24
Jul
2020
0

لبنان بعد الثورة، تقسيم العمل لدى الطبقة الحاكمة – ٣

تنقسم الطبقة السياسية أحياناً الى موالاة (للحكومة) ومعارضة (للحكومة). هم طبقة واحدة لا تشير انقساماتهم الى تعارض أو تناقض في المصالح بل الى خلل في اقتسام الحصص. الخلل يؤدي الى الدعوة ضد الحكومة لكن ليس لإسقاطها؛ ناهيك بإسقاط النظام ورأسه. حصصهم المعطاة من الحكومة الحاكمة أقل من المطلوب، لكنها حصص نادراً ما تكون خارج حدود اللياقة. هما طرفان لحزب واحد هو حزب السلطة، بالأحرى الطبقة الحاكمة.

تمتاز هذه الطبقة بأنها تستخف بعقول الناس ومصالحهم. اشتركوا في السلطة بسرور فائق على مدى السنين، وكانوا يتبادلون المنافع. على الرغم من استقالة رئيس الحكومة ابان تظاهرات ثورة تشرين إلا أنه قدم برنامجاً وافقت عليه حكومة الوحدة الوطنية؛ وكان البرنامج لا يتجاوب إطلاقاً مع مطالب الثورة. هو برنامج الطبقة العليا الحاكمة اياها.  طبقة تنظر الى المجتمع وكأنه لزوم ما لا يلزم. هذا المجتمع يلزم لإنتاج القيمة وفائضها الذين يقتطعونه ليشكل تراكمه ثرواتهم. هذا الفائض رغم التسمية هو الذي يشكّل القسم الأكبر من إنتاج المنتجين. وهو مجتمع لا يلزم لأن له مطالب ولأنه يثير القلاقل والمشاكل وتتسبب مطالبه بفوضى اجتماعية تخيف الحكام.

لا تختلف الموالاة والمعارضة حول المهمة التي تقوم بها السلطة بل على اعتقاد كل منهما بأنه يقوم بالمهمة ذاتها بمستوى أعلى من الكفاءة. جميعهم في السلطة سواء كانوا في الحكم أو لم يكونوا؛ يمارسون السلطة عن طريق أتباعهم في السلطة أو في الإدارة البيروقراطية. لذلك نراهم يقيمون الدنيا ويقعدونها، ويعلو الصراخ وتشتد الصراعات عند التعيينات. يفترض بالموظفين ذوي الرتب العليا أن يكونوا تابعين كلاً لمرجعيته في السلطة.

شاركت المعارضة الآن، أو ما يُسمى 14 أذار، في حكومات الوحدة الوطنية منذ عام 2005، وكان ما يُسمى 8 أذار هم الطرف الأقوى فيها. لا معنى للكلام عن ميراث الثلاثين سنة الماضية إلا بأن يشمل ذلك جميع الطبقة السياسية، والتي لا يهم إذا شاركت بالحكومة أو لا، إلا أنها كانت مشاركة في السلطة طيلة الفترة السابقة.

