18
Feb
2022
0

الثورة بحدوثها، بنتائجها أو أسبابها

الثورة حدث، زلزال، غضب، انفجار. يهب المجتمع بمختلف طبقاته، الدنيا الى الوسطى، للثورة والاعتراض على النظام. الحدث لحظة. اللحظة لا برنامج لها. البرنامج وهم. الثورة في أذهان أهل السلطة ومثقفيها. على الأقل يقترحون أن يكون هناك مقدمات ثقافية. تؤهلها الثقافة. ثقافة المجتمع للثورة. كأن هناك مجتمعات قابلة للثورة وغيرها غير قابلة بحكم ثقافتها الضاربة في الماضي والثبات.

يميّز الفقيه أبو اسحق الشيرازي بين العرض والجوهر. العرض هو ما لا يتكرر. الجوهر هو ما لا ينقسم. هو النواة الثابتة التي لا يصيبها التغيير. يقول جاك غولدستون بأن ثورات الغرب في التاريخ تؤدي الى التقدم في تغيير المجتمع والسلطة. أما ثورات الشرق، كما في الدولة العثمانية، فهي لا تترك أثراً. تعود الأمور كما كانت عليه من قبل. قال تروتسكي بالثورة الدائمة لتعم العالم. كان هم لينين بناء الدولة بعد الثورة البوليشفية. قام الانجليز بثورتين في القرن السابع عشر. ذبحوا الملك بعد واحدة منهما، واستوردوا ملكاً من هانوفر بعد الأخرى. ثورة التحرر الوطني الأولى ضد العثمانيين جاءت بملك ألماني في اليونان. الثورتان الفرنسية والروسية، الأولى في نهاية القرن الثامن عشر، والثانية في بداية القرن العشرين، أدت كل منهما الى قتل العائلة المالكة. الثورة العباسية أدت الى قتل الأمويين وملاحقتهم. ولم يسلم الطالبيون من الملاحقة والقتل. الثورة الإسلامية في إيران قتلت أعداءها وحلفاءها، وما زالت تسمي نفسها ثورة إسلامية، وتعتبر نفسها حقبة لا حدث. الثورة الأفغانية هجّرت الملك. في كمبوديا تم التخلّص من الأمير سيهانوك، الذي كان يحب الموسيقى، وكان شعبه يحبه. ثورة الميجي ميشن اليابانية في ستينات القرن التاسع عشر أبقت على الامبراطور وغيرت كل بنى الدولة وبعض البنى الاجتماعية، وانتهجت حداثة غير مسبوقة. الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي بدأت بطرد البريطانيين، أنشأت جمهورية فيدرالية. لا ننسى الدولة الهندية. أسسها غاندي بثورة سلمية ثم قتله بعض الهندوس من قومه لتعصّب قومي ديني. لكنها ما زالت تجري انتخابات ديمقراطية كل أربعة أعوام منذ عام 1948. ثلاث دول قامت على أسس دينية، وما استطاعت واحدة منها أن تنشئ دستورا، وهي المملكة السعودية (الشريعة حسب المذهب الحنبلي)، باكستان (إعلان دستوري)، واسرائيل (إعلان دستوري)؛ الثلاثة دول دينية. الأولى أنشأها مسلمون على أساس الدين، الثانية أسسها مسلمون لكي تستوعب مسلمو الهند، وما زالت الأقلية المسلمة في الهند توازي باكستان، الثالثة أنشأتها الصهيونية من أجل اليهود. الثورة عندما تدوم لعدة سنوات مع السيطرة على بقعة من الأرض تتحوّل الى نظام للسلطة تنازع السلطة الرسمية شرعيتها.

