31
Jan
2021
0

طرابلس اليتيمة

لو لم تتمرد طرابلس في هذه الأيام لكان الأمر غريباً. في ثورة 17 تشرين 2019، كانت المدينة عروسة الثورة. وهي الآن تنتفض في الموقع ذاته رغم الكورونا، متناولة رموز السلطة.
 مدينة مغتصبة. هل تسكت مغتصبة؟ كما قال مظفر النواب، تخلت عنها نخبها، فدخل الغير الى حجرتها. أشار أحدهم الى جغرافية توزيع المظاهرات، فكأنه عيب أن تبدي جماعة من الناس غضبها. وهل كان يشير الى جغرافية الغضب أو كوزموبوليتية الغضب؟ وهل ترك لهم أهل النظام مطلباً إلا ويحتجون من أجله؟ البطالة منتشرة أكثر من كل مناطق لبنان. لقمة العيش أقل منالاً. فيها نسبة عالية من أصحاب المليارات، ولا يستثمرون إلا أقل من 3% في طرابلس. يفضلون العيش خارج المدينة، ويعودون إليها ربما في نهاية الأسبوع، وبالتأكيد كل أربع سنوات حين الانتخابات. مدينة لا تقف مكانها بل تتراجع الى الوراء. تخلي نخبها يجعلها دون زعامة. الطبقة العليا تفضل أن تتكلم يغير لغتها. الميسورون وما فوق يفضلون أن يسكنوا خارجها. تُتهم بالخروج على الدولة مرة تلو الأخرى. ألا تتعمّد الدولة إهمالها؟ ألا تتعمد الدولة اعتبار أبنائها مواطنين درجة ثانية. وأخيرا جاءها رؤوساء وزارات ووزراء يفضلون العيش خارجها.

فيها من الصفات والمرافق العامة ما يجعلها صلة الوصل بالداخل العربي. دون منافسة العاصمة أو أية مدينة أخرى. حتى العاصمة أصابها انفجار 4 آب أو أصاب مرفأها. فكأن ما يرجى (من النخب الحاكمة) لطرابلس، يرجى لكل لبنان. كانت قبل الستينات مدينة كوزموبوليتية. فيها كل ما في هذه المدن من مسارح ونوادي ليلية وفنادق ومطاعم، الخ… فإذا بها تتحوّل الى مجموعة قرى.
كانت حتى السبعينات تتميّز بكثير من الصناعات، والزراعات، وحتى الخدمات. اليوم لا يستطيع أحدنا تسمية أي من هذه الأنشطة. هجرتها نخبها باموالها وعقولها وتركوها تعاني. ثم يعودون للتصاريح التي تلوم الدولة. فكأن النخبة الطرابلسية المالية والسياسية والثقافية ليست مسؤولة. تتحمل الدولة الكثير من المسؤولية عن التردي. لكن النخب الطرابلسية تتحمل قسطها من الملامة. أكثر من ذلك، تتحمل وزر التخلي عن مدينتها.

أذا تحدثنا عن الفقر، فكم من النخب المالية الطرابلسية تستثمر في طرابلس؟
إذا تحدثنا عن الثقافة، فكم من مثقفيها يسكنون فيها وينشئون فيها مراكز ثقافية؟
إذا تحدثنا في السياسة، فكم من سياسيها يتسابقون لنيل رضا هذا أو ذاك من زعماء المركز؟
إذا تحدثنا عن الاقتصاد، فكم من نخبها الاقتصادية الغنية يستثمرون ولو بعض أموالهم في طرابلس؟
إذا تحدثنا عن العدالة، فكم عدد المساجين فيها دون محاكمة؟
إذا تحدثنا عن الدولة، لا يزدهر فيها من أجهزة الدولة سوى أجهزة الرقابة والقمع.
إذا تحدثنا عن الفقر، فكم تشير الاحصاءات الى تفشي الفقر فيها أكثر من غيرها بكثير؟
إذا تحدثنا عن تطورها، فلا نذكر إلا تراجعها الى الوراء وضرب صناعاتها المتعمد، ولا ننسى أن بساتينها تحولت الى مبان في الضم والفرز.
إذا تحدثنا عن التطرف الديني، أول ما يرد الى الذهن التطرف والبيئة الحاضنة للتكفير والإرهاب. والكل يعرف أنها غير ذلك.
إذا تحدثنا عن المدارس، أصبحت معظم مدارسها خارجها إلا القليل منها.
إذا تحدثنا عن أثارها، وهي كثيرة، نجد زوارها قلائل بسبب بشاعة ما حولها.

 إذا تحدثنا بلهجتها، نحتاج الى افتعال في التواء ألسنتنا وشفاهنا احتقارا لها.
إذا تحدثنا عن تاريخها الحديث لا نجد إلا الإدانة لمتطرفيها غير الموجودين فعلاً.

