11
Sep
2020
0

فلسطين في الوجدان العربي

هل ستبقى قضية فلسطين في الوجدان العربي لدى الأجيال القادمة؟ سؤال لا يمكن الجواب عليه دون محاولة تعريف التعابير الثلاثة الواردة في العنوان: فلسطين، والوجدان، والعربي.

فلسطين أرض عربية. ستبقى في الوجدان العربي ما دامت محتلة. لكن فلسطين محتلة. تحتلها دولة اسرائيل. دولة غير عربية تحتل أرضاً عربية. العرب أكثر من يهود اسرائيل بكثير. لكنها دولة. العرب ليسوا دولة. الدولة في كل مكان إطار ناظم للمجتمع. هي أيضاً مركز القرار. في كل صراع ينتصر الطرف صاحب القرار. ينهزم الطرف الذي يفتقر الى القرار بالرغم من تفاوت الأعداد والعدة. عندما قامت اسرائيل عام 1948، انتصرت في حرب كان فيها العرب أكثر عددا وعدة. يُفترض أنهم كانوا الأقوى. وقد كانوا. إضافة الى أنهم كانوا تحت ظل الاستعمار أو الانتداب. انتصر الطرف الذي كان أقوى بالقرار. بالطبع يجب أن يستند كل قرار الى الظروف الموضوعية، مثل ميزان القوى الدولي الداعم أو غير الداعم. كان الدعم العالمي للعرب أوسع مما كان لإسرائيل. لكن الدعم المفيد كان من جهات هي الأقوى في العالم، وكانت هي التي تقرر سياسة العالم. دولة اسرائيل استطاعت بقرار، أو قرارات، أن تجند لصالحها الدعم المفيد. وجود الدولة هو الأساس في كل ذلك، حتى قبل سيطرتها على الأرض عام 1948.

في مقابل الدولة الاسرائيلية، هناك الوجدان العربي الغاضب حيناً والمستكين حيناً آخر. الغاضب في مكان والمستكين في مكان. لكنه غاضب في معظم الأزمنة والأمكنة. أصل كلمة وجدان الفعل الثلاثي وجد، الذي هو مصدر الوجود أو الوجدان. الوجود يتحوّل الى وجدان (شعور) أو العكس. هو وجود ووجدان ضائعان بين الدولة والأمة. الخطر الأكبر على الدولة هو الأمة. الأمة احتمال والدولة هي الكيان السياسي. الأمة لا تأخذ قراراً أو قرارات. الدولة هي صاحبة القرار، بوجود أمة أو عدمها. الأمة احتمال لأنها في الوجدان حين توجد، أو فيما وراء الطبيعة حين لا توجد. تكون مجرد تمن أو رغبة أو محرك لملكة الغضب. الدولة صاحبة القرار بوجود الوجدان (الأمة) أو عدم وجوده.

يتضارب مفهوم الأمة ومفهوم الدولة في الوعي العربي. يتفاقم التضارب عندما تلعب أطراف وقوى خارجية على حبلي الأمة والدولة. لكن الأساس هو التشوّش الناتج عن مفهوم ميتافيزيقي ديني أو قومي، أو الإثنين معاً، ويعبر عن فقدان الأمل بالواقع، ويعتبر الحاضر عبئاً. يلجأ الناس الى مفهوم ديني أو قومي يفعل بالوعي كالمهدي المنتظر الذي يؤذن مجيئه بالخير والعدل. يسحب الدين أو القومية الشرعية من الدولة، فتصير مجرد سلطة لا تستطيع الاستمرار إلا بالقمع والاستبداد. في الدولة الحديثة ينخرط الناس جميعاً في الدولة، كمعارضة أو موالاة في السلطة. لكن الولاء يكون للدولة لا لكيان غريب بل ككيان سياسي يتماهى مع الناس. تصير الدولة نحن (أي المجتمع) وتصير السلطة “هم” أي الجهاز الحاكم القابع على صدر المجتمع والمصادر لحقوقه والمانع لتقدمه. يختنق المجتمع، ينغلق على نفسه، يلجأ لوجدانه، يصير وجوده دون معنى. يصير أصولياً سلفياً فاقد الأمل بالمستقبل، يتراجع وعيه الى الماضي. يحتاج الى ماض مجيد لمداواة أوجاعه.