تكون الثورة عندما يشارك في الشارع والمجال العام عدد كبير من الناس. يطرحون مطلبا، أو مطالب، شعاراً أو شعارات قليلة تعبر عن غضب المجتمع. ليس ممكنا أن يكون للثورة برنامج. البرنامج يضعه عدد قليل من الناس. عند ذلك يكون الأمر أشبه بالانقلاب. يصعب أن يكون للثورة قيادة لأنها فجائية؛ حدث تلقائي. لحظة تاريخية ولو امتدت أياماً؛ يعود بعدها الناس الى حياتهم العادية. المهم أن تحدث الثورة أثرا يعتبر به أهل السلطة. غالباً ما يكون هؤلاء من أصحاب جلد التماسيح. بلا شعور أو تعاطف مع الناس. في بلدان الاستبداد يعتبر الطغاة أن الناس أدوات لهم. يمنون عليهم بأن يكونوا هم أنفسهم حكاماً بسلطة معطاة من السماء. يعتبر الطغاة أنفسهم أبديين. حتى لو كانوا منفتحين لأجل محدود فهم يتلاعبون بالدستور لإعادة “انتخابهم” في عملية اقتراع تكون نتائجها محسومة سلفاً. يمتاز الطغاة بمستوى عال من الجبن والخسة. هم جبناء يخافون من الجماهير حين تأخذ زمام المبادرة بالنزول الى الشارع. عندما يطالبون الجماهير بالبرنامج، هم أعرف الناس أن الذين يصوغون البرنامج نخبة من المثقفين، وهؤلاء بمعظمهم أسكتوا، أو سجنوا، أو أعدموا. ومن بقي منهم يكونون تحت جناح السلطة. يعرف أهل السلطة أن مطلبهم لبرنامج هو مطب للثورة. ثورة الغضب لا وقت لديها لوضع برنامج. هي مؤهلة فقط لرفع شعارات. أهمها إسقاط النظام الذي يفقد مبرر وجوده باحتلال الجماهير الغاضبة للمجال العام؛ والنظام أساسا فاقد الشرعية لأنه استبداد وطغيان وإلغاء لإرادة الناس. تذاكيهم بمطلب البرنامج هو مطب للثورة للإيهام بأنها مجرد محاولة انقلاب. يوصم الانقلاب بالمؤامرة المدبرة من الخارج. والاستبداد يؤسس نفسه على الإيهام بضرورة وجوده لمواجهة المؤامرات الخارجية. يحذرون دائما من الخارج. طهرانية المجتمع يحافظ عليها بالانقطاع عن الخارج. يفرضون العزلة على المجتمع. ينتهون به الى الانغلاق على أفكار قديمة تتحوّل على أيدي الطغاة الى أوامر. يساعدهم على تثبيت القديم رجال الدين. هؤلاء يبررون وجودهم بما هو قديم أو ما يُسمى التراث. الحكم بالأمر والقسر والإكراه مهمة الطغاة. تقسيم عمل مناسب. حتى لو قاتل أصحاب الدين أصحاب الحكم. يكون الأمر صراعاً على السلطة. صراع تغيب فيه مصالح الناس.

التهمة بالمؤامرة حاضرة دائما عند هؤلاء وأولئك. من غير الأجنبي القريب يحرّك الناس ضد النظام الذي عادة ما يعتبر نفسه متماهياً مع الناس ورغباتهم ومصالحهم؟ فهم يعرفون ما في صدور الناس أكثر مما يعرف هؤلاء أنفسهم. لكل ثورة شعار والبرنامج مطب لها. يفخخ (من فعل فخخ) الطغاة الثورة بمطلب البرنامج. وهذا مستحيل. فيضعون السلاح بطريقة أو بأخرى بأيدي الناس لتحويل الثورة الى العنف في سبيل الحرب الأهلية.

