10
Dec
2021
0

الدولة: الانتظام والنزاع ٢

الدولة انتظام. الانتظام يحفظ الجميع. نقيض الدولة هو النزاع. النزاع يدمّر المجتمع. يستقيم أمر الدولة عندما يتسوعبها الفرد، كل فرد، في ضميره؛ عندها تتماهى الدولة مع الفرد ومع كل أفراد المجتمع. تنغرز في وعيهم. يشكلون أجزاءها ومكوناتها. تتكوّن الدولة من أفراد لا من جماعات. تتشكّل الجماعات (الطائفية والإثنية والعشائرية) خارج الدولة. وعندما تقوى عليها تسيطر على مقوماتها. تصير هذه الجماعات هي الدولة؛ تحل مكانها. تستوعب أفراد المجتمع. كل طائفة أو جماعة هي خارج الدولة. هي بحد ذاتها مدعاة للنزاع. تتنازع الجماعات من أجل الغنائم. ومن أجل اقتسام ما لدى الدولة من حصص. تعتبر كل طائفة نفسها مغبونة إن لم تسيطر على المجتمع وما فيه من مغانم. تنازعها الطوائف الأخرى على الغنائم ذاتها. يحدث النزاع، وتتحوّل الدولة عن الانتظام الى النزاع. تتشكّل الدولة من أفراد. الأفراد هم مكونات الدولة. هؤلاء لا يسعهم إلا الانتظام في الدولة. انتظام دون شروط. هي شرط ما عداها. الفرد أمام الدولة. هو منها.  عندما يواجه الفرد الدولة، فإنه يواجه نفسه لأنه بمعنى ما هو الدولة. تشكلت الدولة من أفراد فصاروا منها. والأهم أنها صارت منهم ولهم. انغرزت في ضمائرهم فصارت جزءاً منهم. يصير تطبيق القانون تلقائياً. مخالفة القانون استثنائية. لا نزاع في دولة الأفراد. دولة المواطنين.

النزاع هو في دولة الجماعات. تتشكّل الجماعة على أسس راسخة أو عميقة الجذور أو ثابتة الأواصر. تشكّل كل منها دولة ضمن الدولة؛ وهي في الحقيقة أتت من خارجها. ليس في الدولة الحديثة إلا الأفراد. كل فرد في مواجهة الدولة. هو جزء منها وهي جزء منه. الجماعات تشكيلات صلبة تنازع الدولة سلطتها، وتتنازع فيما بينها. هي في الأساس صادرت الأفراد. لولا المصادرة للفرد منذ أن يولد لا تتكوّن الجماعة الطائفية. تتماسك الجماعات بقوانين وعادات وأعراف من خارج القانون أي من خارج الدولة. تتنازع على الدولة وتتقاسمها. يصير ما لدى الدولة غنائم عند الطوائف. كما هي صحراء البداوة آلة حرب تصير الدولة آلة نزاع. كل شي مستباح وكأنه غنيمة غزو. تفتقر الجماعات الطائفية الى شرف القبيلة ومروؤتها وشهامتها وكرمها وعزة نفسها. أصل الطائفة الدين السياسي. دين مفرغ من الإيمان. مركّز على الطقوس والتحايل بها وبغيرها للظهور بمظهر الإيمان. الطائفة قبيلة مفرغة من حسناتها. مفرغة من كل ما يدعو الى الافتخار والمدح. ليس بين الطوائف الا الهجاء والثلب والسلب. يخجل كل طائفي من طائفيته. يبطنها ولا يظهرها. يحتال على نفسه والآخرين. يبرّىء نفسه منها ويرمي الآخرين مستخدما طقوس اتيكيت وتهذيب كاذبين. هو مضطر بحكم الاتيكيت الطائفي الى إظهار ما لا يبطن. إبطان رفض وكره الآخرين لدرجة تقترب من العنصرية. عنصرية مبطنة ومشتركة. كل طائفة تبطن عنصرية ضد الطوائف الأخرى. نزاع دائم. غضب مستمر. شعور بالغبن يدفع بأصحابه الى المطالبة بالمزيد لخير الطائفة. وهم يدركون أو لا يدركون أن خير الطائفة يذهب لأكباشها. إذ كل طائفة طبقات. همّ الطائفة الأول هو أن لا تتشكّل طبقة مشتركة بين الطوائف من الفقراء. فهذه حتما ستكون ضد الطبقة العليا التي في عدادها أكباش الطوائف.