فقدان الأمل بقضية فلسطين هو فقدان الأمل لدى كل مواطن عربي في دولته، بالأحرى نظامه. ليست المسألة تحوّل الوجدان عن فلسطين، أو عن العروبة، أو عن المدى الأرحب الذي شكّل عبر التاريخ مجالا للوعي. فقدان الثقة بالنفس هو في جوهر فقدان الأمل، وصولاً الى الوجدان، بقضية فلسطين. تبقى فلسطين في الوجدان، لا في الوجود، بسبب فقدان الأمل. ليس الأمر أن القضية غابت عن الوجود، بل هي أنها لم تعد راهنة. الوجدان يعبر عن الوجود. لكنه يعبر في هذه الحالة عن وجود بائس. يفاقم المسألة مشاركة أقطار إسلامية أخرى باسم الأمة الإسلامية في قضية فلسطين. هم في الحقيقة يشاركون في قضية كل قطر عربي. كل من تركيا وايران يعتبر الوطن العربي مجالا حيوياً له. في أواسط أسيا، من قزوين الى حدود الصين شعوب ودول تتكلم التركية والإيرانية، وتشترك مع ايران وتركيا في أمور كثيرة. لكن الدولتان لا تجرؤان على التوغل في دول أواسط أسيا لأنها مجال حيوي للاتحاد الروسي ولا يريدان الاصطدام به. الدولتان تجدان في التشرذم العربي فرصة لتوسيع المجال الحيوي، وتعملان على إضعاف العرب وسلخ قضية فلسطين منهم. كلاهما يعرف أن جوهر قضية فلسطين هي القضية العربية. في كل مرة يقوم العرب بثورة ضد أنظمتهم تقف تركيا وايران في صف الثورة المضادة. يريدان إبقاء العرب ضعفاء من أجل السيطرة عليهم وابتزازهم بقضية فلسطين. أذرعهما في المنطقة يشاركون في ذلك. انتشار الحروب الأهلية العربية، كبرنامج للثورة المضادة بعد ثورة 2011، هو جزء من برنامج أكبر وأوسع يتم تنفيذه على حساب الدم العربي.

ليست ايران أو تركيا من جنس الملائكة. كل منهما دولة عظمى على الصعيد الاقليمي، وكل منهما يعتبر نفسه مولجاً بالقضية العربية. كل منهما يحاول الثأر من التاريخ. الامبراطورية الساسانية زالت علي يد العرب. والأتراك تسلقوا على ظهر العرب باسم الدين، كأن لكل منهما ثأر على العرب. لا تخفي النخب السياسية والثقافية الإيرانية والتركية كرهها واحتقارها للعرب. ربما كأن السبب هزائم العرب المتتالية منذ 1948 وقبلها وبعدها، إضافة الى عدم تشكيل العرب قوة قومية ذات بال وتعثرهم الاقتصادي رغم كثرة النفط.

انشغل العرب منذ نهاية الحرب العالمية الأولى عندما انهارت الامبراطورية العثمانية بالقضية القومية العربية والوحدة العربية وبالقضية الإسلامية وبالإسلام السياسي. وكانت الوحدة العربية هي الهم الأساسي. لم يهتموا بما لديهم من دول. كان مطلب الوحدة عاملاً إضافياً في بعثرة العرب وزيادة الكيد بين بعضهم البعض. والنظام العالمي (الامبريالية) لم يسمح بأي نوع من الوحدة الحقيقية سوى ما حصل في الإمارات واليمن. بقي العرب يسعون لغير الممكن آنياً بدل من الممكن. كانت الناصرية المرحلة الوحيدة المضيئة في القرن العشرين. لكنها سارت من هزيمة الى أخرى على يد تحالفات عربية ثم على يد اسرائيل.  في عام 1956 مدعومة ببريطانيا وفرنسا، وفي عام 1967 كانت اسرائيل وحدها لكنها تلقت دعما من الغرب. شبه انتصار أو هزيمة عام 1973 لم يحسّن معنويات العرب. كثرت المزايدات بين العرب منذ أحمد الشقيري ونشوء منظمة التحرير الفلسطينية. غاب عن العرب أمر الدولة. دين وإسلام سياسي، سلفية وتطرّف ديني، قومية عربية ومزايدات وحدوية؛ وتجارب وحدوية تفشل الواحدة تلو الأخرى. تفاقم الإحباط العربي. اشتد احتقار الذات. فقد العرب ثقتهم بأنفسهم. دول مسحوبة منها الشرعية. الأمة تسحب الشرعية من دولها. جيوش ليس لها قدرة قتالية، وليس لها قضية. استبداد يطمس النقاش والحوار. مثقفون يلهثون وراء الفتات، سوى قلة منهم. نموذج استهلاكي امتد من دول النفط الى غيرها. صار اليومي والراهن هو المهم. لا رؤية استراتيجية. خلت البلدان العربية من مراكز للبحوث. البحوث فردية وغير جدية، إلا ما كان على يد علماء مهاجرين ومقيمين في الخارج. يعملون في الخارج من أجل الخارج لأن بلدانهم لفظتهم.

