19
Feb
2020
0

الفضل شلق: هكذا تعرفت على كمال جنبلاط ورفيق الحريري

في سيرة الفضل شلق، تكتشف رجلاً لا يقين لديه. تجريبي باحث عن حقيقة ما ولكنه لا يهتدي إليها. صراحته تجرح كرمح السيف وثورته لا تخمد برغم العمر السبعيني. علاقته برفيق الحريري لا تزال تستوقف كثيرين، برغم إنتماء شلق إلى مدرسة فكرية يسارية وقومية عربية.. تجعله يحاكم ويحاكي الكثير من المواضيع، بلغة غير إنتهازية. 

كان الفضل شلق لا يزال طفلاً في الخامسة من عمره عندما سقطت فلسطين بأيدي الصهاينة في العام 1948. أخبار المعارك والاحداث، وتأليف جيش من المتطوعين بقيادة فوزي القاوقجي لاسترداد فلسطين اثار الحماسة في مخيلة الطفل الصغير، وجعله يتصور نفسه واحداً من هؤلاء المقاتلين، فكان ان خرج من منزله في درعا حيث كان والده يعمل مدرسا من أجل الإلتحاق بجيش الإنقاذ. ساعات طويلة مرت قبل أن تعثر الشرطة على طفل تبين أن إسمه الفضل شلق وجدته تائهاً في منطقة صحرواية قرب الحدود الأردنية ـ السورية من جهة درعا وسّلمته  ـ وطفل آخر كان برفقته ـ الى ذويهما.

في حزب البعث

بعد درعا، سافر المربي علي شلق، والد الفضل شلق، الى فرنسا بموجب عقد عمل، ومعه زوجته. سفر الوالدين فرض على الفضل تغييراً في ظروف الحياة والدراسة. عاش تجربة المدرسة الداخلية في الكورة وطرابلس وبيروت. سرعان ما عاد الوالد من فرنسا بعد تعيينه مديراً لأول ثانوية رسمية في لبنان.

لم يكن علي شلق مدرساً فقط. كان ايضاً أديباً ومفكراً مرموقاً. في بداية شبابه، إنتمى الى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وتعرّف الى زعيم الحزب أنطون سعاده وكان من أوائل المنتمين الى الحزب في منطقة الكورة. لم يصمد علي شلق طويلاً في الحزب القومي. إنسحب منه بعد فترة قصيرة. سبب الانسحاب عدم الإنسجام فكرياً. لاحقاً، أصبح يعتبر الأحزاب “مقبرة للحريات”.

مع قيام الوحدة المصرية السورية في العام 1958 وبسبب تأثره بالقومية العربية وبتجربة إبن خالته البعثي الإنتماء، وجد الفضل شلق في مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي أجوبة على ما كان يعتمل في رأسه من مبادئ وأفكار إشتراكية، فقرر أن ينتمى الى البعث، ولولا إعتراف الإتحاد السوفياتي بإسرائيل وموقف الشيوعيين الحاد من جمال عبد الناصر، لكان الفضل شيوعياً بسبب تأثره بالفكر الماركسي اللينيني. زاد الطين بلة موقف الاتحاد السوفياتي المتحفظ على قيام دولة الوحدة بين مصر وسوريا. لم ينتظر الفضل شلق بلوغه الثامنة عشرة من العمر لكي يبدأ نشاطه في صفوف حزب البعث، كما هو منصوص عليه في نظام الحزب الداخلي. بدأ حراكه وهو لا يزال طالبا في الصفوف الثانوية. حماسته انتقلت الى عدد من رفاقه في المدرسة، فاعتنقوا الافكار البعثية هم ايضا. بالرغم من كل ذلك، فان عضوية الفضل شلق في حزب البعث لم تدم طويلاً. انسحب منه مع عدد من رفاقه وبينهم ياسين الحافظ الذي أسس في ما بعد حزب العمال الثوري العربي. إنسحابهم المبكر مرده الى معارضة مؤسس الحزب ميشال عفلق قيام الوحدة بين مصر وسوريا وتوقيعه على وثيقة الانفصال الى جانب صلاح البيطار.

