30
Mar
2018
1

البورصة الانتخابية

أخيراً أعلن أباطرة الطوائف عن بضاعتهم: هي أسهم في بورصة الانتخابات. لكل منهم قطيعه، ويمكنه أن يورّث لولده. البعض منهم لا يمتلك الرداحة الأخلاقية ليفعل ذلك فيمتنع. الأباطرة يمتلكون الأسهم. الأسهم هي القطيع الذي يتشكل منا. بين كل انتخاب وآخر يدربوننا على الانصياع لعقلية القطيع. هذا ما نفعله كل موسم انتخابات. نستقبل المرشحين، نسمعهم، لكننا لا نفهم شيئاً، ونصوت لهم رغم اقتناعنا بأن أقلنا معرفة وذكاء يفوقهم في هذا المجال.

الامبراطور الطائفي يملك قطيعا (القطيع هو نحن) هو مستعد لبيعه لمن لديه مال كثير ويدفع أكثر من غيره. ليس خفياً علاقة المال بالنجاح الانتخابي. لا يخفيه أحد. يتبارون في التبجح عن أية لائحة جاء بأكبر عدد من المتمولين، وأي متمول دفع أكثر من غيره. بعض المتمولين يملك الكثير من المال. لا غير ذلك. وهو أدنى من الصفر من الناحية المعرفية أو الأخلاقية. لياقةً نمتنع عن ذكر التفاصيل، ونجد ذلك واجباً من أجل الحفاظ على التهذيب. هم لا يهمهم الأمر. ما دامت الأسهم تعرض في البورصة، سوق الأسهم، وعلانية. نعرف أنهم اشتروا الأسهم (اشترونا) لكن تهذيبنا يمنعنا من الحديث الصريح. ربما كان ذلك خطأ.

أما عن العلاقات الخارجية، فحدّث ولا حرج. كثير من المرشحين يأتون بالمال من السفارات لشراء الأصوات. كثير من المرشحين يدّعون العفة، لكنهم لا يمانعون في تحسين شروط معيشتهم على حساب ناخبيهم. هؤلاء يسمونهم المجتمع المدني في لوائح أكثر من لوائح التيار الغالب، لكن ثمن السهم فيها أدنى. يبدو أن جهات عربية وغير عربية تتكفل أمرهم.

في البورصة يبيعون الأسهم (أصواتنا) بالسعر الأعلى. يفعلون ذلك. الأصوات من الطوائف واثنيات مختلفة؛ هي سلع مختلفة. لكل قطيع مذهبه وأيديولوجيته، وفي أحيان قليلة برنامجه الانتخابي، لكن ذلك غير مهم في عملية التبادل. المال يوحّد كل الاختلافات. اختُرِعَ المال ليكون وسيطاً واحداً موحداً بين سلع مختلفة، لكل قيمتها… القيمة يُقرّر مبلغها بالمال فيسهل تبادل البطاطا بالسيارات بواسطة المال. يأتي الربح بأي ثمن، ولو على حساب المبادىء والبرامج. يبيعون كل أفكارهم، ومعتقداتهم، ومبادئهم، وبرامجهم بالمعادل الرابح، وهو المال، لتحقيق أكبر كمية من الربح. كل الأفكار، والمبادئ، والبرامج غير مهمة إلا بمقدار المال الذي يجيء لقاءها.

يحتج البعض على خلوّ هذه الانتخابات من السياسة، ومن البرامج السياسية. والذين يحتجّون يغيب عن بالهم أن هذا القانون بالصوت التفضيلي واللوائح المغلقة، يجعل السياسة مسألة لا لزوم لها. أنت تدفع، أنت تدخل ملكوت السماوات. عملتك هي برنامجك، ودع أفكارك العظيمة جانبا علها تنفع في وقت آخر. على كل حال في زمن الأبناء، لا تلزم الأفكار. وفي زمن المرشحين القادمين من المغترب لا توجد الأفكار نتيجة الغياب عن البلد. يفهم المرشح شيئاً واحداً: ادفع تنجح.

وهناك ظاهرة المرشحين الأغبياء، سواء كانوا أغنياء أو لا، هم يلزمون لأن رئيس اللائحة لا يريد أن يشاركه أحد في الحاصل الانتخابي. سوف يوزع كل امبراطور طائفي الأصوات على القطيع، ويأتي الحاصل حسب رغبة الكبش، وتأتي النتائج، ويعود الأغبياء الى بيوتهم لأنهم لم يحصّلوا ما يكفي. لا احترام إلا لمن دفع.