النموذج الأعلى كان وحدة إيطاليا ثم وحدة ألمانيا. ما أدركت النخب العربية أن وحدة كل منهما بنيت على التقدم. كانت الأجزاء التي تكونت منها ألمانيا وإيطاليا متقدمة في معظم مقاطعاتها. غياب مفهوم وشرعية الدولة أدى الى كوارث اقتصادية والى مزيد من تشوّش الوعي. صارت العروبة تعني الهزيمة. وصار الانتماء القومي خيانة للواقع. الواقعي هو البائس الذي ليس لديه حلم حول المستقبل. الواقعية شكل آخر للاستسلام. الاستسلام قبول بالواقع دون الاعتراف بالهزيمة. ارتفعت أصوات النصر مع انكار الهزيمة.

غياب مفهوم الدولة كان في نفس الوقت غياب السياسة. ليس الاستبداد وحده مسؤولاً عن ذلك، بل هو الوعي العربي المشوش والمنتكس. هزيمة مفهوم الأمة (العربية أو الإسلامية) كان حتمياً أيام دول قطرية ما استطاعت تثبيت أقدامها إلا بالاستبداد. سيطرت الأصولية. صار الماضي المجيد نموذجاً للحاضر والمستقبل. كلما استفحلت الهزيمة كلما استفحل خطر السلفيين. بعضهم لجأ للإرهاب. صار الضرب العشوائي هو المنهاج العام. ما يُسمى إرهاب وأصولية هو عشوائية الوجود العربي وتصلب والوجدان العربي. الوجدان يعبّر عن الوجود. كلاهما بؤس وتراجع. الايديولوجيا ضد التقدم. من بوركهارت الى نيتشه، في نهاية القرن التاسع عشر، ظهر ردة فعل ضد تأليه التقدم في الغرب، ومن قبلها ايديولوجيا الرومانسية من أجل الطبيعة كردة فعل على الثورة الصناعية. الشيوعيون من العرب أخذوا بحثالة الفكر الماركسي. اليمينيون منهم أخذوا بحثالة الفكر الأوروبي، كالفاشية والنازية، حتى لدى الفرق الإسلامية والقومية.
تعممت الحالة الصومالية بغياب مفهوم الدولة، بالأحرى غياب الدولة، والدولة لا تكون إلا حديثة. حتى في مصر الذي يضاهي عدد سكانها تركيا وايران، قمعت ثورة 2011 تفادياً لكارثة سيطرة الأخوان المسلمين والسلفية. ولا تمييز بين الاخوان والسلفية إلا على الصعيد التنظيمي. النموذج الذهني واحد: أمجاد الماضي البعيد والسلف الصالح. وإجبار المجتمع على تبني العيش والوعي حسب السلف الصالح. بعد النهوض الفكري (والاقتصادي في القرن التاسع عشر) ساد وجوم تراجعي في القرن العشرين رغم النفط من جهة والناصرية من جهة، وصراعاتهما اللامتناهية.

الدولة إطار ناظم للمجتمع. يستمد شرعيته من المجتمع. الأهم هي مركز القرار. هي مركز صنع المستقبل. نظام الحكم أمر واقع مع الاستبداد أو بدونه. الواقعية التركية والإيرانية أقرت بالدولة فاستطاعت الشروع في صنع المستقبل. الواقعية العربية هي ارتكاس الى مفهوم الأمة دون الدولة. حرم العرب أنفسهم من مركز (أو مراكز) صنع القرار وصنع المستقبل. الواقعية التركية والإيرانية فيها نظر للمستقبل. الواقعية العربية فيها نظر للوراء والبحث عن ماض مجيد. تعويض وهمي عن راهن الهزيمة. الوعي التركي والإيراني مستقبلي. الوعي العربي ماضوي. مع غياب مفهوم الدولة لا بد للوعي من أن يكون ماضوياً. الوعي الماضوي هو بالضرورة أصولي النزعة، سواء الدينية أو القومية. ليس التركي أو الإيراني بحاجة الى قراءة تاريخ الفتوحات كما العربي. ليس مفهوم الأمة سيفاً مسلطاً فوق رؤوس العباد عندهما. لدى كل منهما دولة، بعكس الراهن العربي الذي لديه مفهوما مزدوجا حول الأمة.