عندما سأله المحقق الأميركي عن سبب عدم حيازته على بطاقة الإقامة (غرين كارد) التي تؤهله للحصول لاحقا على الجنسية الأميركية، أجابه الفضل شلق بأنه غير مستعد لإستبدال هويته اللبنانية بأية هوية اخرى

انت مطرود

في العام 1964، سافر الفضل شلق الى الولايات المتحدة، وهو في الحادية والعشرين من عمره (مواليد 1943)، لإستكمال دراسته الجامعية، حيث قرر التخصص في الهندسة الميكانيكية بعد أن حلّ ثانيا في الامتحانات الرسمية في شهادة الثانوية العامة. ذهابه الى الولايات المتحدة كان في جزء كبير منه اقتناعاً منه بقول والده: “ان العرب لا يمكنهم ان يجدوا مكاناً لائقاً لهم بين الأمم من دون ان يطوّروا أنفسهم في مجالات التكنولوجيا الحديثة”.

ست سنوات أمضاها الفضل شلق في الولايات المتحدة لم تكن كلها فقط دراسة. اشتراكه في نشاطات مجموعات يسارية وإنخراطه في ثورة الزنوج في العام 1968 دفعت سلطات التجنيس والهجرة لإصدار قرار بطرده من الولايات المتحدة. وعندما سأله المحقق الأميركي عن سبب عدم حيازته على بطاقة الإقامة (غرين كارد) التي تؤهله للحصول لاحقا على الجنسية الأميركية، أجابه الفضل شلق بأنه غير مستعد لإستبدال هويته اللبنانية بأية هوية اخرى. قرار الطرد راعت فيه السلطات الاميركية ظروف الفضل شلق الدراسية، فأمهلته إلى حين نيله شهادة الماجستير في الهندسة الميكانيكية.

طُرد الفضل شلق من الولايات المتحدة، فإزداد غليانه الفكري والسياسي. بعد عودته الى لبنان، اتصل به صديقه ياسين الحافظ وعرض عليه الانضمام إلى حزب العمال الثوري العربي الذي كان قد تأسس في العام 1974 والذي كان يجمع في عقيدته بين الايديولوجيا الماركسية والايمان بالقومية العربية. في حزب العمال، تولى الفضل شلق مسؤولية تحرير مطبوعة “الثورة العربية” الناطقة بلسان الحزب، اضافة الى الاشراف على توزيعها.

مع حظر السلطات السورية نشاط حزب العمال الثوري على الاراضي السورية، قرر الفضل شلق أن يتبرع بالمخاطرة بتوزيع مطبوعة الحزب في دمشق. عرض على زوجته غالية القيام برحلة الى دمشق بقصد الترفيه. لم يخبرها عن السبب الحقيقي لهذه الرحلة. وضع مطبوعة الحزب في كيس حفاضات ابنته الأولى جهينة البالغة من العمر عدة اشهر. نجاحه في المرة الاولى شجّعه على تكرار المحاولة مرة أخرى. في المرة الثانية، وقع الفضل شلق في ايدي المخابرات السورية. اتصال اجراه من هاتف عمومي بالرفيق المكلف باستلام المطبوعات منه كشف امره. لم يكن يعلم ان الهواتف العمومية في دمشق مراقبة. اعتقاله لم يدم طويلا، إذ لم يُعثر على المنشورات التي كان قد سلمها للمعني بها.

كان الفضل قد بدأ العمل في شركة دار الهندسة (1973) عندما كلفته ادارة الشركة بمرافقة وفد الماني الى الاردن لدراسة احد المشاريع الهندسية هناك. رحلة الاردن وجد فيها الفضل شلق فرصة مؤاتية لايصال مطبوعة حزب العمال الى رفاقه في عمان. كادت النتيجة ان تكون كارثية.  داهمت المخابرات الاردنية غرفة اعضاء الوفد الالماني بدلا من غرفته الأمر الذي انقذه من الإعتقال.