الثورة فعل. ليست نصاً. النص يأتي فيما بعد. النص عمل أهل السلطة القديمة أو الجديدة. كان يجب أن يكون إصلاحاً. الإصلاح ليس تصميم نصوص. هو إنتاج، تطوّر، تطوير، إدارة، شغل. سلطة الاستبداد أيضاً تحوّل الإصلاح بالفعل الى نص لا تعمل بموجبه. للاستبداد آلية داخلية تخالف النص الإصلاحي الذي تعبر عنه القوانين والدستور والذي جاءت به الى السلطة. عنف الاستبداد يخالف نصوص السلطة التأسيسية. دائما تريد السلطة الاستبدادية نصوصاً كي تخالفها. النصوص جامدة. حروف على ورق. الفعل يعطيها الحياة. تتوزّع الحياة بين فعل الناس وفعل السلطة، بين الثورة والثورة المضادة. الثورة فقيرة النفس. فقر الناس، والحاجات اليومية، تجبر الناس على الانسحاب من المجال العام. تملؤه الثورة المضادة. هي تواطؤ على الناس. أجهزة بيروقراطية ومخابرات وقوى أمنية. تأمرهم السلطة بقتل وتعذيب أبناء طبقتهم من أهل الثورة. المؤامرة هي تقسيم العمل بين الناس ليصيروا بعضهم “أهل الناس” وبعضهم “أهل السلطة”، أعداء يقاتلون بعضهم كي يحافظ الحكام وذوو السلطة على أنفسهم أحياء وعلى ثرواتهم مكتنزة. تنفصل السلطة عن الناس. تتحوّل الى الحكم بالأمر والقسر والإكراه. الأوامر المكتوبة، النصوص القانونية والدستورية للاستعلاء. الأوامر غير المكتوبة هي فعل السلطة. لا سلطة إلا وهي ظالمة وتعاني انفصاماً، تتحكم به الجبانة والخساسة. النبل سمة الناس. من خصائصهم أنهم لا يتآمرون ولا يخضعون لتوجيهات خارجية. يوجههم الضمير فقط. نبالتهم أساسها أن الناس مجتمع مفتوح. السلطة مجتمع مغلق. علاقات الناس شبكات من الود والتعاون والصداقة. غريزة البقاء تستلزم التعاون والتبادل. غريزة السلطة تستلزم التواطؤ والتآمر والإستعانة بمن هو خارج المجتمع، من أجل بقاء الاستبداد. الحرية دائماً داخلية. تنبع من داخل المرء والمجتمع. الاستبداد يستدعي الخارج دائماً. هو خارج الضمير. خارج على الضمير وعلى إنسانية البشر. السوق للناس. تبادل قيمة بقيمة. أقرب للمقايضة. مبادلة شيء لا تحتاجه بشيء تحتاجه. الرأسمالية تبادل شيء ذي قيمة بمال قيمته وهمية، حقيقة في أوهام التسلط. الرأسمالية استبداد مباشر أو مقنّع. يتفاقم تراكم الثروة مع الرأسمالية. يستحيل ويصير غير ممكن مع السوق. سوق العامة للأشياء. سوق الرأسمالية بورصة للمضاربات،  حيث المال يخلق المال. في سوق العامة العمل يخلق الأشياء. والأشياء للتبادل والتداول. الرأسمال للاحتكار. لم يُبتدع الرأسمال إلا لتحويل الأشياء المنظورة والملموسة الى ما هو غير منظور، أي المال. يخجل أصحاب المال من فقدان نبالتهم، فيعمدون الى إخفاء ما لديهم وراء جدران خزناتهم، في المصارف أو خارجها. في الرأسمال المالي المؤامرة. يتحالف الرأسمال مع الاستبداد ورجال الدين في نظام ديمقراطي أو غير ديمقراطي. المهم أن يكون مغلقاً. المفتوح للعامة. المغلق لنخبة رأس المال، خاصة الرأسمال المالي.

