17
Jul
2020
0

لبنان بعد الثورة، سلطة إنتاج الأزمات – ٢

بعكس المتظاهرين وأهل الثورة، كان عند أهل السلطة وأحزابها فقدان تام للوعي بالدولة. هم أهل السلطة وحسب. سلطة تمارس شتى أنواع القمع والطائفية. في حين كان الثوار يهتفون للهوية الوطنية الجامعة والعيش المشترك، كانت أحزاب أمل وحزب الله والتيار الوطني يرفعون شعارات الهوية الطائفية ويمارسون أفعالاً قمعية. اعتقدوا أن الطائفية تحميهم وتبقيهم أهل السلطة. خافوا لا على سلطتهم على النظام وحسب، بل سلطتهم على من كانوا ومازالوا يعتبرونهم جماعتهم أو بيئتهم الحاضنة. أرادوا أن تبقى البيئة الطائفية حاضنة، وأصروا على تغذية الشعور بالطائفية والاستعلاء على الآخرين. بالنسبة لهم انتماؤهم الطائفي وحده كفيل بأن يجعلهم على عداء مع الثورة، مدافعين عن السلطة، مستخدمين للعنف. اعتبروا الثورة تهدد مواقعهم في السلطة. والحقيقة أن الثورة هددت مواقع أهل السلطة ولم تهدد هؤلاء الجموع من الفقراء الذين اندفعوا من الأحياء الفقيرة، مشاة أو راكبي دراجات، ليمارسوا عنفاً ضد المتظاهرين. عنفاً لم تمارسه الأجهزة الأمنية. لم يكن نقاش أو حوار بينهم وبين المتظاهرين. كان لديهم فقط شعارات الهوية الطائفية والتباهي بممارسة العنف ومظاهر القوة الجسدية. لم يكونوا أهل نقاش. ولم يكونوا مدربين على ذلك. يبدو أن تدريبهم اقتصر على الطاعة وتنفيذ الأوامر والتوجه حسبما يمليه أكباش الطوائف.

أمر مؤلم حقاً هو أن فريقاً من اللبنانيين، هم الثوار، أو فلنقل المتظاهرين، كانوا ينادون بشعارات مطلبية تتناول حياة المواطنين اليومية، وهدر كرامتهم، ومحاولات إفقارهم الناجحة، أما الفريق المقابل فلم يكن لديهم سوى شعارات تأكيد الهوية الطائفية. حتى فريق التيار الوطني الحر لم يرفع شعارات وطنية. وكأنهم كانوا يشعرون أن شعارات العيش المشترك وشعارات الوطنية اللبنانية تهدد وجودهم الطائفي على رأس السلطة. بالنسبة لهم، الطائفة هي السلطة، والسلطة هي الطائفة. ما عدا ذلك غيرهم من اللبنانيين ليسوا هماً بالنسبة لهم. فليذهبوا الى الجحيم. ظنوا أن بإمكانهم وحدهم إعادة تشكيل السلطة. وهذا الأمر أدى الى تشكيل حكومة حسان دياب. حولوا مطلب “حكومة اختصاصيين وخبراء حياديين” الى حكومة مستشارين وموظفين لديهم شهادات عالية واستعداد كامل لتنفيذ الأوامر، لا ممارسة السياسة والنقاش والحوار والعمل على بناء وإطلاق عجلة الإنتاج. السلطة تعني لهم المغانم. والمغانم تأتي عن طريق تعيين مدراء في السلطة، وإطلاق بعض مشاريع البنية التحتية التي لا تخدم إلا مناطق ذات طوائف من لون معيّن، حتى ولو لم تكن ذات جدوى اقتصادية (سد المسيلحة قرب البترون؛ وهذا السد لم يتحمل تخزين المياه في السنة الأولى من تشغيله). يضاف الى ذلك الوقوف بصلابة ضد مشاريع البنية التحتية ذات الفائدة الوطنية. الى الآن لا تفسير معقولا لمعارضتهم توسيع مشروعي دير عمار والزهراني، علماً بأن المعملين مهيأين منذ بداية التخطيط لهما في التسعينات لهذه التوسعة دون استملاكات إضافية. كان بالإمكان التوسعة في هذين المعملين وتزويد كل الوطن بالطاقة الكهربائية طوال أيام السنة، و24 ساعة/24 ساعة يومياً. الإصرار على معمل سلعاتا كان مطلباً طائفياً بامتياز. ولو أنشئ لاحتاج الى تجهيزات إضافية (محطات تحويل) وتعديلات في شبكة خطوط التوتر العالي. باختصار فريق السلطة كان مسيطراً على وزارة الطاقة لأكثر من 15 عاماً وكان بإمكانه حل مشكلة الكهرباء بأقل من مليار دولار. أما قطاع المياه التابع لهذه الوزارة فقد دُمِّرَ وصارت معظم بنايات بيروت وغيرها تتزوّد بالمياه عن طريق الشاحنات المزودة بصهاريج. فهل كان هناك عصابات للصهاريج، وبعضها استورد خصيصاً لهذه المهمة، كما كان هناك عصابات محسوبة على أهل السلطة لوضع مولدات كهربائية في الأحياء تحل مكان نظام الكهرباء الممتد على مدى الوطن؟ إن في الأمر خصخصة الأمر الواقع. فهل كانت ورائها مصالح طائفية وشخصية؟ الأخطر هو إحلال تجهيزات محلية مكان الشبكات الوطنية. خصخصة الأمر الواقع. نيوليبرالية مشوهة. وهل يمكن تشويه النيوليبرالية أكثر ما هي تشويه للواقع؟