بقاء الفضل شلق في صفوف الحزب الاشتراكي لم يدم طويلا. قال شلق لكمال جنبلاط: “بوجودك ما في حزب وبغيابك ما في حزب”.. وغادر الحزب التقدمي

إلى حزب كمال جنبلاط

ضمور نشاط حزب العمال الثوري واقتصاره على الأنشطة الفكرية النخبوية، دفع الفضل الى اعلان انسحابه منه مع مجموعة من رفاقه. مشهد تلقفه كمال جنبلاط الذي كان يبحث عن دماء جديدة يضخها في شراييين حزبه التقدمي الاشتراكي. في لقائه الاول بكمال جنبلاط بحضور رياض رعد، اعلن الفضل شلق تمسكه بقناعاته الماركسية. رد عليه كمال جنبلاط باعلانه الاستعداد لمركسة الحزب. حوارات فكرية بين كمال جنبلاط والفضل شلق ومجموعة من كوادر حزب العمال الثوري إنتهت بإبداء إستعداد الفضل ورفاقه للعمل من أجل تطبيق مبادئ الحزب التقدمي الاشتراكي. بعد وقت قصير، اصدر كمال جنبلاط قرارا بتعيين الفضل شلق في منصب مدير مكتب التوجيه والارشاد. بقاء الفضل شلق في صفوف الحزب الاشتراكي لم يدم طويلا. قال شلق لكمال جنبلاط: “بوجودك ما في حزب وبغيابك ما في حزب”.. وغادر الحزب التقدمي.

“حبيناك ورح نشتغل معك”

كان قد مضى على وجود الفضل شلق حوالي الست سنوات (1973 ـ 1978) في دار الهندسة. إندلعت الحرب الاهلية في لبنان في العام 1975، وتوقع لها الفضل شلق ان تستمر لمدة عشرين عاما. قال ذلك لرفاقه في دار الهندسة وكذلك لزوجته غالية اثناء مرورهما على احد الحواجز الكتائبية في عين الرمانة (كان منزل العائلة هناك) في يوم 13 نيسان/أبريل 1975، لحظة إندلاع شرارة الحرب اللبنانية.

أحيل المربي علي شلق إلى التقاعد وسافر شقيقه وائل للتخصص في مهنة الطب في فرنسا، فتفرغ الفضل لأسرته (زوجته غالية وولديه جهينة وعلي.. ولاحقا سلمى) وللإهتمام بأمور والديه. تنقلت الأسرة، خلال الحرب، من الشياح إلى الزيدانية وصولا إلى الرملة البيضاء، من دون مغادرة العطلة الأسبوعية في حضن كفريا في الكورة (أحرق منزل العائلة هناك خلال الحرب)، حيث البيت الأحب إلى قلب “ابو علي” (الفضل) وزوجته “ام علي” وكل أفراد الأسرة الشلقية.

في باريس، تحمل الفضل الكثير من المواقف المتعجرفة لكبير مهندسي شركة “اوجيه” السيد ديلورو، لكن ما أن تجاوز الأخير الخطوط الحمر، حتى قرر شلق طرده من مكتبه بعد مشادة بينهما ضجت بها الشركة ووصلت اصداؤها الى الحريري

شعر الفضل أن تجربته في دار الهندسة في لندن قد إستنفذت. بدأ يفكر بالبحث عن فرصة مهنية افضل. جاهر بذلك أمام صديقه سيف الدين الحافظ. عرج الفضل شلق على مكاتب دار الهندسة في بيروت وهناك دخل عليه صديقه المهندس الفلسطيني زهير وفا ـ صديق الحافظ ايضاً ـ واخبره بأن رجل اعمال اسمه رفيق الحريري يرغب بالاجتماع به في مطار بيروت الدولي قبل ان تقلع طائرته الى السعودية بعد ساعة من الآن. لم يدم الاجتماع الاول بين شلق ورفيق الحريري (في إحدى صالات المطار القديم المطلة على المدرجات) اكثر من عشر دقائق كان فيه الفضل مستمعاً طوال الوقت، وقال في نهاية اللقاء للحريري: “حبيناك ورح نشتغل معك”، واتفقا على لقاء ثان في باريس. ترك الحريري على محرمة ورقية رقم عادل البساط في فرنسا وطلب من الفضل أن يهاتف الرجل بعد وصوله إلى باريس.