تلقائية الثورة تعكس علاقات بين الناس ترفضها الثورة المضادة؛ هذه المتمثلة في سلطة مغلقة؛ سلطة الاستبداد والاستغلال. لا يكون الاستبداد إلا من أجل الاستغلال. في التلقائية علاقات إنسانية بين البشر؛ علاقات أفقية. يفضل الاستبداد علاقات عامودية بين كل واحد من الناس والسلطة. تراقب سلطة الاستبداد الناس. تريد الناس أتباعاً لها، لا أتباعاً لبعضهم البعض. يحاصر الاستبداد الناس فرداً فرداً. عندما تترسّخ علاقات الناس فيما بينهم فإنهم يحاصرون السلطة. لا ضير في ذلك سوى أن السلطة تهدف الى سيطرتها على الناس.  سيطرة قائمة لا على المواطنية. المواطن بالتعريف، عندما يتحوّل من كونه رعية الى كونه شريكاً، يحتاج الى سلطة تعبّر عنه في علاقاته مع الآخرين. لا تعبر سلطة الاستبداد عن الناس إذ لا تعترف لهم بحق أن تكون لهم إرادة يجري التعبير عنها بالدولة. الناس عند الاستبداد قطيع يقادون كما يقود الكبش قطيعه. علاقات الناس فيما بينهم تتحدى احتواء السلطة لها، وتحكّم أجهزة الاستخبارات بها، سواء كانت هذه أمنية أو بيروقراطية. تلقائية الثورة تعني احتلال الناس المجال العام وسلخه من تحكّم السلطة وصيرورة المبادرة الى غير ما تشتهيه إدارة الحكم.

أهمية الثورة لا تنبع مما تحدثه في بنية النظام. هي تحوّر في بينة الفرد؛ في اعتباره لنفسه قادراً على تغيير بنية النظام السياسي. يُقحم الفرد نفسه في السياسة. يعلن نفسه شريكاً في النظام وقراراته؛ يعلن أنه صار مواطناً. يعلن أن الدولة والفرد يتماهيان. تصير سلطة النظام خارج هذه العلاقة. يتزعزع هيكل النظام. تبدأ أعمدته بالتفسّخ. الدولة ومؤسساتها. الفرد وضميره. والدولة ومؤسساتها في جهة، والنظام والسلطة السياسية وعائلاتها والرأسمال ومصارفه في جهة أخرى. عندما هرّب أرباب السلطة والمال أموالهم الى الخارج أقروا أنهم صاروا خارج علاقة الناس بالدولة. هم ومن يحمونهم في الداخل من طوائف وأكباشها، وأحزاب دينية وفسادها الذي تعتنقه وتدعي محاربته، والايديولوجيا السائدة، ومقاومة تدعي الممانعة، ومثقفو السلطة، ومروجو أفكار وتعليمات أربابها، ومهرجو التحليل السياسي الذين يحتلون الشاشات وبقية وسائل الاعلام، الخ… هم أختان الخارج. انحيازهم للامبراطورية العظمى والامبراطوريات العظيمى مستبطن. انحيازهم للامبراطورية الرثة في إيران هو المعلن. محادثات فيينا بين العظمى وغير العظمى مع العظيمى تشبه مؤتمر برلين في سبعينات القرن الثامن عشر. المتفاوضون حينذاك لم يكونوا حلفاء بل أخصاماً. الفرق أن مؤتمر برلين كان موضوعه العالم برمته. مفاوضات فيينا موضوعها المركزي المنطقة العربية وامتدادات الدين الإسلامي في العالم. تقسيم المنطقة العربية، بالأحرى مناطق النفوذ فيها، يعود الى الاعتبار. أحلام الامبراطوريات العظيمى وأوهامها ترمي العودة الى الوراء.  تدوير دولاب الدهر باتجاه قرون مضت. يصعب تغيير الحدود. الاعتماد الآن على تخريب ما داخل الحدود، في داخل كل بلد عربي. كل قطر عربي أقر بوستفالية العربية التي شكلها وفرضها الغرب في جامعة الدول العربية. الصراع الآن بين الناس والمنظومة الحاكمة عربياً. الصراع على الحدود بين الأقطار العربية نادر الحدوث. إذا حدث يكون لأسباب غير جغرافية. مساحة كل بلد عربي ثابتة تقريباً. النزاعات العربية-العربية ايديولوجية في الغالب. ايديولوجية في خدمة أهداف سياسية. الأهداف السياسية ليست بالضرورة ما يرسمه الحكام بل ما يُرسم للحكام. أنظمة تخاف شعوبها، فتستعين عليها بالخارج أو تستخدم الدين في الخلاف والاختلاف أي اصطناع الخلاف.

