9
Jul
2021
0

احتقار الجغرافيا

في الأديان الخلاصية تحتل السماء أولوية على الأرض. يقود ذلك الى احتقار المكان. ولا يقلّ الأمر خطورة عن احتقار التاريخ والحقد عليه. الحياة على الأرض هي حالة عبور الى دار البقاء. ما يحصل على الأرض لا تُقرر نتائجه على الأرض، بل في السماء والحياة الآخرة. هناك يوم الحساب والثواب والعقاب. لا نعرف إذا كانت الزيارة المتخيلة التي قام بها أبو العلاء المعري للحياة الآخرة أحدثت صدمة عند المسلمين، مثل الزيارة بعدها التي قام بها دانتي أليغري، والذي كان من رواد النهضة الأوروبية. زيارته أيضاً كانت متخيلة.

كان يقال أنه بالنسبة للعرب (والمسلمين عامة ربما) العرض أهم من الأرض. ذلك يقود الى عدم أولوية الأرض في اهتماماتهم. الأولوية هي في الشرف والكرامة وما في الذات من سمو. كل ذلك يقود الى أن السماء أولوية على الأرض، والحياة الآخرة على الحياة الدنيا، والقضية العليا، سواء كانت دينية أو علمانية، على الحياة الدنيا؛ والحزن على الفرح، والغم على الأمل، والإحباط على الإقدام، والملامة على الشجاعة، والطهارة على العمل، والطقوس على الإيمان. الإيمان يجر الى الفرح والطقوس حذر دائم. خوف أبدي وتوق الى الخلاص من الإثم والخطيئة. أساسا العلاقة مع السماء مبنية لديهم على الهبوط من السماء بسبب الخطيئة. وهذه سيرة الحياة الدنيا. ففيها التوق الى السماء.

استغرب أحد أهم المفكرين العرب المعاصرين، عبد الله العروي، كيف أن تأسيس الكنيسة قام على افتراض أولوية السماء، بينما الإسلام منذ البداية حض أتباعه على الاهتمام بالدنيا. وكيف أن هذا الأمر انقلب فيما بعد. ربما كان هذا الانقلاب سببا في صعود الغرب، وتراجع المجتمعات الإسلامية. تغلب عندنا تقنيات الطهارة على تقنيات الطبيعة. وضعنا كل ذلك في إطار  مقولة “روحانية الشرق ومادية الغرب”. الروح لا تحتاج الى معرفة العالم الخارجي. هي ما يتعلق بالذات وحسب. الذات الفردية والذات الجماعية.

المكان هو في النهاية الدنيا أو الأرض. الكون والطبيعة. المكان على الأرض هو الجغرافيا. هو الدولة بحدودها، وفي نهاية المطاف علاقة الانسان بالأرض. وعلاقته بالانسان الآخر. وذلك في حدود جغرافية يتم الاعتراف بها بعد أن يكون قد جرى رسمها أو ترسيمها.

الدعوة الدينية، كما القومية، كما السوفياتية، تتخطى الحدود. تتحدى الجغرافيا. تعطي الأولوية للقضية على حساب الحياة الدنيوية، وعلى حساب الناس. لم تستطع هذه التشكيلات الحزبية، أو أية واحدة منها، اجتراح توازن بين السماء والدنيا، وبين الحياة والآخرة، أو بين القضية العليا والحياة اليومية. فهمهم جميعا للدولة كان دائما جانبيا. انحياز كامل لصالح مقتضيات الحزب على حساب المواطنية والدولة وجغرافيا الدولة أو الحدود على الأرض. وما الدولة إلا مكان زائد المواطنين، أو من يفترض أن يكونوا مواطنين في الدولة. الحقد على التاريخ متمم لإنكار الجغرافيا. الدعوة أو القضية العليا أبدية أزلية. لا يهمها مكان حدوثها أو زمانها. الزمن في العلم الحديث بعد رابع للمكان. إهمال الدنيا لأنهم يعتبرون الدنيا دار فناء ووسيلة للوصول الى دار البقاء. الدنيا ساحة صراع بين أتباع الحقيقة المطلقة وأتباع الباطل. ليست مهمة بمقدار ما يؤدي الصراع الى النصر على أهل الباطل. حتى إذا لم يحدث الانتصار، يجب أن نفترضه، وإلا فقدنا واحدا من ضرورات القضية أو الدعوة. إذا لم نفترض النصر، فمعنى ذلك أن السماء ليست معنا. النصر والهزيمة من عند الله. لا فضل في ذلك للناس إلا أن يكون الأمر فيه مرضاة الله. الناس وقود لإرادة غيرهم. هذا الغير هم وكلاء الله أو القضية. الدنيا وسيلة. كل شيء فيها وسيلة. التكنولوجيا وسيلة. العلم الحديث، وهو مصدر التكنولوجيا، لا يُعترف به. العلم الحديث جزء من ثقافة الغرب، وهذه ينكرونها رغم أنهم يأخذون بنتائجها التكنولوجية. التكنولوجيا سلعة. هذه يستوردونها ويعلمونها لأولادهم. العلم الصحيح هو ما في بطون الكتب من التراث، أو الكتب التي تمليها اللجنة المركزية للحزب. أحزاب متعددة ومختلفة في أشياء كثيرة. تشترك في البنى الذهنية التي تحتقر المكان والزمان والناس باعتبارهم أدوات، والدنيا باعتبارها ممرا لما يبقى.

