27
Jul
2019
0

الحرية ٢ – استحالة الفرضية الليبرالية

لا يولد المرء حراً. يصير كذلك فيما بعد. بالأحرى يصير ممكناً أن يكون حراً عندما يكتسب عقلاً يوجّه به أعماله وممارساته. وعندما يكتسب قدرة وإرادة في تقرير هويته أو التمرد عليها، أو أي شيء آخر، مثل البقاء على ما كان الأمر عليه.

الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي لا يولد في الطبيعة إلا ويحتاج الى عناية كاملة؛ لا يولد حراً قادرا على العيش بنفسه. يحتاج الى عناية لمدة أعوم قبل أن يصير قادراً على تدبر أمر نفسه بنفسه. خلال تلك الفترة تكون العائلة أو المجتمع قد أنشأه ودربه. يُدرب المرء في نشأته على أن يكون متلاءماً مع الجماعة لا أن يكون متمرداً عليها. لا يمكن أن يكون المرء حراً داخل الجماعة؛ يفكّر كما تفكّر. يمارس كما تمارس. هو جزء من قطيع، شاء أم أبى. نادراً ما يأبى غير ذلك. قلة من الأشخاص في التاريخ خرجوا على مجتمعهم. وقلة من هؤلاء نجحوا في تفادي الأذى، أذاها؛ وقلة منهم استطاعوا تغيير بعض قواعد تفكير الجماعة وممارساتها.

الرأسمالية وحدها، بخلاف الأنظمة الاجتماعية السابقة، استطاعت ادعاء إرساء قواعد الحرية. كانت مضطرة منذ البداية الى أن يكون العمل تعاقدياً. عفوا، حراً بين السيد والمسود، بين صاحب رأس المال والعامل الذي يعمل لديه. هذا في الشكل، والشكل ليس أمراً قليل الأهمية. كل الحريات الليبرالية التي ينعم بها جزء من البشر، ويتوق إليه بقية البشر، قائمة على هذا الأمر الشكلي. الشكل لا يقل أهمية عن المضمون أو عن ما يعتبر موضوعاً للشكل، أو محتوى له. لكن العقد لا يمكن أن يكون متكافئاً بالنسبة لطرفي التعاقد. هو عقد حر لكنه دائما يميل لمصلحة من بيده  المال ضد من لا يملك إلا قوة العمل. عدم التكافؤ يتحول الى استغلال يمارسه من بيده القانون والقضاء في وجه من لا يملك سوى قوة عمله. رغم كل ذلك سوف ترتفع رتبة المسود في الشكل الى رتبة السيد، وسيكونان متساويين في الوهم، إن لم يكن في الواقع. حرية المسود هي أن يعمل ضمن خيار حر (وهو في الحقيقة تفرضه ظروف المسود). لكن مقام هذا المسود ارتفع في القانون، فأصبح مساوياً للسيد في القانون وحسب لا وفي الواقع. هو خيار قسري وإن أطلقت عليه صفة الحرية. قسري كي يبقى على قيد الحياة. الحرية في أنه يستطيع الرفض ويعاني الأمرّين إن تحوّل الى البطالة. حرية السيد هي أن يختار هذا أو ذاك من جيش العاطلين عن العمل من الوافدين من الريف أو من الذين فقدوا العمل في حريتهم بسبب المنافسة. خلل أساسي في قاعدة النظام الرأسمالي. خلل لا يمكن الخروج منه إلا بإلغاء هذا النظام.

عممت الرأسمالية نظام التعاقد. جعلته القيمة الأساسية في النظام العالمي الذي أنشأته. لم يتشكل هذا النظام فجأة أو دفعة واحدة. أزيل نظام العمل بالقسر تدريجياً. العمل القسري في النظام الاجتماعي الاقطاعي والرقّي، وفي ما يُسمى نمط الإنتاج الأسيوي، كان هو السمة الأساسية. عمل بالإكراه. لا عقد بين الاقطاعي والعامل أو الفلاح، ولا بين السيّد والعبد، ولا بين سادة الأرض في نمط الإنتاج الأسيوي والفلاحين لديهم. فائض الإنتاج يقتطع بالقوة. والناس رعايا. ينتابهم حظ حسن إذا كان الإكراه أو القسر لطيفا مخففاً. استبداد فج وتسلّط مباشر.