إذا حدثت ثورة في بلد عربي، وقد حدثت كما في 2011 في كل البلدان العربية تقريبا، ليس العيب في عدم استمرارها بل العظمة في حدوثها. استمرار الثورة مشبوه. تستمر الثورة حين يحولها الحكام الى حرب أهلية. ما كان إدخال العنف في ثورات 2011 إلا على يد الأنظمة العربية. تستعين بأهل الدين ومؤسساتهم على ذلك. الثورة حدث أشبه بالزلزال. تُزعم الثورة الإسلامية في إيران لأسباب لا تتعلّق بالثورة بل بالحكم بعد الثورة. هي أشبه بالأنظمة العربية التي جاءت يعد “ثورات” التحرر الوطني. استبداد مقنّع بالدين والدعوة؛ وتلك استبداد مقنّع بالاشتراكية ومزاعم التقدم وطمس المطالب التي تأسست عليها. تتحالف الأنظمة “الثورية” فيما بينها. الواحدة إسلامية والثانية علمانية كما تدعي. على كل حال لم تعد العلمانية تتعلّق بالعلاقة بين الدولة والدين، بل بعلاقة نظام الاستبداد بشعبه. كما الدين لم يعد يتعلّق بالإيمان بل بالعلاقة بين حكم نظام الثورة وشعبه. الدين لديهم أداة أو سلعة. في الحالتين تطغى العلاقة بخارج ما على مطالب الناس وحاجاتهم.

لا يُحكم على الثورة بنتائجها المباشرة، كما لا يُحكم عليها بأسبابها المباشرة. كأن يقال أن ما سبّب الثورة في لبنان، في 17 تشرين الأول 2019، هو قرار الحكومة استجابة لاقتراح وزير الاتصالات، رفع تعرفة الواتساب بضعة سنتات. الأسباب تتعدى ذلك بكثير. الإنسان عميق الغور فرداً ومجتمعا، كما كان يقول ياسين الحافظ. والنتائج تتعدى بكثير نتائجها المباشرة. هي حدثت وحسب. يكفي الإقرار بذلك. والنتائج لا تُرى، أو لا تظهر إلا على مدى سنوات، وربما بعد عقود من السنين؛ كما أن الأسباب تعود الى تراكمات من الأسباب والمسببات تتعلّق بالمجتمع وبنيانه ومظالمه. هي محاولة استرداد الناس لحريات وحقوق سلبها النظام على مدى طويل. النفس القصير لدى المثقفين والقائمين على الثورة يؤدي بهم الى البحث في أسباب مباشرة ونتائج مباشرة. ربما كان أهل السلطة أطول نفساً وأبعد بصيرة، إذ يعمدون الى إخمادها ولو بوسائل العنف والإكراه. كل نظام وكل سلطة تؤبد، أو تحاول تأبيد نفسها، بوسائل العنف والإكراه. أزمة مالية واقتصادية خانقة بعد الثورة في لبنان أدت الى إنهاك الناس وتلاشي قدرتهم على المبادرة لإستعادة حقوقهم المسلوبة. نظام السلطة قائم في كل العالم، منذ الأزل، على السلب المعنوي والروحي. صارت مدينتنا، وبلدنا عامة، بلا روح، إضافة الى بلا مال، نتيجة الثورة. فهل تحمل الثورة هذه النتائج، أم هي صنع الثورة المضادة التي نواتها طبقة سياسية  خططت للأمر، عن قصد أو دون قصد، لكن عن وعي بأهمية الحدث. لو خطط الثوار أو برمجوا مسبقاً لكن الأمر انقلاباً. الانقلاب انتقال السلطة من يد الى يد، وربما الى الأسوأ. تعودنا منذ أمد ليس بالقصير أن نكره الانقلابات ونعتبرها مشبوهة. الثوار الدائمون بعضهم الآن هم من يحاولون ركب الموجة. ركب الإسلاميون الثورة في إيران وسموها ثورة إسلامية، وأبادوا خصومهم، ولو نجح خصومهم لفعلوا بهم الأمر نفسه، كما فعل خصوم الإسلاميين بهم في مصر. الثورة تأكل أبناءها. الثورة روح الناس. روح الجمهور.  الثورة لا تأكل أبناءها، بل السلطة هي التي تأكل ما تسلب وتنهب.
ليطمئن أصحاب الثورة وأعداؤها. النتائج غير متوقعة، كما الأسباب غير مباشرة. الثورة الحقيقية التي حدثت لم يتوقعها أحد. لا يستطيع أحد توقعها. تقدمت العلوم الحديثة كثيراً. لكن لا أحد يستطيع توقع لحظة انفجار بركان ما في هذه البقعة أو تلك؛ مع كل الاحترام لعلم الجيولوجيا، لو كانت الزلازل قابلة للتوقع (حسب مؤشرات العلم الحديث أو القديم)، لتم إجلاء منطقة الحدوث. حتى الأزمات أو الانهيارات المالية مستحيلة التوقّع رغم أن المتاجرين في البورصات عددهم قليل. وهم مع عتاد هائل من الحواسيب، يعملون عادة لدى عدد قليل من أصحاب المال والاستثمارات. هناك كتاب منسي لجون كينيث، بتكليف من السلطة، عن أسباب انهيار البورصة عام 1929. قال أن كل ما تستنتجه عن الانهيارات المالية هو فقاعات مالية تنفجر بعد انفجار فقاعة ارتفاع الأسعار العقارية. لا ننسى أن رئيس الولايات المتحدة كان قبل أيام او أسابيع من انفجار 1929 يتحدث عن الازدهار والرخاء والتقدم العظيم. ولا ننسى الكؤوس التي قرعت بين الشاه وكارتر قبيل “الثورة الإسلامية” في ايران. وكان الشاه صاحب ألدّ أقبية التعذيب يشاد به أميركياً كواحد من معالم الديمقراطية والإنسانية. عهد السلطة يؤدي بها الى عمى البصيرة.

