ولا يجوز أن يعتبر الإنسان نفسه عدوا لها. الرأسمالية فعلت ذلك وذهبت لاعتبار الإنسان عدوا للطبيعة لرفع المسؤولية عن نفسها. لذلك يمكن اعتبارها عدوا للبيئة وللطبيعة وللإنسان نفسه. إن الاعتداء على الطبيعة هو اعتداء المصالح الرأسمالية التابعة للدولة أو الخاصة على الطبيعة. لذلك فإنها يجب أن تتحمل نتائج أعمالها بإعادة الطبيعة الى ما كانت عليه قبل عملية الإنتاج، أو التعويض على الدولة والمتضررين مقابل الأضرار التي أحدثتها. علما أن كل ضرر يلحق بالبيئة ينتج عنه أضرار تلحق بالبشر.

إن الرأسمالية في عدائها للبشرية هي عدوة للطبيعة أيضاً. التناقض الحاصل بين الرأسمالية والعمال الذين يعملون لديها هو في أساس كل تناقضاتها. فهناك تناقض دائم بين الأرباح والأجور. كلما ازدادت الأجور في أية منشأة رأسمالية كلما تناقصت الأرباح لمالك هذه المنشأة. هذا على الأقل هو وعي الرأسمالية لنفسها، ولذلك كان نضال العمال منذ أن بدأت الرأسمالية من أجل زيادة الأجور. وكانت وما تزال الطبقة الراسمالية تعتبر نفسها أنها تدافع عن نفسها باستخدام العنف ضد هذه النضالات.

لا تناقض بين الوجود البشري والبيئة.  التناقض الأساسي هو بين النظام الاجتماعي-السياسي والطبيعة. النظام ذاته الذي يستغل الإنسان ويدمره يستغل الطبيعة ويدمرها. اذا كان الاحتباس الحراري قد بلغ أو اقترب من بلوغ حد ما يشكل خطرا على البشرية، فإنه يشكل في الوقت نفسه خطرا على الوجود الإنساني. لكن الرأسمالية الكبرى ما زالت تكابر، إذ هي في حالة إنكار دائم. إنكار مبدأ الاحتباس الحراري وإنكار أن الاحتباس الحراري يشكل خطرا على البيئة. كما أنكرت الرأسمالية الكبرى، الرأسمالية المالية، أنها خطر على الوجود البشري، وأن تناقضاتها الداخلية سوف تجر البشرية الى نهايتها فإنها تنكر الاحتباس الحراري، وتنكر أنها السبب الأول والأخير، وأنها بإنكارها تشكل خطرا على الطبيعة. الإنكار الأول هو ما أدى بها الى التعمية على تناقض الرأسمال والوجود البشري عن طريق إفقار أكثرية البشرية وجرها الى العدم، واستخدام أسلحة الدمار الشامل لشن حروب الإبادة الشاملة. والإنكار الثاني أدى الى تدمير الطبيعة. بحيث أنها لم تعد مكاناً يصلح لعيش البشر. إنكار الطبيعة هو إنكار الوجود البشري في آن معاً. والإنكار سببه مبدأ زيادة الأرباح وتراكم الثروات. هذا المبدأ غير المبرر إنسانياً، والذي أصبح هو ذاته مبدأ تقدم الرأسمالية وفناء البشرية. ما عاد النضال ضد الاستغلال والفقر المدقع إلا نضالا من أجل بقاء البيئة طبيعة متوازنة. وفي الحالتين نضال ضد الرأسمالية وعجرفتها واحتقارها للإنسان وبقائه. عبرت الرأسمالية خطوطا ما كانت يجب أن تعبرها، فانتقلت من احتقارها القيم الإنسانية الى احتقار وجود الإنسان ذاته. لم يعد هذا الاحتقار قيمياً وحسب بل صار خطرا وجودياً. إن الثروات الخيالية التي تراكمت لدى قلة من الناس، والنظام الاجتماعي الرأسمالي الذي يشكل قاعدتها وأساسها، صارا خطراً على الوجود البشري. وصار النضال من أجل رفع الأجور وتحسين شروط حياة الفقراء هو النضال من أجل البقاء. البشرية التي كانت ذات بداية ستكون ذات نهاية أيضاً. فهل يستطيع المبدأ الديني الذي قال بخلق الإنسان من عدم أن يقف في وجه تحوّل الإنسان من جديد الى عدم؟ على أصحاب الدين أنفسهم الاختيار بين اعتبار الذات الإلهية وبشرها في صالح الرأسمالية أم في صالح الإنسانية. وإذا كان القرار بيد الله، فإننا نضع أنفسنا بين يديه وننتظر قراره. لا أحد يعرف الجواب. ولا يفترض أن يعرف الجواب أحد. لكن الواجب الإنساني هو النضال ضد الرأسمالية حتى ايجاد نظام بديل. الكلام هنا ليس إقحاما للذات الإلهية فيما لا يعنيها، بل هو نداء للقوى الاجتماعية الدينية أن تعتبر نفسها معنية وأن تأخذ موقفا الى جانب البقاء الإنساني. إقحام هذا الموضوع في النقاش هو لأنه يتوجب على من آمنوا بمسألة خلق الكون والإنسان، عليهم التفكير في مسألة نهايتهما. كل شيء ذو بداية في الزمن له نهاية في الزمن أيضاً. البشرية تتعرّض لخطر الفناء فهل يتدخل الله لمصلحتها أم أصيب بالضجر منها.

المسألة البيئية ليست مسألة تقنية وحسب. بل هي مسألة فلسفية تتعلّق بالوجود البشري وفنائه. بقاء الإنسان مرهون بانسجامه مع الطبيعة لا بالسيطرة عليها. الطبقة الرأسمالية تعمل من أجل السيطرة. مسألة السيطرة على الطبيعة يجب أن تبقى لله وحده. ولتكن مشكلة الطبيعة وتوازن البيئة مشكلة الإنسان في نظام اجتماعي جديد.