لكن ظروف العمل في ظل النظام الرأسمالي التعاقدي لم تكن أفضل مما سبق. لا مساواة سياسية بين طرفي العقد. من بيده الرأسمال هو الطرف الأقوى. السلطة السياسية بقيت بيد البورجوازية وما تبقى من الاقطاع والسادة القدماء. كان العصر الرأسمالي في القرن التاسع عشر عصر الحريات السياسية.  لا عجب إذا كان الشعار الأهم للطبقات الدنيا هو حق الاقتراع الشامل لكل الناس.  فقد بقي حق الاقتراع في كل القرن التاسع عشر تقريباً محصورا بأصحاب الملكية والرأسمال. عرفت الطبقات الدنيا أن لا اقتصاد بحتاً، وأن الاقتصاد السياسي هو الاسم المعبر عن حقيقة النظام، وأن الوصول الى السلطة السياسية هو الهدف الذي لا بد منه. فنشأت الأحزاب والنقابات من أجل ذلك.

في النظام البرلماني، وهو أساس الليبرالية الرأسمالية، كل أصوات الاقتراع متساوية. يقوم هذا النظام على نظام العمل المأجور. في المعمل مثلاً، يحصل التبادل بين كمية من المال وكمية من العمل. القيمة بالنسبة للبورجوازي هي في المال، أو تنبع من المال، أو تستمد من الرأسمال؛ القيمة بالنسبة للعامل تُستمد من العمل. استبدال أو تبادل شيء بآخر يفترض التساوي بين قيمة الشيء والشيء الآخر. القيمة حاصلة في الشيء دون غيره. افتراض القيمتين متساويتين لا يحصل إلا قسراً. المال ليس وسيطاً بين قيم متساوية. عندما يكون المال وسيطاً لا يكون ذلك إلا بالقسر والإكراه. التناقض الأساسي هو بين المال (أو ما أصبح أخيراً يُسمى قيمة المال) وبين قيمة العمل.

التناقض الأساسي هو بين الوجود البشري (العمل وقيمة العمل) وبين شيء من غير هذا الوجود (الرأسمال وقيمة الرأسمال). لا حلّ لهذا التناقض إلا عندما يتحوّل الرأسمال الى الوجود البشري، الى القيمة التي تصدر عن العمل البشري.