هذه سلطة إنتاج الأزمات. الأمر أزمة في كل قطاع وفي كل زاوية؛ والسلطة تنتج كل أزمة. الحجة هي أن الآخرين من المعارضين وغيرهم يعرقلون السلطة ولا يفسحون المجال لها للعمل والإنجاز. من يفتعل الأعذار كي لا يعمل ولا ينتج هو عاجز عن القرار والإنجاز. لا يعترفون بعجزهم. ما زالوا يتصرفون وكأنهم المنقذون. الدون كيشوتية تملأ نفوسهم. دواليب الهواء تغطي بصيرتهم. إنتاج أزمات، تدمير كل القطاعات، فقدان ثقة، انهيار اقتصادي واجتماعي؛ كل ذلك من أجل أن تتدنى أسعار الممتلكات والعقارات المبنية وغير المبنية من أجل أن يشتريها أصحاب المال الوفير بأسعار بخسة. الأزمات مفتعلة من أجل تشليح الناس ممتلكاتهم ليحدث التراكم البدائي والوحشي عند أصحاب السلطة والمال. خطاب زعمائهم يخلو من الحلول. وما الدعوة الى العودة الى القرى والزرع سوى محاولة لتفادي الجوع والمجاعة لأنهم يعرفون ويخططون لما هو آتٍ. لا يمكن أن يحدث كل ما يحدث وأهل السلطة غافلون. التجاهل موضع شبهة، والشبهة تدفعنا الى الشك بنواياهم؛ نواياهم ضد شعبهم؛ هم لا يتجاهلون ثورة 17 تشرين الأول وحسب، بل يتجاهلون شعبهم. تجريده من مكتسباته، تجريده من ممتلكاته، تجريد الدولة من ممتلكاتها في سبيل التملّك بتشليح الناس ممتلكاتهم وسلخ الدولة عن قواها وعن ممتلكاتها.  وهل يظنون بأنه سيبقى غير هيكل عظمي سقيم.

والذين يتحدثون عن حصار على لبنان، ألا يدركون أن الحصار هو في حقيقة الأمر من الداخل، وأن أهل السلطة يفرضون هذا الحصار؟ أربع حالات من الانتحار بسبب الفقر والجوع. واحدة منها كانت كافية لإسقاط نظام في بلد عربي آخر يحكمه طاغية اعتبر نفسه أباً للمجتمع. لم يرف لهم جفن. عيونهم لا تدمع. نفوسهم لا تخاف من المستقبل. هذا المستقبل الكارثي هم يصنعونه. طبيعي أن لا تتأثر نفوسهم الخشبية بعمليات الانتحار ولا بالانهيار الذي يحدث.

فريق منهم يريدون مواجهة الامبريالية الأميركية. ليتهم يفهمون معنى الامبريالية. لكن المواجهة تتطلّب أكثر بكثير من شعب فقد القدرة على البقاء. فقدان هذه القدرة سياسة مبرمجة لا بدّ أن واضعيها لديهم تصوّر عن البلد يريدون تحقيقه بغض النظر عن إرادة الشعب، وبغض النظر عن ضرورات البقاء في دولة ذات قوام. فريق آخر منهم يعتقد أن الدولة غير موجودة. هي موجودة لكن يريدونها مريضة؛ هيكلاً لا محتوى ولا مضمون له سوى أفكارهم وتخيلاتهم البائسة. نموذجهم المرغوب هو الدولة الغربية، أما عندنا فهي دولة كولونيالية متخلفة مستباحة غير عابئة بهموم الناس ومطالبهم. في كل دول العالم فساد؛ الفرق بين دول الغرب ودولتنا أنهم هناك يسرقون ويفعلون ما يفيد الناس، وهنا يسرقون ويقفون عقبة في وجه مشاريع تفيد الناس. الرأي العام مهم لديهم والفساد جانبي أو ثانوي؛  أما عندنا، فإن الفساد هو الأساس بينما الرأي العام جانبي أو ثانوي. السياسة هناك لها مدى أكبر وأوسع. السياسة عندنا ضامرة هشة. مظهر خارجي أو مجرد تهريج. حكومتنا الراهنة مثال أعلى للتهريج. مجرد واجهة لنظام جوهره مأساوي، وظاهره كوميدي. هي على كل حال تنبثق من نظام أحزاب السلطة التي تريد حكومة واجهة لا حكومة تحكم.  لكن وجود هذه الحكومة ينضح بما يضمره أهل السلطة وأحزابها. ليس حقيقة عدم وجود الدولة. الحقيقة أن الدولة موجودة، وهي التي يريدها أهل السلطة. هذه الدولة تنضح بما فيهم. الدولة تصنع في كل لحظة. وهم يصنعونها الآن؛ يصنعونها على شاكلتهم. مشاكلة الناس لزمانهم هو مفهوم قديم في تراث الدولة عندنا؛ قديم قدم الدولة. تحدث بذلك المقريزي. عدم تأمين الكهرباء مثال فاضح. أما السدود التي بنيت ولا تجمع المياه، فهي غائبة عن السمع.