لا تثق دولة النزاع بالشعب. التراتب الطبقي يبعدها عن ذلك. من الناس من يؤمن بدولة نهاية التاريخ إذ يأتي بدولة من ينشر العدل والمساواة. وهناك عدم ثقة الحاكم بشعبه عامة. كيف لا وهم يعرفون أن حكمه الديكتاتوري لن يلق ثقة وترحيب الشعب، وبالتالي لن يحصل على الشرعية. كلما ازداد منسوب عدم الشرعية كلما ازداد ضغط الطاغية واستخدامه وسائل القهر والإكراه. غالباً ما يُنشئون جيوشاً موازية، إذ لا يثقون بالجيش الرسمي الذي ورثوه وقد سبقته سمعته بالانقلابات. تكثر أجهزة الاستخبارات وتتعدد مهامها، وتنفذ الى مسام الشعب. وتكون مهمة الجيوش الموازية حماية الرئيس أو القائد وتنفيذ أحكامه الخاصة. لم يعد للطغاة جيش واحد. لكل منهم صار له عدة جيوش، وذلك إضافة لأجهزة المخابرات والتعذيب، لمنع حدوث الانقلابات العسكرية التي زخر بها تاريخ هذه البلدان بعد الاستقلال. كل جيش يحاول الانقلاب تكون ضده عدة جيوش وأعداد كبيرة من أجهزة المخابرات. شبكة الاستبداد تتوسّع وتتوزّع فيها المهام فيصعب الانقلاب. الكل في السلطة ضد الكل، والكل يمنع الآخرين من التحرّك. بعد فترة من الانقلابات عقب الاستقلال، جاءت فترة تخلو منها؛ لم يكن ذلك بسبب عبقرية الحاكم بل بسبب البنية الجديدة للسلطة. السمة المشتركة لأهل السلطة أن الأجهزة والجيوش لا تثق ببعضها. هي في نزاع دائم مزدوج: أحدهما مع الشعب الذي لا يمنح الشرعية، ثانيهما مع الأجهزة الأخرى التي تنافسها من أجل توسيع رقعة نشاطها. غالباً ما يكون للطاغية جيش إضافي وأجهزة تنتمي الى طائفة حتى ولو كانت أقلوية. فهذا أكثر اطمئنانا الى صلات الدم والقرابة من خطابات الثورة والتحرير. تماشياً مع ذلك ينشأ حلف الأقليات، علماً بأن بعض هؤلاء الداخلين في التحالف لا يتقيدون بايديولوجيا الأقليات، وما زالوا يؤمنون بمبادىء ثورة التحرير التي جاؤوا على أساسها والتي يعمل الطاغية على تجاوزها إن لم نقل نقضها.

أما في السياسة الخارجية، وفي السياسة الداخلية الاقتصادية والاجتماعية، يهادن الطاغية الدول الكبرى مع الحفاظ على سياسات يسارية متطرفة، وأحيانا سرعان ما يتخلى عنها أو خلفه ليتبع سياسة براغماتة خارجية أولاً، وداخلية ثانياً. تمتاز هذه السياسة بالروح العملية في التعامل مع دول كانت أيام ثورة التحرير الوطني تُنعت بالرجعية وتوضع في صف أعداء الثورة. هؤلاء يصيرون أصدقاء الدولة بعد الثورة. يتبقى للثورة تنظيماتها الطلابية والحزبية والنسائية والفلاحية، الخ… الى فترة ما بعد الثورة الى أن تفرغ من مضمونها وزخمها الثوري وتمتلئ صفوفها بالانتهازيين والمصفقين وزيادة عدد الملوحين بأعلام النصر عندما يلقي الطاغية خطابه. غالبا ما لا يظهر الطاغية خطيباً فتسير مسيرات دعم السلطة والإشادة بمناقب الطاغية؛ ولا مانع إذا طُلب منه تجديد موقعه في السلطة والطلب منه البقاء الى الأبد.