لا تستند الأحزاب في لبنان (أو الحركات أو التيارات، والمؤدى واحد) الى برامج تتقيّد بها. نادراً ما نجد وثيقة مكتوبة لحزب يعتبرها تفسيراً للايديولوجيا السياسية التي يعتنقها. الأحزاب كتل بشرية تتبع ما يمكن أن نسميه “كبش الطائفة” (لكل قطيع كبش يقوده). كل منها يعتمد على العصبية الطائفية وعلى الخدمات. غالباً ما ترتبط العصبية بالخدمات. واحدة منهما تؤدي الى الأخرى أو العكس. الأحزاب معظمها ذات ايديولوجيا واحدة. تتكوّن حسب الطيف الطائفي. ايديولوجياً، يمكن القول أن هذه الأحزاب هي بالأحرى أجنحة متعددة لحزب واحد. زعماؤهم لا يختلفون في الايديولوجيا  (نيوليبرالية) أو في مقاربة الدولة، وهل يجب أن يكون الأمر أقرب الى اليمين أو اليسار،  وهل يكون تدخل الدولة في الاقتصاد ذا فعالية، أو هل يجب أن تتدخل الدولة إلا حين الكوارث. فالجميع يطلبون منها العون والمساعدة. أكباش الطوائف وأتباعهم لا يختلفون في الايديولوجيا أو العقائد السياسية؛ ربما اختلفوا في المواقف أحيانا، وهذا أمر يمت بصلة الى السلطة وصراعها. لا يختلفون حول مصالحه ومستقبله. لديهم فقط مواقف يعبرون عنها حول السلطة وما يمت الى المواقع منها بصلة. للسلطة أولوية عندهم لا للشعب ومصالحه. لو كانت مصالح الشعب ذات الأولوية عندهم، بالأحرى لم لم تكن العصبية الطائفية هي الأقوى لما دمرت قطاعات، وأهملت أخرى، والتي كانت قد وصلت لحد العمل بكفاءة كاملة في أواخر التسعينات وأوائل القرن الحالي.

شخصيات النواب تغيّرت كثيرا في الأعوام الثلاثين الأخيرة. اختفى تقريباً عدد المحامين (الذين يفترض أن يعرفوا أكثر من غيرهم بالقانون والدستور والتشريع). وكثر عدد الأغنياء المرغوبين لقدرتهم على تمويل الانتخابات وغير ذلك من نشاطات طائفية يراها الأكباش ضرورية. في زمن الليبرالية الجديدة يفترض أن يكون أصحاب المال الكثير هم الأفهم في أمور القانون. هم الذين يضعون القوانين التي تناسبهم.
بعض أكباش الطوائف يقودونها ويملون عليها الخطاب السياسي. بعضها يلجأون لطوائفهم حين تصيبهم أزمات، ويكون الخطاب هو الإثارة ضد التهميش والغبن الطائفيين. والبعض الآخر يمنع تنفيذ مشاريع بحجة عدم التوازن الطائفي، أو ينشئ مشاريع تتصف بالفائدة الطائفية وحسب. لا ينفرد أي منهم بأسلوب واحد، بل ربما لجأ الى الأساليب كلها ولو بنسب مختلفة.

لم تغيّر الطبقة السياسية سلوكها بعد 17 تشرين الأول 2019. اعتبرت كأن شيئاً لم يكن، رغم تتابع التظاهرات المتفرقة واليومية للمحتجين على السلطة. اعتبرت الطبقة السياسية أنها في مأمن من غضب شعبها. أو أن الغضب الشعبي لن يتكرر كما كان في 17 تشرين والأيام التي تلته. بعض أحزاب السلطة اعتمدت الدعم الخارجي وتباهت به. والذين استقالوا كان لديهم الاعتبار ذاته. لم يستقيلوا تجاوباً مع الشعب ومطالبه بل نكاية بخصومهم في السلطة. لم يتغيّر شيء في السلطة سوى المجيء بحكومة أقل كفاءة مما سبقها ومما سيأتي بعدها.

