30
Apr
2021
0

نمط إنتاج كوروني

تهاجر الطبقات العليا، المالية منها خاصة. ليس بسبب الكورونا وحسب، بل بسبب مصالحها المالية. ترحل مع أموالها. لا يعنيها خلاص البلد، بل خلاصها مع أموالها. لم تخسر البنوك، بل ارتفعت ثرواتها خلال الكورونا. لكنها خسرت بمعنى أن يبقى موضعها في لبنان كما كان قبل خروجها منه. فهل خسرت موقعها السياسي؟ هي جاهزة للعودة دون أموالها. وربما بقيت في بلادها دون أموالها؛ قسم منها على الأقل.

الاقتصاد السياسي للكورونا حوّل الوباء الى جزء من الإنتاج. إنتاج مالي. مع تدهور الإنتاج الحقيقي السلعي بسبب الحجر، تصاعدت أسهم ووال ستريت، وازداد عدد من يملكون التريلليونات. مع احتجاز الناس أنفسهم في البيوت، اضطروا لاستخدام الميديا، والانترنت، وآلة التلفون الذكي. ازداد استخدام منصات وسائل التواصل الاجتماعي، فارتفعت أسهم شركاتها، بينما أغلقت الكثير من المصانع وكثر عدد العاطلين عن العمل. حتى الولايات المتحدة توزع إعانات مالية (1400 دولار) من أجل تحفيز الاستهلاك. الجائحة كانت كارثة بالنسبة للعمال الزراعيين والصناعيين، وأصحاب متاجر الخدمات. وكانت كارثة أكبر للذين سُرحوا من عملهم بسبب الإغلاق. العمل والتعليم من خلال الإنترنت يبقى محدودا. الإغلاق يعني البطالة. لكن الحاجة الى العمل في المكاتب والمعامل لإنتاج السلع المادية تبقى أساسية. ويتطلب ذلك وجود العاملين في أماكن العمل. هؤلاء الذين يشكلون معظم البشرية يخسرون. أصحاب الأموال يربحون بالمضاربات. وأصحاب وسائل الاتصال يزدهرون. أنت في بيتك محجوز لكنك تحتاج الى ما يصلك بالعالم الخارجي.

أقحمت الكورونا نفسها، أو تم إقحامها في وسائل الإنتاج. هي وبال على معظم الناس لكنها فرصة للأقلية المالية. هناك مساعدات في مقابل ذلك. هناك طبع أوراق مالية. بنكنوت بأعداد كبيرة مما سيزيد التضخم. وضعت قيود على حسابات الطبقات الوسطى والدنيا. أما أموال الطبقة العليا (أقل من 1% من الناس) في كل أنحاء العالم فهي حرة. حرية التحويلات ممنوعة على الطبقات الدنيا، لكنها حرة للطبقات العليا.

فضائح كبيرة في شركات الأدوية واللقاحات. المنافسات تشتد والمؤامرات تكثر. تكتشف أن اللقاحات لا تصنع بمعظمها في بلدان المنشأ. هذه لها مصانع هناك إلا قليلا، لكن مصانعها كثيرة في بلدان العالم الذي كان يُسمى ثالثاً، للاستفادة من الأيدي العاملة الرخيصة. زبائن لقاح الكورونا، وبعدها دواء الكورونا حين يوجد، هم كل البشرية.  الهلع يضطر معظمهم لاستهلاك اللقاح. بضعة شركات في العالم تنتج اللقاح. طبيعي أن تنشأ منافسة قومية بين بلدان الشركات التي تملك (ليس بالضرورة تنتج) اللقاح. طبيعي أيضاً أن تشكّل كارتيلاً يضاهي الكارتيلات الأخرى مثل شركات النفط. ربما كانت شركات الأدوية أقوى. يبدو أننا سنستهلك اللقاح ليس مرة واحدة بجرعتين، بل يحتاجه كل منا لعدة مرات. هذا يعطي الشركات قدرة الهيمنة على حكوماتها وعلى البشرية. بالطبع بنية الأسعار غير معروفة. الفرق بين الكلفة والسعر هو أرباح الشركات. وهذه حتما ستكون كبيرة.