بدت السلطة وكأنها تلوّح بالأصبع الوسطى تجاه الشعب عند تعيين هذه الحكومة. واضح أن جماعات الاحتجاج لم يستخدموا وسائل العنف. لم يكن بمقدورهم ذلك. العنف كان حكراً على المعادين للثورة وعلى قوى الأمن. جماعات الاحتجاج كان لديهم الكثير من المطالب والقليل من البرامج. لكن صوتهم كان عالياً ومسموعاً، وهو كان الأقوى، بفارق كبير بينه وبين أحزاب السلطة. لكن أحزاب السلطة كان لديهم مشروع أساسه البقاء في السلطة، وعدم الاكتراث لمطالب المحتجين أو الثوار. وعلى الأقل حزب الله من بين أحزاب السلطة كان لديه، وما يزال، مشروع للمنطقة في المشرق العربي. من الأجدر أن يعلن هذا المشروع، وأن لا يتكلم عن نفسه وكأنه يفتقد الى المشروع، والى فقدان الخبرة في الدولة. 15 سنة في الوزارة كافية لتعليم وتدريب أي حزب على دهاليز السلطة مهما كانت قدراته العقلية. وهو داعم كبير للحكومة الحالية. ويدعمها لمساهمتها في إثارة الأزمة لا إدارتها. لولا رضى حزب الله عن هذه الحكومة لكانت سقطت في يوم واحد. حزب الله يعرف استخدام تنظيمات الواجهات عندما يريد.

هي حكومة إثارة الأزمات، مدعومة من حزب الله، وبالتالي من حليفه التيار الوطني. وهو الأكثر براعة في المشاكل والأكثر لؤما واستفزازاً.  هل يعقل أن يكون بري وحزبه مجرّد اطفائيين للحرائق. المشروع الوحيد والفاعل في الدولة اللبنانية هو عند حزب الله. هو مشروع للدولة اللبنانية. يحق لهم ذلك لكن واجبهم الإفصاح عنه ومناقشته مع مواطنيهم الذين لا يجوز أن يُتركوا في العتم والظلام. تمنّع كثيراً حزب الله عن الصيرورة الى حزب سياسي. أصروا على لقب “المقاومة” مع أل التعريف. العيش سوية في لبنان وفي أي بلد في العالم يتطلّب السياسة أي الانفتاح. انفتاح الناس على بعضهم البعض. هل يستطيع ذلك حزب الله أم يصر على أن يبقى تنظيماً مغلقاً كتعبير عن ثقافة مغلقة. لا تهم مسألة السلاح بقدر ما يهم الانفتاح بعد سنين من الانغلاق الذي ربما جرتهم الظروف إليه.

في الصراع الدولي حول لبنان، حزب الله هو المعني بذلك. نريد أن نكون الى جانبه، ونريد الدفاع عنه، على الأقل نريد المشاركة في ذلك. لكن نريد أن نعرف فيما نشارك وعما ندافع.  سنكون على قدر كبير من الغباء ان شاركنا ودافعنا عن شيء لا نعرف عنه شيئاً. واجهة محاربة الفساد للتعمية. هناك مشروع لدى حزب الله حول الكيان اللبناني، وحول الدولة اللبنانية. هل يريدوننا مشاركتهم، أو على الأقل محاورتهم ونقاشهم أم نبقى في الظلام؟ ممارسة السياسة بمعناها الكبير ليست عيباً، بل هي المطلوب. ربما كانت هي المطلوب الوحيد من أجل سوية لبنان.
من حقنا أن نعلم. لسنا ممن يقصرون في المواجهات ضد الامبريالية. العيش المشترك كمواطنين هو المطلوب، لا التعايش كطوائف.