لم يتغيّر شيء في سلوك السلطة إلا نحو الأسوأ. ربما لأنها اعتبرت أن ما وحدته المطالب الاجتماعية-الاقتصادية تفرقه الطائفية والحنكة السياسية عند قادة طائفيين ليس لديهم من الحنكة إلا حنك الكلام والتبجّح بانجازات لم تحدث، أو انجازات كلامية، أو انجازات كانت على درجة عليا من التحريض الطائفي. راهنوا على أن الغضب الشعبي كان مؤقتاً. كانوا يغامرون بمصير البلد لأن بعضهم استقال، وبعضهم قام بثورات مضادة، وبعضهم لجأ للهوية الطائفية علناً، ومُنع من الكلام من اعتبروه يهدد العصب الطائفي بالكلام. يعرفون أن الطائفية عميقة الجذور لكنهم يعرفون في الوقت نفسه هشاشة التركيبة الطائفية أمام وعي الناس، بل أمام خطورة الوضع الاقتصادي-الاجتماعي (مجتمع بكامله يسير هرولة الى الفقر المدقع) وفداحة الارتكابات باسم الطائفية، وضعف مرتكزات زعاماتهم السياسية في مواجهة موجات غضب الناس.
أدركوا ضعفهم أمام مجتمعهم. لجأوا للخارج. الأساليب ملتوية. بعضهم رحّب بصندوق النقد الدولي. البعض الآخر احتج باسم السيادة. بعضهم رحّب بالاتجاه شرقاً. البعض الآخر فضّل الاستمرار في الاتجاه غرباً. انتهى رفض الاقتصاد الريعي ( وهو تهمة تكال للثلاثين السنة الماضية، على أساس أن غيرهم يُدان بها، بينما هم شركاء فيها وحكام في نصفها) الى الدعوة للزرع على البلكونات من أجل الاكتفاء الذاتي. فهموا أو شرحوا الاكتفاء الذاتي وكأنه وجه آخر للانغلاق الثقافي، وطوروا هذا المفهوم نحو حماية الطوائف كلٍّ لنفسها بالسلاح أمناً، والاقتصاد المغلق، وصار الرجوع الى الريف وزرع الحواكير، ان حصل، ايديولوجيا معدة للنشر. طبقة واحدة بأجنحة متعددة. بعضها يزمّر وبعضها يتراقص. اللحن الحقيقي الوحيد آلام الشعب الذي يئن.

تجاهلوا الأمر الوحيد الذي يستحق الاهتمام، كل الاهتمام، وهو المجتمع ووحدته وتماسكه. وهذا مرتبط بالإنتاج والتبادل. الإنتاج ضروري. التبادل هو أن تصدر ما تستطيع أن تنتج، وأن تستورد ما لا تستطيع أن تنتج. الإنتاج هو بالدرجة الأولى الاعتماد على النفس: العمل والسعي والدأب، وضمان الاستمرارية في كل ذلك. ليس الأمن الاقتصادي هو أن تنتج كل ما تستهلك. هذا مستحيل. بل هو أن تنتج ما يكفل إتاحة الموارد لاستيراد ما لا تستطيع أن تنتج. القطاع الخدماتي (وكأنه بالنسبة لهم الريعي) ليس عالة على المجتمع، بل ربما هو القطاع الأكثر إنتاجية في كل مجتمع، حتى المجتمعات (الصناعية والزراعية) المتقدمة.

المفاضلة الناجعة ليست بين ريعي وإنتاجي، بل هي بين الاعتماد على النفس (على المجتمع) أو على الغير تسولاً وطلباً للمساعدات. المساعدات الخارجية تكون دعماً أو استكمالاً لجهود داخلية، وديون الدولة تكون دعماً للإنتاج (بما فيه قطاع الخدمات) وليس للاستهلاك اليومي.

رفضت الطبقة السياسية أن تقدم أي تنازل ولو جزئي للمجتمع. رأت في الانتخابات المبكرة خطراً على نفسها. والأمر غير مؤكد. رفضت الحلول الجدية لمسائل الكهرباء والماء وسعر الصرف؛ والنفايات أيضاً. اعتبرت أن الشعب غير موجود ألا ليكون تبجيلاً لها. استمرت بالعزف على أوتار ما قبل 17 تشرين. هل حقاً رأت في التغيير الحقيقي خطراً على وجودها؟