أما الكرامة فهي أيضاً معروضة في سوق البيع (النخاسة عفواً). يبذل المرشح كل ما بوسعه من الاحترام والتبجيل لصاحب اللائحة. يعرض نفسه للبيع، وغير ذلك، لكن النتيجة تكون حسب ما يقرره أعضاء مجلس الإدارة (الأباطرة).

يقيم كل امبراطور طائفي شكّل لائحة مهرجاناً لتقديم المرشحين الذين اشتروا الأسهم، وسوف يخطب هؤلاء ويقولون كلاماً غير مفهوم. لا همّ، اللائحة اكتملت وصارت جاهزة للنزال. لا يهم أن المتحالفين في هذه الدائرة زملاؤهم مختلفون، ويتصارعون في دائرة أخرى. الخلاف أيضاً أو الاتفاق ليس حول المبادىء. الجامع الأكبر هو المال.

هناك من لم يحالفهم الحظ في الدخول في احدى اللوائح. يصيرون حاملي لقب “المرشّح السابق”. وهذا يُعتبر شرفا كبيرا. أما المرشحون الساقطون فالميدالية أرقى، ويصيرون مرشحين سابقين في مرتبة أعلى. دفعوا أكثر ونالوا مرتبة أعلى، ولو لم تكن رسمية.

إن خلو الانتخابات من السياسة هو المصيبة الكبرى. كتب أحدهم حول استعادة السياسة من اللاسياسة في الانتخابات. فات الأوان. الأباطرة والطائفيون عرفوا كيف يغلقون اللوائح، ويمنعون الناس من الحوار. ويضعون قيوداً على المرشحين لمنعهم من الحوار أيضاً. يُمنع الناخبون أيضاً من اختيار هذا وذاك من تلك اللائحة اولائحة أخرى. ليس مهماً سياسة هذا أو ذاك. المهم هو اللائحة وخدمة الأباطرة.

ليس الخيار عند المواطن. هو من يختار، يل كيف يختار بأقل قدر ممكن من الخسائر. الخسائر في الخيارات هي خسائر في أصحاب الكفاءات من المرشحين. وهؤلاء كلهم في مهب الريح. هم مسجونون في لوائح مغلقة. حتى ولو مال إليهم الناخبون فهم لن يكونوا قادرين على الانتخابات.

تخلو الانتخابات، بسبب القانون من الديمقراطية لأنها تحدّ من قدرة الناخبين على الخيار وعلى الحوار. نعرف مرشحين في هذه اللائحة أو تلك، ولا نستطيع مناقشتهم فيما يقولون لأننا سلفاً نعرف أنهم محرجون بالحلفاء ذوي وجهات النظر المختلفة. الكل مع الكل، والكل ضد الكل. والسياسة مستحيلة، ان لم تكن ممنوعة.

تخلو الانتخابات أيضاً من السياسة العليا الوطنية، إذ لم نجد تحالفاً واحداً مبنياً على أساس اتفاق في الرأي حول القضايا الكبرى الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والاستراتيجية. ما قرر التحالفات هو الرغبة في الربح فقط. والتحالفات يقررها أباطرة الطائفية. حتى هؤلاء تزعزعت الثقة بقدراتهم السياسية أو بعدهم عن الانتهازية. في هذه الحالة، الأباطرة هم يقودون طوائفهم، ليس بسبب إيمان عميق بالطائفة أو الدين أو القضية من أي نوع، بل في سبيل الربح في بورصة الانتخابات. بالطبع، تعبير بورصة يحمل أكثر من معنى؛ من بينها المعنى المالي.

أما عن الكرامة الغائبة عند المرشحين الذين مرغوا أنوفهم على عتبات الأباطرة، فكيف يتوقعون أن ينظر إليهم المواطنون، أبناء دوائرهم وغيرها، بعد الانتخابات أو قبلها، سواء نجحوا أو فشلوا. أو أن الأمر لا يعنيهم. والكرامة ليست في حسابهم. ربما كان مقبولاً من عاطل عن العمل، فارغ الجيوب، أن يتسوّل لدى أصحاب الوجاهة والزعامة في سبيل فرصة عمل لسد الرمق. أما هؤلاء المرشحون فهم ليسوا مضطرين لإذلال أنفسهم. ما يفعلونه طوعاً يُنبئ الكثير عن أخلاقهم والمدى الذي يمكن أن يذهبوا إليه في سبيل الانتفاع بعد مرورهم عبر البورصة الانتخابية. لن يستطيعوا بعد الآن الإشارة الى أحد غيرهم، ولا اتهام أحد غيرهم. من كان بيته من حجارة لا يرشق البيت الزجاجي بالحجارة. كيف يجرؤ عدد من الفاسدين على التبجّح داخل المجلس النيابي وخارجه حول الفساد؟ وهل أصبحت الديمقراطية حكراً على الفاسدين؟ اشتروا الجاه بكرامتهم. سوف يردون المال فيما بعد بأساليب يعرفونها؛ أساليب أبعد عن الكرامة وأقرب الى السرية.