يسود نوعان من الانتظام ونوعان من النزاع. انتظام الشعب تحت وطأة السلطة وانتظام أجهزة السلطة في ممارسات القمع ضد الناس. لكن خوف المجتمع من السلطة يبعثره. ويسعى النظام الى تعميق أسباب البعثرة باستخدام شتى الانتماءات الطائفية والإثنية والعشائرية. وتنتظم أجهزة السلطة في نزاع دائم مغلّف بالخضوع والتبعية للطاغية. وخوفا من تهم جاهزة لكل من تسول له نفسه إبداء رأي حر.

يفقد المجتمع انتظامه ويترسّخ النزاع في أروقة السلطة. المجتمع تطحنه تعديات السلطة وأجهزتها، والسلطة يجمع بينها تقاسم غنائم الحكم المادية في وقت يريد كل منهم أكثر من حصته.

في لبنان نتشبّه بدول الطغاة المجاورة. وما يحدث في الدول المجاورة يعم معظم الدول العربية. فهنا جيوش موازية، وأجهزة أمنية متعددة، وحاكم يحاول تأبيد نفسه وإن عن طريق محاولة رفع صهره لسدة الرئاسة. لكن قوى النزاع أرسخ وأطول باعاً. فهي طوائف. على الأكثر ليس بالضرورة أن تتبع أوامر السلطة. عن طريقها اتسع المجال العام، ونرى الحوار والنقاش واسعي المدى. لكن النقاش، على اتساع مجاله، يبقى ملجوما دون السياسة. فقوى النزاع في السلطة قبضتها على أتباعها ملتبسة. وهي تكاد تفلت من أيديها، خاصة بعد ثورة 17 تشرين الأول 2019. الجيوش الموازية وغير الشرعية تفوق بالقوة العسكرية على الآخرين لكنها لا تستطيع استخدام فوائض القوة للأسباب الطائفية ذاتها التي كانت مصدر قوتها.  قوى الطوائف الأخرى لا يمكن الاستهانة بها.

أرعبت ثورة 17 تشرين الأول 2019 قوى السلطة. أوجدت هوية لبنانية وطنية فوق الهويات الطائفية والعشائرية والإثنية. أرعبت السلطة. لجأت هذه الى أساليب غير مألوفة إلا في بلدان أخرى. سارعت الى إقفال المصارف. صادرت المصارف أموال مودعيها بعد تهريب أموال كبار المودعين. لم يبق إلا المودعين المتوسطي الحال والطبقات الدنيا. استخدمت وسائل القمع. لكن ليس على مدى واسع. استخدمت قوى فائض القوة جحافلها الشيعية. إذ هاجمت جموع المتظاهرين والقابعين في الخيم في الوسط التجاري. كانت شعارات الثورة تتراوح بين إسقاط الطبقة السياسية بكاملها، “كلن يعني كلن”، الى إسقاط الفساد والمطالبة بإصلاح النظام. كان للمعتدين من الجحافل شعار واحد “شيعة شيعة”، وحصل التضييق على القوى المعارضة في الجنوب. هي قوى الثورة المضادة التي رأت ترويع المجتمع اللبناني عن طريق الإفقار والقمع. وجدوا في الإفقار وسيلة ناجعة وناجحة لإنهاك قوى الثورة، حتى أصبح الأمل الوحيد هو اجراء الانتخابات (التي طلب أن تكون مبكرة، ورفض الطلب بصلافة) وانتظار نهاية العهد دون تجديد أو تولية الصهر رئاسة الجمهورية، حيث يستمر الطغيان بشخصية أخرى مع بقاء أصحاب فائض القوة. يتحكمون بالسلطة ومفاصلها. تلاعب أصحاب السلطة بالدولة لتدمير مؤسساتها، حتى المصرفية، والآن يسير الأمر باتجاه تدمير المجتمع.

الاصطفاف أو الاستقطاب حصل بين قوى الانتظام (في الدولة) وبين قوى النزاع التي تحكم من خارج الدولة. هو صراع طبقي، بين الناس ومعظمهم فقراء، والسلطة المتحالف معها جهاز المصارف الخاصة والبنك المركزي. أما النقابات، فلا دور لها يستحق الذكر بعد أن جرة استتباعها لأحزاب السلطة منذ بضعة عقود.