كل ذلك لا يمنع أن يكون لبعض الثورات صناع تاريخ. النبي رأى بالبصيرة الثورة قادمة، أو قد بدأت، ووقّع صلح الحديبية. لينين رأى الثورة حادثة فوقّع صلح بريست ليتوفسك. الثورة الفرنسية، رغم عصر الأنوار الذي سبقها، لم يكن لديها قادة من صناع التاريخ. أكلت أبناءها. بالغت بالتطرّف حتى كادوا ينصبون للعقل تمثالاً. انتهى أمرها الى قيادة طاغية اسمه نابوليون. كان عبقرياً إلا فيما يتعلّق بشؤون الثورة. نصب نفسه امبراطوراً ووزع الألقاب الفيودالية على أعضاء حاشيته وذويه. تحولت الى ملك عضوض. كما سمى المسلمون السلطة منذ معاوية. السلطة العثمانية التي كانت من أطول السلطات عمراً في التاريخ حكمها سلاطين قتلوا آباءهم وأخواتهم وأبناءهم. باني مجد سلطة ايفانوف في روسيا علق ابنه. تولت ابنته كاترينا الأولى الحكم لا أخوها. الى أن جاءت كاترين الثانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم تكن روسية الأصل، وحققت انتصارات كبرى.

قد يحدث التغيير الثوري من فوق؛ قد يتقدم بعض أطراف السلطة بالتغيير الجذري كما بطرس الأكبر والثورتان الانجليزيتان في أواسط وأواخر القرن السابع عشر.  في احداهما أعدم ملك، وفي الثانية خلع ملك واستورد آخر من هولندا. كذلك ماليزيا في النصف الثاني من القرن العشرين، وسنغافورة بقيادة لي كوان يو. ثورات أحدثت تقدما اقتصادياً كبيراً، وتقدما بطيئاً للحرية. في معظم البلدان الأوروبية أنظمة ملكية تطورت نحو الديمقراطية ونمت فيها الحريات الى جانب التقدم الاقتصادي. في أميركا اللاتينية، كما في الصين، جمهوريات تلت ثورات تحرر وطني. الهند ربما كانت من بين قلائل الدول التي تلت ثورة التحرر الوطني فيها ديمقراطية. في كل بلاد المسلمين ثورات تحرر وطني تلتها أنظمة استبداد بعد الاستقلال، تارة باسم الشريعة وتارة باسم القومية. في الحالتين تكون القضية السامية، الإسلامية أو القومية، ذات أولوية تتقدم على وجود الناس. في جميع هذه الحالات يخيّر الناس بين الحرية من ناحية والخبز (المعيشة) الى جانب صد المؤامرات الخارجية من جهة أخرى. عادة ما يخسر الناس حريتهم ومستوى معيشتهم. حكم الاستبداد ظاهرة عامة في بلاد المسلمين، سواء حكم ليبراليون (تركيا) أو إسلاميون (إيران) أو قوميون (البلدان العربية).