لم تطالب الثورة العربية عام 2011 بإسقاط الدولة، بل بإسقاط النظام. أدركت الجماهير العربية ما لم تدركه النخب الثقافية والسياسية. لكن الأنظمة العربية في ثورتها المضادة أسقطت مفهوم الدولة بحروبها الأهلية وأنعشت حكم النظام. لكن بؤس الوجود العربي يبقى هو الأساس؛ هو أساس الوجدان المحبط.

موقف الأجيال العربية، الراهنة والآتية، هو الموقف من الدولة في كل قطر عربي، بما في ذلك فلسطين؛ موقف واقعية استسلامية؛ لا إقرار بالهزيمة؛ إنكار الحاضر، عجز عن صنع المستقبل. ليس جوهر القضية العربية فلسطين، بل جوهر فلسطين هو القضية العربية. أصبح العرب قضية مع إنكار الواقع المتأتي من سيطرة مفهوم الأمة  (الدينية أو القومية) وأولويته على مفهوم الدولة. الدولة كما هي. الدولة القطرية. لم يفهم الوحدوين العرب أن الوحدة العربية تمر عبر القطرية العربية. عبر الدولة القطرية كما هي، وكما يفترض أن يصير القطر دولة. سيبقى الواقع العربي بائساً ما دام الوجود العربي بائسا، وما دام مفهوم الدولة ثانوياً (تحت الأمة) أو غائباً.
لن تبقى اسرائيل ما دامت مجتمعاً مغلقاً. دولتها قائمة على القوة العسكرية، إضافة للتكنولوجيا. هي مجتمع حديث بايديولوجيا قديمة. الصراع بين القديم المتخيّل والحداثة قائم في اسرائيل. لن يكون هناك أمة عربية إلا إذا صنعت بإرادة عربية قائمة على الانفتاح والانخراط في العالم، والخروج من ذاتها المغلقة المتخيلة. لن تكون المقاومة العربية، بما فيها المقاومة الإسلامية في لبنان، مجدية ما دامت تفكر بمقولات مرحلة التحرر الوطني وحرب التحرير الشعبية. تقاوم إسرائيل بالتقدم لا بسلاح الكلاشينكوف أو الصواريخ، وهذه على كل حال أسلحة دفاعية. الهجوم الأجدى هو بالعمل والسعي والإنتاج وبناء الدولة (القطرية) كما هي حدودها، وبناء علاقات عربية قائمة على الاقتصاد والحرية (لا التحرر). الحرية الفردية. وبناء مجتمعات متماسكة بالسياسة. وهذه نقيض الاستبداد.

لدى الأجيال الجديدة والقادمة وجدان فيه شيء من العقلانية التي ترى الوجود العربي غير ما رأته أجيالنا التي ما زالت تكرر مقولات عفا عليها الزمن. نحن في زمن العولمة والرأسمالية النيوليبرالية وإدارة العالم على يد قطب واحد هو الدولة الأقوى، التي هي مركز الطبقة الأقوى في العالم. لقد سئم العالم من تقليديتنا واجترارنا لمفاهيم صارت غير مطابقة لعالم جديد. خلقت الرأسمالية في عصرها المتأخر، أي الراهن، عالما جديدا ومفاهيم جديدة حول البقاء والاستمرار.  الصين بضخامتها لجأت الى مفاهيم وتطبيقات جديدة، وأحرزت تقدماً هائلاً. الهند تسير على نفس الطريق، وإن كانت ذات نظام سياسي (ديمقراطي) مختلف عن الصين.  ونحن ما زلنا في صحيح البخاري، ونتبع أسلوب أحمد الشقيري.

الوجدان العربي يتجه الى تغيير الوجود العربي باتجاه التقدم، لا مجرد التعبير عن الحاضر البائس. تخاف الأنظمة العربية، بما في ذلك نظام المقاومة في لبنان من الوجدان العربي في تجدده. الوجدان الجديد ظهر في ثورة 2011 العربية. المنظومة العربية الحاكمة تنسجم مع وجدان قديم بدأ يحتضر. الوجدان الذاهب الى مزبلة التاريخ هو القديم. الوجدان الجديد يتبرعم رغم الحروب الأهلية التي اصطنعها الوجدان القديم. مشى ماكرون في شوارع الجزائر دون رئيسها. لم يكن ذلك ممكنا لولا الاستعمار بأشكاله الجديدة. علينا بالتالي أن نفكر بمفاهيم جديدة.  مقتلنا هو العقل المستريح الذي لا يسأل ولا يشك ولا يسأل ذاته ويراجعها باستمرار.
الوجود العربي يتجدد. هل بدأ الوعي العربي بالتجدد؟