المتاح للجميع، بل المفروض على الجميع، هو وحده الذي يتيح الخلاص في الآخرة. الثابت عندهم هو الآخرة. الدنيا مجال لحقائق افتراضية مع كل ما يمكن أن يقود ذلك الى تلاعب بالدنيا واحتيال عليها وعلى ساكنيها. الناس ليسوا ورثة الله على الأرض. هم فقط عبيد لمن خلق الأرض ومن عليها. صاحب العبد يفعل به ما يشاء. هو ملكية خاصة. لم يختف الرق من هذا الوعي بل تعمم. أصحاب الرقيق هم “العلماء ورثة الأنبياء” وأصحاب نظرية ولاية الفقيه وأصحاب القضية السوفياتية. ينضم إليهم أصحاب النظريات القومية والبعثية باحتقارها للناس، سواء كانوا عربا أو غير عرب. أما الدولة بمعنى أنها الناظم للمجتمع، والإطار الذي يعيش فيه الناس سوية، ويصيرون شعباً يقرر ما له وما عليه، حقوقه وواجباته، فهي كالمكان أو الأرض التي يعيش عليها هذا الشعب. الدولة في الأساس مكان ذو حدود؛ الحدود الجغرافية إطارها. الشعب الذي يعيش على هذه الأرض مادة للجنة مركزية من ايديولوجيين، كما في الاتحاد السوفياتي سابقا، وكما في دول الإسلام السياسي حاليا، أو في دول الاستبداد عامة. فهو بحاجة الى وصاية اللجنة المركزية التي مهمتها التهيئة لدار الخلاص أو لخدمة القضية الايديولوجية. الديمقراطية بنظرهم لا تعبّر عن إرادة الشعب، وإذا أدت الى ذلك فمن الضروري أن تكون هناك وصاية على الدولة من أهل العلم والعلماء (العلم التقليدي). تصير الدولة، بالأحرى جهاز الدولة المنتخبة، أشبه بنظام يخضع لسلطة فوق الدولة. وتصير هذه السلطة هي الدولة الحقيقية؛ دولة الحق الأعلى. الدولة المنتخبة، مع شعبها، تخضع لدولة الحق والايديولوجيا، وكل من هذين تقررهما لجنة مركزية غير مسؤولة إلا أمام الحقيقة العليا. الفرق ليس كبيرا بين لجنة مركزية معممة وأخرى غير معممة.