نزيه الأيوبي على حق في أن الدولة، بالأحرى السلطة أقوى من المجتمع. وائل حلاق ربما كان على حق في أن مفهوم الشريعة، والمطالب المترتبة عليه، وشعار الأمة الإسلامية يعيقون نشوء دولة ديمقراطية أو دولة بأي معنى حديث. وربما كان أدونيس على حق في أن الثقافة الإسلامية تعيق الثورة بشكل أو بآخر. ومع ذلك كانت ثورة العرب في 2011 ثورة شعبية حقيقية مطلبها “إسقاط النظام”. يسيطر الإسلاميون أحيانا، لكنهم عند العرب سرعان ما يسقطون أو يغرقون البلد في حرب أهلية، بتعاون مع السلطة أو في نزاع معها. في الحالتين تكون الأولوية ليست للناس أو الجمهور أو الشعب، بل لقضية ما (إسلامية أو قومية) تطمس قضايا الناس. يقود ذلك الى الاستنتاج أن المزاج الإسلامي السائد والمطالب بالشريعة، وهو في غالب الأحيان مطلب عام، هو في آن معا معيق للثورة وفي كل حال يلغي مطلب الحرية. تكون الثورة ديمقراطية عندما يتحرر الناس من مطلب الشريعة. ويكون ذلك بأن يصير الدين جزءاً من المجتمع، لا كل المجتمع. هذا يتطلّب تحرير الدين من الشريعة واقتصاره على الإيمان وخضوع الدين للسياسة. يعني ذلك أن الإيمان علاقة فردية بين الإنسان والله. وإجراء تغييرات في البنية الدينية، وفصل المعاملات عن العبادات، واقتصار الدين في الحياة اليومية على العبادات. يستدعي ذلك ثورة في الثقافة السياسية. لن يتأتّى ذلك إلا بنقد التراث. النقد يستدعي الوقوف خارج التراث. ليس إنكار التراث، فهو هناك وجزء من الماضي.  الخطورة عندما يعتبر تاريخاً ويسعى الإسلاميون الى جعله بصورته الموروثة جزءاً من المستقبل أو كل المستقبل. لا لزوم لإعادة أسلمة المسلمين، كما دعا سيد قطب، متهما المجتمع الراهن بالجاهلية. الحكم الإسلامي في الزمن الراهن “جاهلية جديدة”. لن يخرج المسلمون من جاهليتهم الجديدة إلا بالتجاوز، تجاوزهم تراثهم، وتجاوز ذاتهم الموروثة؛ على أن يتزامن ذلك مع خروج الى العالم وتبني ثقافة عالمية. تستحيل الثورة باتجاه الدولة والحرية إلا بإخضاع الدين للسياسة. هذا معناه، ونكرر، بأن يصير الدين جزءاً من المجتمع وليس القطاع الأوحد فيه. يبدو بأن البلدان العربية تسير بهذا الاتجاه على عكس ما يحدث في إيران وتركيا. هم العرب يريدون لدولهم أن تكون دولاً فيها الأولوية للوجود الإنساني على كل قضية، بما في ذلك قضية فلسطين. التحرير يكون بالحرية في كل قطر عربي وتلبية مطالب الناس، وأهمها مستوى المعيشة، والتقدم العلمي والتكنولوجي، مع اولوية العلوم الحديثة. هذه مصدرها الثقافة العالمية التي لا خوف على الدين من تبنيها. الاندراج في العالم عن طريق مجتمع مفتوح أولوية أولى. لا بدّ للثورة، وهي على العموم حدث سياسي، من تطوّر ثقافي. وهذا ما يحدث في أحشاء المجتمعات العربية. ثورة 2011 سوف تتبعها ثورات أخرى. فجائية أو تطورية.