نيوليبرالية واضحة المعالم. الرساميل المالية الكبرى أخرجت من البلد، ولحقت بأشباهها في العالم. ومجتمع منهك يعجز عن الانتظام بفعالية وقوى النزاع، أي قوى السلطة، تصول وتجول وتحضّر لانتخابات نيابية لا تريدها. تعرف النتائج سلفاً. تعرف أنها لن تكون في صالحها. تعرف الطبقة السياسية أن الضغوط الخارجية كبيرة من أجل إجراء الانتخابات النيابية. لذلك تعارض كل التحضيرات لها.

النزاع الأهم في المنطقة هو ما بين قوى الانتظام (الشعوب) العربية وإسرائيل. بعد أن كان النزاع بين العرب عموما وإسرائيل، يوم كانت العروبة وايديولوجيا القومية العربية هما السائدتين لدى العرب، وانهزم العرب لأن قوى النزاع كانت سائدة بينهم. لم يعد الأمر كذلك إذ تندمج قوى النزاع العربية وإسرائيل عن طريق ما يسمى التطبيع. بدأ ذلك منذ اتفاقي كامب دايفيد ووادي عربة. قوى النزاع (الثورة المضادة) مع استطاعتها الانتصار بعد ثورة 2011 العربية، استطاعت أيضاً ضم إسرائيل إليها لتصير أكثر تمكناً من شعوبها، وتحكم قبضة الاستبداد وسياسة الإفقار ضد شعوبها. فهل معنى ذلك أن إسرائيل تربط مستقبلها يمصير المنظومة الحاكمة؟ بعد أن صارت جزءاً منها؟ أما الدول الإسلامية غير العربية في المنطقة فهي تربط مصيرها بأنظمة الاستبداد، التي تشكّل المنظومة الحاكمة العربية، وتنحاز بشكل واضح وصريح لقوى النزاع ولا تخفي ذلك. تتناقض قوى النزاع. وربما تصارعت فيما بينها، إلا أن ما يجمعها أعمق بكثير. هو العداء لقوى الانتظام العربية التي رغم ما أصابها من وهن تمثّل المصير العربي وإن بدا للبعض أن هذا المصير الى زوال. إن ثلاثية قوى النزاع العربية وقوى النزاع الإسلامية وإسرائيل قادت الى حلف موضوعي سواء قرّ به أصحابه أم لم يقروا.

التطبيع مع إسرائيل يجعلها دولة طبيعية في منظومة النزاع العربي، بالأحرى في منظومة الثورة المضادة. ويعيد إسرائيل الى البحث عن هوية من جديد. في الوقت الذي صارت إسرائيل تسعى لجعل نفسها دولة يهودية الهوية، وهي كذلك، إذ بها تكتسب لقبا غير مشرّف. يعبّر عن صيرورتها الى دولة ضمن منظومة الثورة المضادة. حققت انفصالاً في العام 1948 في جزء من فلسطين. فهل سيكون لانضمامها الى منظومة النزاع أو الثورة المضادة أثر على هويتها الثقافية؟ هويتها متناقضة في ذاتها. هي دولة غريبة مزروعة في قلب “الوطن العربي”. لا تستطيع أن تبقى على غربتها، ولا تريد، أو لا تستطيع، الاندماج في محيطها بإصرارها على هوية دينية وغير عربية. ستحمل ثقل تناقضاتها الى أن ينتصر الانتظام على النزاع في الوجود العربي.

الانتظام العربي هو انتظام كل مجتمع عربي في دولته. يستطيع كل بلد عربي تحمل ازدواج الهوية، وحتى تعدديتها. يكون ذلك، بالأحرى سيكون ذلك، أمراً واقعاً عندما ينتقل الوعي العربي من التشوش الى الانتظام وينتصر مفهوم الدولة على مفهوم الأمة، أي عندما تنتصر السياسة، ويتقدم مفهوم الدولة السياسي على مفهوم الأمة العنصري؛ ذلك هو مفهوم المواطنة حيث المواطنون يصنعون الدولة ولا يعتقدون وهماً أن الأمة العضوية هي التي تصنع أو تولد رعاياها. الفرق بينهما هو كالفرق بين القادر على صنع هويته، والعاجز الذي يصنع الآخرون له هويته. في المرحلة لا يمكن أن تكون هويتنا إلا الدولة التي نعيش فيها. بالانتظام نصنع هويتنا، بالنزاع يصنع الآخرون هويتنا. أو هي هوية تزول.