ليس الأمر أكيداً، لكنها طبقة سياسية تكره وتخاف أن تغامر، خاصة وأن المغامرة تتعلّق بالمخاطرة بمصير بعضها على الأقل. تصر هذه الطبقة على رفض الدائرة الفردية، وتصر على نظام انتخابات تكون فيها لوائح. كل عضو فيها يدعم الآخرين لضمان النجاح أو عدم السقوط بضعف كبير. نظام انتخابات يعتمد على التحالفات، على تقسيم العمل، بغض النظر عن تقسيم المناطق أو النسبية أو الدائرة الواحدة أو الدائرة على صعيد المحافظة. عند الانتخابات تزول عداوات لدودة واختلافات شديدة، وتنشأ تحالفات لا أساس مبدئياً لها. المبادئ في الأصل لا وجود لها عندهم، والمصالح غير مبنية على مبادىء وانتماءات من أي نوع. المصالح المباشرة فقط. هذه غالبا ما تترجم بالمال. مساكين هؤلاء الناخبين الذين يرتشون بحفنة دولارات للإدلاء بأصواتهم في هذا الاتجاه أو ذاك. المبالغ الكبيرة، ويصح أن نسميها رشوات، هي التي يتم تبادلها عند تشكيل اللوائح. غالباً ما تُقرًّر نتائج الانتخابات عند تشكيل اللوائح لا في صناديق الاقتراع. عند تشكيل اللوائح تزول العداوات والخصومات، ويكون شغل الجميع شيء واحد، وهو تقسيم العمل؛ الواحد منهم يعطي أصواته التجييرية لمن كان خصمه الأمس. تعبير الأصوات التجييرية يوحي بتبعية عدد كبير من الناخبين لهذا المرشح أو ذاك لأسباب طائفية أو خدماتية. الفردية المواطنية تكون غائبة في هذه الحالة. ولا يترك النظام مجالاً لها للنمو. هو نظام اغتيال الفردية، واستقلالية الفرد في أخذ القرار، سواء كان الأمر مع طائفية أو بدونها. يبدو أن الطائفية مفيدة للطبقة السياسية أكثر مما هي مفيدة للناس. تحسن هذه الطبقة استخدامها في السيطرة على الفرد، وفي النهاية، على أموال وممتلكات الناس. وكل ذلك على حساب تطوّر الدولة باتجاه أن تصير دولة حديثة ذات مؤسسات وبيروقراطية مستقلة. لا ديمقراطية حقيقية، يكون خيار الفرد فيها ذا أولوية، إلا بالدائرة الفردية. كلما كبرت الدائرة الانتخابية كلما تضاءل تأثير الفرد وقوي تأثير الجماعة، وغالباً ما تكون هذه طائفية، حتى ولو كانت المسميات أحزابا عقائدية.

النسبية والدفع باتجاه دوائر كبرى لا تفيد إلا للتعمية؛ وهي توازي محاربة الفساد في تجهيل الفاعل. محاربة الفاسدين أولى من محاربة (مقولة) الفساد. تسمية عيد العمال أفضل من تسمية عيد العمل. التجريد ضروري ومفيد لكن في موضعه المناسب. يذهبون الى التجريد من أجل التعمية. التجريد مناسب في العلم والفلسفة، أما في السياسة فالعياني أولى. الدائرة الفردية تفسح المجال للعياني. على الأقل يعرف الناخب لمن يصوّت معرفة حميمة. تجيد الطبقة السياسية تقسيم العمل فيما بينها، لذلك عندما تطرح مشاريع لقانون انتخابات جديدة، يطرحون كل شيء ألا الدائرة الفردية.

تجاهلت الطبقة السياسية ثورة 17 تشرين ومطالبها تجاهلاً كاملا. جاءت بحكومة إنتاج أزمات، وكأن في الأمر عقوبة ضد الناس. توهم الناس أن هناك معارضة وموالاة. فإذا بالطبقة الحاكمة تعيد تجديد نفسها عن طريق تقسيم جديد للعمل.

مهما اختلفوا تجمعهم ايديولوجيا نيوليبرالية دون استثناء. في النيوليبرالية الأولوية لمن يحكم لا لمن هم المحكومين. النيوليبرالية في السياسة نظام حكم بالأمر. عادت الطبقة السياسية تحكم بالأمر دون إيلاء مصالح الناس أية أهمية.