مدينة الاعتدال هي والتسامح في كل شيء، ويريدها الآخرون غير ذلك. فليحاكموا مساجينها القابعين في السجون دون محاكمة منذ سنوات. مدينة الاحتجاج هي. لقبت بعروس الثورة في 17 تشرين الأول 2019. لم تحصل ضربة كف واحدة رغم احتشاد الجماهير في ساحاتها. فيها أكثر نسبة من الفقراء والفقر المدقع. فيها من الغضب الذي يجب أن يدفع شبانها لأن يفعلوا أكثر من الاحتجاج، وحرق الدواليب، وغيرها. نعرف أنها متروكة للفقر والعوز لكي يستطيع أهل السياسة من كل لبنان استغلالها حين الحاجة في المناسات السياسية المعيبة. صاحب الحاجة أرعن. ما أكثر الحاجات في طرابلس. ما يحصلون عليه في معظمهم يقل عن الحاجات الدنيا للعيش ولو بفقر وعوز. وهي في الآن ذاته مدينة المليارديرية بعد أن كانت مدينة العلم والعلماء.

نخبها تتآمر مع السلطة، ليس فقط لإفقار المدينة، بل لجعلها غير صالحة للعيش فيها، أو فليتركها سكانها. الاحتجاجات المتتالية منذ عقود جعلت أهل السلطة يمعنون في سياساتهم. السيارات والفانات الآتية من الشمال لم تعد تمر بها. شوارعها ضيقة وهذه مسؤولية الدولة.

الأحياء الداخلية، وهي في حالة مزرية عمرانياً، لا أحد يدخلها، لا من السلطة ولا من النخب.عفواً، قوى الأمن تلاحق بعض الطرابلسيين في الداخل بتهم مشبوهة. سكانها ليسوا ملائكة. لكنها مدينة تحت المراقبة. والأحياء الفقيرة متروكة لفقرها. فيها أحياء لا يمكن دخولها إلا لمن يغامر. فيها بيوت من غرفة أو غرفتين تسكنها أكثر من عائلة واحدة.

يسأل الناس هذه الأيام عن طرابلس، من وراء هذه الاحتجاجات؟ لم نسمع الأسئلة الكثيرة حول وضع المدينة وكيف أصبحت كذلك. أسئلة مجعلكة لا مكان لها في الواقع إلا الخيال. الخيال المريض.

ما وراء هذه الأحداث في طرابلس جوع ومرض واستباحة. عدد كبير من المواطنين لا يستطيعون توفير لقمة العيش لهم ولأولادهم. أما المرض فحدث عنه ولا حرج. آخر تقليعات المرض هو الكورونا، مما يعني سد البوز ووضع الكمامة. المشكلة هي أن يفرض ذلك على من يعمل باجر يومي، ولا يستطيع تغذية أولاده إلا أذا عمل يومياً.

كل ذلك مفهوم.يحصل في بلد يتآكله الفقر والجوع. يتظاهرون احتجاجاً. كأن الثورة عادت. هي لم تذهب. الجديد هو عمل الأجهزة الرسمية. قبل كل شيء طرابلس تئن فقط من الفقر والجوع. هي مدينة مستباحة. أكثر ما يستبيحها عمل الأجهزة. يتظاهرون ولا أحد يسمع لهم؛ لا من نخبهم المالية ولا من السلطة. اتجه بعضهم، وهم ربما مدسوسون، الى مبنى البلدية وأحرقوه. وكان الناس يسألون لماذا استهداف السرايا ومبنى البلدية؟ الى أن سمعنا أن قوى الدفاع المدني منعت من أجهزة رسمية من الوصول الى مبنى البلدية، وكأنه كانت هناك عجقة سير فيما بعد منتصف الليل.

صنوة الحديث أن المدينة مستباحة، وأن من يستبيحها هو السلطة؛ وأن السلطة تكمن في مكان ما من الدولة؛ وأن الدولة رأسها معروف والأجهزة معروفة؛ والرئيس الثاني هو الرئيس المكلف بوكالة لم تعط له عن المدينة؛ ورئيس حكومة تصريف أعمال مصابة بالكتام الذهني. المدينة مستباحة. لماذا؟ هل هناك أهداف استراتيجية؟ هل لذلك علاقة بالمواصلات بين لبنان وسوريا بعد أن تغلق أبواب التهريب في سلسلة لبنان الشرقية؟ لم يعد ممكناً إعادة التواصل على خط بيروت طهران إلا عم طريق طرابلس. هل المطلوب إزاحة طرابلس من الطريق؟ لقد فعلت المدينة بنفسها منذ حركات القدور الى فاروق الى التوحيد ما يشبح الانتحار. ولم يكن الانتحار ممكناً، أو التفكير به، إلا عن طريق وهم وحقيقة ارتباط المدينة بالداخل العربي. في أوضاع جديدة، خلال ومع تطوّر الحرب السورية الأهلية، صار الارتباط بالداخل العربي له مواصفات أخرى.

طرابلس مدينة مستباحة. مدينة جميلة كانت على المتوسط، صارت مدينة مترهلة. هل يراد لأهلها أن يكونوا لاجئين في أرضهم أو غير أرضهم؟ أو في الأمر عقوبة لها لما أبدته من مظهر لائق في ثورة 17 تشرين؟ هل انزعج البعض من لياقة أهلها فاتجهوا لأن يعاقبوها الآن؟