 للمثقفين دور أساسي في ذلك. يساهمون في تقدم مجتمعهم، أو في تراكم الثورات، عندما يحاربون، عن وعي، الثقافة السائدة لدى العرب والمسلمين عموماً. يدعمون مطالب الناس السياسية المعيشية، بتطوّر ثقافي، وتحوّل في الوعي السائد يحاصر السلطة، السلطات القائمة، وينقلون الثورة من حدث، مجرد حدث، الى تحوّل دائم مؤسس على العلوم الحديثة، وهادف الى دولة حديثة يكون الفرد فيها مواطناً مشاركاً؛ وتكون الدولة وعاء المجتمع، حاوية له، لا سلطة فوقه. السلطات التي فوق المجتمع قابعة خارجه. الثورة نضال في الداخل. الثورة المضادة نضال من الخارج والى الخارج يعود. فمن هم أولياء أمر السفارات؟

لم يعد شغل النخبة يقتصر على ما كانت عليه النخبة في أيام العباسيين وقبلهم وبعدهم. لا نملك عن تاريخنا  سوى أخبار النخبة وهم من كان يمكن أن يعيش حتى يبلغ الستينات أو أكثر. لا نملك الكثير عمن كانوا يقومون بالعمل المرهق والذين كانوا يوفرون للنخبة الفائض الكافي كي تعيش وتعمّر. أولئك المنسيون هم الذين كانوا لا يتوقعون العيش الى أكثر من الثلاثينات. هؤلاء كانوا الذين يعملون وينتجون وكانوا من تعيش النخبة على فائض عملهم؛ ليس من يفيض عن عملهم الضروري كي يعيشوا ويتمتعوا، بل الفائض الذي كان وما يزال يقتطع من عملهم كي يعيش الآخرون ويتمتعون بها. هذه النخبة هي التراث. هي بالأحرى من أنتج هذا التراث الذي نتغنى به. على النخبة أن تتخلى عن دورها الموروث، عن التراث، كي تساهم في صنع تاريخ جديد. تراث جديد. عليها أن تؤمن  أن الحاضر والمستقبل لم يعد ملك نخبة تعيش أكثر من ستين عاماً على حساب عامة تعيش ثلاثين عاماً أو ما يقارب ذلك. صار على النخبة أن تعبّر عن هذه العامة، الكثرة، التي ما كانت موجودة في تراثنا وتاريخنا المكتوب. الخروج عما هو “مكتوب” في التراث يتطلّب نخبة من نوع جديد؛ نخبة تعبّر لا عن نفسها أو أولياء أمرها، بل نخبة تعبّر عمن هم الأدنى في السلم الاجتماعي. نخبة تعبّر عما ليس تراثاً.

فليشرح لنا النبهاء لماذا الكتاب العزيز أسهل على الفهم من جميع كتب التفسير، ناهيك بالتأويل. ولماذا يحتاج الكتاب الذي أرسل للناس، عن طريق الوحي، الى تفسير؟ إذا كان يحتاج الى تفسير، فهو يحتاج الى من يفسره. ومن يفسرونه هم الوسطاء بين الله والعباد. وهل يحتاج الله الى وسطاء؟ مجتمعنا بحاجة الى مواجهتهم وانتزاع المعرفة من أيديهم وحصر مجال عملهم، أو تحويلهم الى البطالة، أو الى مجال آخر. لن يحسوا بمشاعر الطبقات الدنيا الحقيقية إلا عندما يعملون مثلهم في الزراعة والصناعة والحرف، على الأقل لتفادي السمنة.