تزود الشركات الدواء من خلال الدول. وهذه اول مصدر من الأرباح التي تُجنى عموديا، ومن الذين يعملون في معاملها؛ ومن أسواق المال (ووال ستريت) حيث تجنى الأرباح من تغييرات أسعار الأسهم، ويكون اتجاه الربح هنا أفقياً. المستهلك الأساسي للقاح هو الفيروس (بالنتيجة البشري الذي يسكنه الفيروس). لكن هذا المستهلك (الفيروس) لا يفعل ذلك من أجل التوالد بل من أجل أن يموت. مهمة الفيروس هي إماتة الانسان الذي يسكن جسمه. تبدو مهمة اللقاح إنقاذية، وهي كذلك. المشكلة الأساسية في أداء اللقاح وبطء وصوله للمستهلك. لن تحقق الدول الصغيرة والفقيرة المناعة الجماعية (مناعة القطيع) إلا بعد سنوات. وهذا الأمر مشكوك فيه وفي الوصول الى الغاية المرجوة.

بلدان كثيرة لن تحقق مناعة القطيع بسبب بطء الإنتاج وافتقار كثير من البلدان الى دفع الكلفة. الكلفة الإنسانية سوف تكون كبيرة، بأعداد كبيرة من الإصابات والأموات. النتيجة ستكون فناء جزء كبير أو صغير من البشرية. هذا يحقق واحداً من أهداف النيوليبرالية. فهي تحتاج الى عدد أقل من البشرية. رأسمالية مالية تجني الأرباح من  “الاستثمارات المالية”، والمستهلكون الحقيقيون من البشر لا يعود وجودهم مهما.

تعرف الرأسمالية كيفية البقاء. تسحب الأموال والثروات من الطبقات العليا والمتوسطة في بلدان المركز، وتمارس من خلال حكومات العالم الذي كان ثالثا أسوأ أنواع الاستغلال. في بلادها الأصلية استغلال على خطوط أفقية وعمودية، وفي بلدان الأطراف استغلال عمودي (من الأعلى الى الأدنى).

دخل الكورونا في صلب عملية الإنتاج. يدخل الفيروس جسم الانسان (انتاج)، والذي بدوره يحتاج الى لقاح (لا دواء حتى الآن) وهو استهلاك. يباع اللقاح في الأسواق عبر منصات هي للدولة في معظم الأحيان. وتسيطر الشركات على سوق التوزيع كما سوق الإنتاج، كما في النفط. الإنتاج يتم في معامل تشكّل شبكة حول العالم. اسم الدواء منوط بإيحاء مشاعر حول كفاءته أو عدم كفاءته. لا يعلم الأطباء والمستهلكون ما محتويات اللقاح. لا تفشي الشركة سر المهنة. على الأقل، سيبقى حق الملكية، كما هو في قوانين منظمة التجارة العالمية، سرا يملكه المخترع، وهو الشركة الأم لا الشخص الذي قام بالاختراع، إذ تنتزع الشركات من العاملين كل اختراعاتهم. مبدأ التنافس لا التعاون يسود الجميع. الاحتكار سيد الموقف حتى ولو كان عدد المصابين (المستهلكين) يفوق قدرة شركات الأدوية على إنتاج اللقاح (السلعة). شركات كبرى تقارع الدول من مختلف الأحجام. شبكة الإنتاج معقدة. المختبرات في بلد ومعامل الإنتاج في بلد. طبعا، لبلدان العالم الثالث سابقا حصة كبيرة لخفض كلفة الإنتاج حسب انخفاض أجور الأيد العاملة. البلد حيث معمل إنتاج اللقاح ليس له أولوية. الأولوية لبلدان المركز. حتى أوروبا، من بلدان المركز، تعاني. وتضطر حسب العقود لنقل معامل اللقاح خارج بلادها. هناك مؤسسات في كل دولة. لا يحق بيع اللقاح إلا برخصة. الدولة تثبت وجودها بإعطاء الرخصة أو عدم ذلك. المنافسة بين الشركات جارية كالعادة. تكفي إشاعة واحدة لسحب الترخيص. إذا ذهب الواحد في العمق يجد أن مطلقي الإشاعات شركات أخرى. كل شركة حريصة على ما عندها وأسرارها. ذلك مصدر ربحها وقدرتها على فرض الأسعار التي لا نعلم ولا يعلم أحد من خارج الحلقة مدى تناسبها مع كلفة الإنتاج، وهكذا….

نمط الإنتاج هذا يشبه نمط الإنتاج السلعي عامة. يخضع للاحتكار كما هو حال الإنتاج الرأسمالي كله؛ الشبكة العالمية يسيطر عليها قلة من أصحاب رأس المال المالي.  الاستهلالك في العالم هو لمن استطاع إليه سبيلاً (من يملك المال). المال يسيطر على الإنتاج والتوزيع.