لو اقتصر الأمر عليهم لهان الأمر. لكن ما بدأ يحدث يبعث على الخوف. بلغ منسوب التحريض الطائفي حداً غير مسبوق. نسير رويداً نحو الانحصار في مجتمعات طائفية مغلقة. سوف يضطر المرشحون الى مزيد من التحريض الطائفي حتى الانتخابات. ولن يستطيعوا التوقف بعدها. إن توقفوا يكونون قد خالفوا مبادئهم التي تعودوا على قاذوراتها الطائفية. سيضطر كل منهم، الى جانب أباطرة الطوائف، الى التوتير والنفخ في مشاعر التشنّج كي يشدوا ما يُسمى العصب؛ وأي عصب؟ عصب البغض والكراهية، وكره كل لبناني لكل لبناني آخر. لن تزداد الطوائف بعداً عن بعضها وحسب، بل سيزداد كل لبناني بعداً عن جاره بسبب التصويت التفضيلي: هذا التصويت الذي قال البعض أنه قانون هابيل وقابيل. يوم يفر المرء من أخيه، ومن أمه وأبيه. هل سنصل الى نقطة اللاعودة؟ وماذا سينفع الندم بعد التخريب المتعمد الذي يحدث.

لم يكف اننا خرّبنا البنى التحتية التي أنشئت في التسعينات. اللبنانيون الآن يدمّرون الوعي؛ يدمّرون النفوس؛ يؤسسون لحرب أهلية جديدة، خاصة بعد فرز النتائج، وعند احتسابها واكتشاف أن من نال أصواتاً أكثر ربما يصاب بالسقوط نتيجة احتساب اللوائح.

بقي اللبنانيون يكذبون على أنفسهم على مدى عقود من السنين حين اعتبروا أن النسبية هي القانون الأمثل. كيف يمكن أن تكون النسبية فكرة ناجحة في مجتمع أفرغ من السياسة ولم يبق فيه إلا هيكل الطائفية للتعبد؟ التعبد للمال لا يلغي التعبد للطائفية. سيكون التعبد في هيكلها. وسيتحوّل هؤلاء الى مصاصي دماء شعبهم.

ندينهم بما اقترفوه وبما سوف يقترفون، ونحن نعلم أنهم سوف يقترفونه. ذلك لن يكون أقل من تقديم الضحايا البشرية على المذبح، مذبح الطائفية والوصولية والانتهازية.

أتيح لنا أن يكون عندنا هيكل اسمه الدولة، هيكل السياسة والحوار والتبادل؛ فإذا بنا نبني هيكلاً من الأوراق المالية والتباعد الطائفي والتباغض القومي والإثني، بما لا يصل الى أذيال من سبقهم. لكن هؤلاء الحاليين سوف يكونون أسوأ بكثير. لن تكون أية صلاة صادقة إلا بالبعد عنهم وعن أثامهم. يقال الخير فيما ارتضاه الله. أما هنا فيقال الشر فيما يرتضيه هؤلاء.

كان اتفاق الطائف تسوية للخروج من حرب أهلية. وكان اتفاقاً طائفياً، وهذه الانتخابات لن تكون تسوية، وسوف تكون قانوناً من أجل ولوج حرب أهلية أخرى. حرب أهلية أشد وأدهى. الانقسامات الناتجة عن هذا القانون أعمق مما سبق. التسويات تصير أصعب وأبعد منالاً.

هل أصبنا بالغيرة مما يجري في البلدان العربية الأخرى. فصرنا نقلدهم. كان تعبير البلقنة يُستعمل لوصف التشلّع السياسي والاجتماعي. تم استخدام تعبير اللبننة للهدف ذاته. الآن، بمعنى ما يُعرّب لبنان. هل يتحول التعريب من مبدأ الوحدة الى مبدأ التشليع، ومزيد من التجزّؤ؟