إن القيمة الأساسية قائمة في الإنسان، ناتجة عن عمله. وما عدا ذلك من رأسمال أو غيره هو قيمة خارج الإنسان. موضوعة فوق قوة عمله. وهدفها امتصاص قوة عمله. قوة العمل تبقى هي الأساس. هي الوجود. هي الوجود البشري في حركته. هي الحرية البشرية الظاهرة أو المكبوتة. ما هو خارج عنها يسعى لأن يكون تعبيراً عنها. يسعى بالأحرى لأن يختصرها ويصادرها. ويعبر عنها بأرقام لا علاقة لها بقوة العمل. ما يُسمى البورصة، وتنافس أصحاب الأسهم في الشركات، للتعبير عن قوة العمل هذه، هو في الحقيقة تجربة دائمة لمصادرة قوة العمل. للتعبير عنها  بأرقام تُسمى أسهما ليس لها صلة بالقيمة الحقيقية. يتداول أصحاب البورصات أسهما في شركات تعبّر عن قيمة العمل ولا صله لها بها. هي مضاربات بين أصحاب الأسهم. هي محاولات لإعطاء قيم للعمل. تتكاثر كميات الأسهم أو تتناقص بما ليس له صلة بالقيمة. كميات العمل ذاتها يمكن أن تعبّر عنها البورصات، أو ما يُسمى مؤسسات الاستثمار، بكميات مالية تتزايد أو تتناقص بغض النظر عما إذا زادت كمية العمل أو نقصت. كميات العمل تزيد أو تنقص بأحجام محدودة. كميات الأسهم التي يُفترض أن تعبّر عن قيم العمل تزيد أو تنقص بما ليس له علاقة بزيادة أو نقصان قيم العمل. قيم العمل ثابتة أو شبه ثابتة، أو بالأحرى تزيد وتنقص بمقدار ما تزيد أو تنقص قدرة العمل البشري، وهذه لا يمكن أن تزيد إلا بمقدار ما يزيد تعداد البشر. منقوصاً منهم الذين لا تُتاح لهم فرص العمل. هؤلاء يزيدون أو ينقصون بمقدار ما يحتاجهم الرأسمال. لكن الرأسمال المالي يزيد أو ينقص بمقادير لا تتناسب مع زيادة أو نقصان قوة العمل. الزيادات في سوق المال تتزايد بكميات كبيرة لا علاقة لها بزيادة عدد السكان، ولا عدد العاملين، ولا عدد المنتجين. المال يتخذ له دورة متميزة مفصولة تماماً عن قيمة العمل التراكمية. تراكم الثروات مضاربات مالية لا علاقة لها بالإنتاج أو بقوة العمل في تزايدها وتناقصها. تتزايد الرساميل في مضاربات بين بعضها البعض. تنفصل عن سوق العمل. لا يبقى للمال صلة بقوة العمل. تتزايد الثروات التي إذا قورنت بقوة العمل التراكمية تفيض بشكل فادح عن القيم المنتجة. ليس المال هو ما يحصل إنتاجه، قوة العمل هي التي تُنتج. المال ينتج نفسه. يتخذ لنفسه دورة منفصلة. يخترق كل السقوف في ارتفاعه. كلما زادت الثروات المالية، كلما نقصت نسبيا قيمة قوة العمل. يعوّض البورجوازيون عن ذلك بإعطاء ثرواتهم قيمة مستمدة لا من العمل بل من لوحات فنية يتم اكتنازها. وتبيعها بكميات كبرى. لا أحد يعرف قيمة الأعمال الفنية، إلا أنها أشياء مبالغ في قيمتها لتبرير اكتناز الثروات التي لا تتناسب مع كميات العمل المنتجة. الى جانب اللوحات الفنية هناك العقارات التي تزداد قيمتها بما يتجاوز سوق العمل بكثير.

العقارات خزان هائل للقيم المفتعلة، أي التي لا معيار لازديادها. تزداد قيمها بأرقام كونية كما تزداد قيم اللوحات. لا شك أن أحداً من مكتنزي اللوحات الفنية لا يعرف قيمتها الفنية. هي وسيلة اكتناز وحسب. طبعاً هناك اكتناز الأموال خارج الحدود الرسمية. أما اكتناز أموال التهريب والمخدرات التي تكاد تبلغ نصف التجارة العالمية، فهذه تخضع للتقديرات لكنها كبيرة. ومن الصعب تقديرها لأن ادخالها في السوق الشرعي المالي يتطلّب اخضاعها للرقابة، وهي غير خاضعة لأنها غير شرعية. يؤدي ما هو غير شرعي أساسا في اكتناز الأموال، وسلع غير شرعية مبالغ في قيمها، وأعمال تهريب وتبييض عملة، لتراكم الثروات بكميات غير مسبوقة.

العمل البشري يفقد قيمته، بالأحرى تتناقص قيمته بالنسبة للثروات المتراكمة. ثروات لا تحتاج الى عمال ومنتجين.  يفقد العمل قيمته في سوق الإنتاج. يصير تابعاً لتراكم الثروات. يصير تراكم الثروات هو مصدر الاقتصاد. هو خالق الاقتصاد. البشر العاملون مخلوقون لاله جديد هو المال. تُنقل الصناعات الى أسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا. يصير النظام الرأسمالي في البلدان المتقدمة في غير حاجة الى العمال. تتبعثر النقابات. يتضاءل المنتسبون إليها. إذ لا فائدة منها.