مع انتصار النيوليبرالية في العالم يصير المال هو القيمة الوحيدة. إله جديد يكرّس البشر لخدمته. يزداد عموم الناس فقرا. تزداد ثروات أصحاب المال الكبار. يزداد أصحاب التريليونات الكبار. عددهم يزداد من المئات الى الألاف. المال إله جديد يفرض قيمة وحيدة هي المال. المال يغيّر جلده. يصير شيئا مختلفا.  يفقد ارتباطه بالمكان إلا حيث الضرورة. تصدر الصناعات الى البلدان ذات القوى العاملة الأقل أجرا. تبقى في بلدان المركز الرأسمالي صناعة الأسلحة والتكنولوجيا المتقدمة والزراعة الممكنة. إله جديد ينتقل من مكان الى آخر. يفقد ارتباطه بالدول القومية. هو القيمة الوحيدة عالميا. هذا هو جوهر العولمة. ينتصر معه الدين السياسي، سواء وصل للسلطة أو لم يصل؛ بل هو سيطر على أذهان الشعوب. إله لا يرتبط بالمكان. ينتقل من مكان الى آخر. بالأحرى هو موجود في كل مكان في آن واحد. يفقد المكان حرمته، سوى بعض المقدسات التي صارت فولكلورية وبمثابة “أفيون الشعوب”، وزفرة الفقراء فاقدي الأمل بالمستقبل. تساهم الكورونا في فقدان الأمل، لا بالمستقبل وحده، بل فقدان الأمل بالحياة ذاتها. ليس صدفة أن انتصار النيوليبرالية هو انتصار المال على الاقتصاد الحقيقي. وهو في الوقت نفسه انتصار العقيدة على الايمان. انتصار العقيدة على الدين. لم يعد الدين أفيون الشعوب. صار المذهب (العقيدة الدينية) أفيون الشعوب. تتحالف العقيدة الدينية مع سلطة المال في إسقاط أهمية المكان. أفكار قليلة لدى كل من الأطراف المالية والدينية تنتقل بسهولة من مكان الى آخر. تنتقل الى حيث اللامكان. يفقد المكان أهميته. ما هو في كل مكان هو في لامكان. القيم وحدها تصير ذات الأولوية. مهما كابر أصحاب المذاهب، فإن القيمة الوحيدة والمهيمنة أو المسيطرة في عالم النيوليبرالية هي المال. هو قيمة كل شيء. ذلك لا يمنع الصراع بين القوى السياسية، في داخلها، وبين القوى الدينية، في داخلها. انما الصراع لم يعد بين نظامين اجتماعيين أو أكثر. الصراع هو فقط على السلطة في نظام واحد للعالم. حققت الرأسمالية ذروة تطورها في ثروات كبرى تعتمد المال لا الإنتاج. وتفضّل المال على الإنتاج. وتصير دورة المال وإنتاج الثروات مستقلة تماما عن دورة الإنتاج. يلتقي الرأسمال المالي مع الدين السياسي. تثور المنازعات بينهما عندما يتدخل أحدهما في شؤون الآخر. هما متحابان ما دام الكل بحاله لا يتدخل في مجال الآخر. يكون الصراع عندما يدخل أحدهما مجال الآخر. هنا ربما تكمن مشكلة النووي الإيراني: ازدواجية السلطة. هناك دول أخرى مماثلة لإيران، وتملك السلاح النووي، ولا صراع مع الرأسمالية النيوليبرالية.  هي وحدها من يحق له امتلاك القوتين، الدينية أو السياسية، والمالية (العسكرية). ايران وكوريا الشمالية لا تخضعان. كل الدول الأخرى التي تمتلك تخضع ولا أحد يبالي. المشاكل تقع عندما يكون هناك ازدواجيات في السلطة. المال سلطة لا شريك لها. يقع في الشرك أتباع السلطة الأخرى، سلطة الدين، حين يعتقدون أن قيمهم الدينية قادرة على منافسة القوة الأخرى. قوة المال الذي يعتبر أصحابه أنهم وحدهم لهم الحق بالسيطرة، وأن قيمهم أسمى من قيم الدين.

المكان هو الدنيا. هو الأرض ومن عليها. هو البشر الذين يعملون وينتجون ويستهلكون ويُجرّدون من كل حقوقهم. ليس لهم حقوق بل عليهم واجبات، أهمها الخضوع والاستسلام. عندما انفصل المال عن الاقتصاد الحقيقي، وعن الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، فقد علاقته بالدنيا. فقد علاقته حتى بالدولة التي لم تعد تلزم إلا كأداة قمع. جددت الرأسمالية نفسها باعتماد سلطة المال المجردة عن الدنيا، حيث البشر. صار المال يدور حول نفسه. دوراته منفصلة عن الاقتصاد.

احتقار المكان، مثل الحقد على التاريخ، هو حقد على الجغرافيا. وهو في جوهره حقد على المعاصرة والحداثة ورفض لهما. يمثل ذلك حالة رفض للعيش في تآلف مع الحاضر، ورفض للعالم المعاصر، وإعلان أننا لا نستطيع العيش في العالم وثقافته بكل أبعادهما التاريخية والجغرافية.