الوصف حتى الآن يشبه قصة أية سلعة رأسمالية أخرى. لكن البنى الاجتماعية مختلفة. تنشأ تشكيلات اجتماعية لا تستطيع وصفها إلا بأنها تشكيلات تبشر بظهور بربرية جديدة. الكمامة (سد الأفواه)، التباعد الاجتماعي (فردية مطلقة وعدم ثقة بالآخر)، النظافة (غسل اليدين والتطهير الكامل)، كل ذلك لإنتاج إنسان فرد يطيع ويستسلم. التعليمات تأتي من فوق. لا خيارات لدى المستهلكين. مجتمعات مغلقة. كل ذلك وسط أزمة مالية أخرى. بدأت ملامحها قبل الوباء واستفحلت معه. أرباح هائلة لقلة من الناس. بضعة آلاف شخص حول العالم. بالطبع معظمهم في بلدان المركز العالمي. شركات الميديا والتواصل الاجتماعي مستفيدة كبرى. حققت أرباحا هائلة تفوق كل الشركات في كل مجالات “الإنتاج” الأخرى. من يُفرض عليه السجن الطوعي، لا يستطيع تمضية الوقت إلا بمشاهدة التلفزيون وأفلامه، والحديث مع الأفراد الآخرين عبر الهاتف (الآلة الذكية). الألعاب الديجتالية لها سوق رائجة. استهلاك المعلوماتية في ازدياد. حتى التعليم صار أونلايني، وصار سلعة.

العالم كله في حالة طوارىء. منع التجوّل في كثير من الأحيان (لوكداون). اقتصاد بالأمر. منافسات قومية. النتيجة تفريخ فاشيات بأسرع مما كان قبلا. الرأسمال المالي العالمي يفرّخ سياسات الهوية وإنتاج الفاشية في كل أنحاء العالم. نمط الإنتاج الوبائي يسرّع العملية. مع انتشار الوباء تتوسّع رقعة انتشار الحروب، الداخلية والخارجية. لا أحد يدري كم ستصمد بنى المجتمعات المفتوحة وديمقراطياتها، حتي في بلدان المركز. مساعدات إنسانية هنا وهناك. تبقى على هامش المجتمعات. الأبقى والأوسع انتشارا هو الفوضى العالمية وما يصاحبها من انهيارات اقتصادية (ازدياد عدد العاطلين واليائسين من فرص العمل). تصاعد أعمال العنف الفردية والجماعية. الموت سيكون أكثر بكثير مما تقوله الأرقام المعلنة. الموت بسبب الوباء والموت بسبب الأوضاع الاجتماعية. انتظام المجتمع البشري على شفير الهاوية. عنف الوباء يضاهيه العنف الاجتماعي. وكل منهما سبب للآخر. احتجاجات الناس وتظاهراتهم حول العالم ضد التكبيل وكم الأفواه والسجن الطوعي، مما يضطر الناس  للثورة على قمعهم، حيث أمكن ذلك. لكن القمع هذه المرة له مبرراته “العلمية”. هل كان باستطاعة العلم أن يتجه في مسارات أخرى أكثر ديمقراطية وتعاوناً بين البشر، وبالتالي أقل نفاقاً ولؤماً؟ لا أحد يعرف. البشرية أمام مأساة الانهيار في عجز كامل. العلم يتكلم. هذا ليس تحريضاً ضد العلم بل من أجل أن يكون ذا أهداف أكثر إنسانية وتعاوناً إنسانياً.
يقال أنه في الحرب يعبّىء كل بلد جميع طاقاته الإنتاجية في سبيل المواجهة العسكرية. إنتاج اللقاحات والأدوية ما زال محصوراً بشركات محدودة العدد ومختبراتها ومصانعها. لا تخوض البشرية حرباً ضد هذا الوباء العالمي. لا تعبّئ الطاقات العلمية والصناعية. تتصرف الدول وكأن الأحوال عادية. هناك أشياء كثيرة لا نعرفها عن الوباء واللقاح. إنتاج الهلع واقع. لكن الكلام عن متحورات للكورونا لا يستطيع العلم اللحاق بها، هل هو صحيح؟ أم المقصود شيء آخر غير إنقاذ البشرية. ألا يتطلّب الإنقاذ مقاربة أخرى للعلم والاقتصاد؟
نمط الإنتاج الحالي لا يحل المشكلة. مصير البشرية على المحك. ألا يتطلب الأمر أنماطاً أخرى؟