تملكت الشركات الزراعية سوق البذار بعد تحويله جينيا. البذار الجديد لا ينتج إلا لموسم واحد. يضطر المزارعون حول العالم الى شراء البذار سنويا من شركاته القابضة على التحوّل الجيني. الامبريالية الجديدة زراعية أكثر منها صناعية. كل ما يحصل إنتاجه في العالم يعتمد على البذار المستورد من شركاته الكبرى.

ما بدا عقداً أو ما يشبه العقد، في الثروة الصناعية وما بعدها، صار عبودية لشركات البذار. وهي لا تكاد تشكّل شيئاً بالنسبة لشركات المعلومات. كل الفقراء يقتنون الهاتف الذكي لأنهم يعتبرون أنفسهم بحاجة الى معلومات. المعلومات التي يحصلون عليها مخزنة في آلات كبرى جهنمية. يزداد الاعتماد على الشركات الكبرى وعلى الرأسمال الذي يخلق العالم الجديد. وهذه تحوّل العمل البشري الى معلومات، والمعلومات الى سلع، والسلع الى كونترول على العمل البشري، بل المصير البشري.

ما كان حرية التعاقد بين الرأسمال وقوة العمل البشري تحول الى تبعية كاملة. تبعية العمل البشري لرأسمال المعلومات والزراعات المعدلة جينياً. أما ما ينتج السلع التي يحتاجها البشر في حياتهم اليومية فقد أحيل الى أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث لا نقابات، وحيث الاستبداد يقمع ارتفاع الأجور.

ما كان حرية التعاقد اعتمد على المساواة (من أجل التبادل) بين لا متشابهات، مختلفات، متميّزات، لا متماهيات، لا متساويات. يجب من وجهة النظر البورجوازية فرض المساواة بين قيم عشوائيا ولصالح البورجوازية. وهذا ما حصل فعلاً. وكأن هذا لا يكفي، فاقتطع البورجوازي جزءاً من عمل العامل وسماه ربحاً. ما يبقى للعامل هو الأجر، لا البدل العادل لقوة عمله، بل ما يكفيه من أجل إعالة نفسه (وعائلته) كي يبقى على قيد الحياة، ويجدد حياته وحياة جنسه.

بالعنف والإكراه تتدخل الدولة والسلطة السياسية لاجبار العامل على القبول بالعقد. ما كان تعاقدا صار أمراً مفروضاً بالقسر والقوة. من هنا كان نضال العمال من أجل السلطة السياسية ضرورياً (حق الاقتراع للجميع) لفرض العدالة وحرية التعاقد. وهذا معناه أن لا اقتصاد بحتاً خالصاً في زمن البورجوازية، بل هناك اقتصاد سياسي وحسب. ومعناه أيضاً أن الحرية نضال، وعملية سعي مستمر. لا تحصل الحرية في جانب واحد من جوانب الحياة البشرية. هي متعددة الجوانب.

يحتاج العقد العادل بين أرباب العمل والعمال الى سلطة سياسية تكون عادلة. الاتجاه التاريخي منذ السبعينات لم يكن نحو هذا الهدف. تدهورت النقابات العمالية واعتبرت البورجوازية أن انتصارها مع سقوط الاتحاد السوفياتي ومجيء تاتشر وريغان كان انتصاراً كاملاً. فاعتبرت نفسها حاكمة بالأمر لا بالتفاوض، وهو ما كان الأمر عليه قبل ذلك عندما كان الاتحاد السوفياتي ما زال قائماً، وعندما كان يشكل تهديداً للنظام العالمي. مع سقوط الاتحاد السوفياتي، سقطت الليبرالية. الصراع الآن، بنتيجة ذلك، هو على حرية التجارة وليس على حرية العمل؛ حرية السلع لا حرية العمال والناس. في السنوات الأخيرة أيام ترامب، صارت حتى حرية السلع موضع بحث وخلاف. النيوليبرالية تقضي حتى على الحريات غير البشرية.