في العام 1978، وفي مكتب شركة “اوجيه” في باريس، كان اللقاء الثاني لشلق مع رفيق الحريري. لم يمض وقت طويل على وجوده في فرنسا حتى عرض عليه رجل الأعمال ناصر الرشيد وهو شريك رفيق الحريري في الأعمال، أن يتولى نقل أخبار الحريري إليه. رفض شلق طلب الرشيد، وفي الوقت نفسه، لم يخبر الحريري بذلك مخافة أن تتأثر شراكته بالرشيد، بمحاولة الأخير التجسس عليه.

في باريس، تحمل الفضل الكثير من المواقف المتعجرفة لكبير مهندسي شركة “اوجيه” السيد ديلورو، لكن ما أن تجاوز الأخير الخطوط الحمر، حتى قرر شلق طرده من مكتبه بعد مشادة بينهما ضجت بها الشركة ووصلت اصداؤها الى الحريري. حضر الأخير الى باريس على جناح السرعة للوقوف على ما يجرى في شركته. استدعى الفضل شلق الى مكتبه وقال له: “انا لن اسأل غيرك عن الحادثة”. إعتبر الفضل أنه لا يدافع عن وظيفة بل عن كرامته الشخصية والوطنية. اثار موقفه اعجاب الحريري الذي قال له: “انا لا أقبل العمل مع اشخاص يسكتون عن الاهانات”.

حاول مدير شركة الرشيد، السيد عدنان ابو عياش اقناع الفضل باعطاء رأي إيجابي في مشروع كبير يصب في مصلحة ناصر الرشيد. رفض شلق التجاوب مع رغبة ابو عياش، الأمر الذي اثار سخط الرشيد عليه، فكان أن أبلغ الحريري رفضه التعامل مع شلق بعد الان. مبدئية الفضل اثارت اعجاب رفيق الحريري أيضاً. اصدر قراراً بترقيته ونقله الى مقر الشركة الرئيسي في الرياض.

كفرفالوس.. وصيدا

لم يكن الفضل شلق قد سمع بعد بكفرفالوس وهي منطقة تقع بين صيدا وجزين عندما قرر رفيق الحريري ارساله من الرياض الى لبنان للإشراف على بناء مجمع ثقافي وتربوي وصحي ضخم في تلك المنطقة. المشروع ـ الحلم الذي كُلّفَ شلق بتنفيذه مع المهندس عمر الداعوق، بدأت معالمه تتضح في اوائل العام 1981 ولم يكن يشمل فقط مركزا للدراسات ومركزا طبيا وحضانة ومدرسة بل عبارة عن مدينة سكنية على مساحة مليوني متر مربع قادرة على إستيعاب حوالي 20 الف نسمة وتضم دارا للبلدية ومحطة للنقل للمشترك ومركزين للاطفائية والشرطة. مشروع الحريري سرعان ما دمّرهُ الطيران الإسرائيلي بعد اجتياحه لبنان في صيف العام 1982.

كان شلق يقيم في بيروت عندما حاصرتها قوات الإحتلال في العام 1982. اتصل به الحريري وطلب منه الانتقال الى مدينة صيدا للاشراف على مشروع ترميم جميع مدارس المدينة التي تضررت بفعل القصف الاسرائيلي للمدينة. قال الحريري وقتذاك لشلق “يجب ان يعرفوا أنهم ليسوا أقوى منا وأنهم لن ينالوا من إرادتنا وإذا إعادوا تدمير ما نبنيه سنعيد الإعمار والترميم مرة ثانية وثالثة ورابعة”.

تنظيف العاصمة وإنارتها

خلّف الحصار الصهيوني لبيروت اضراراً ماديةً هائلة واكواما من الدمار والردميات غطت معظم شوارع وأحياء بيروت الغربية. إتصل الحريري بالفضل شلق وطلب منه التنسيق مع الرئيس صائب سلام لإطلاق مشروع تنظيف العاصمة من الردميات. كان الحريري يدرك جيدا ان المال وحده لا يكفي لصناعة زعيم في بيروت، ولا بد من مراعاة بعض شخصيات الواقع اللبناني. اجتماع شلق بالرئيس سلام أفضى الى اتفاق على بدء مشروع تنظيف العاصمة بسرعة.

مع بدء العمل بمشروع تنظيف بيروت، كانت آليات “أوجيه” ترفع كلها صورة رفيق الحريري. وصل الأخير في زيارة مفاجئة الى بيروت. إحتج وطلب استبدال صورته بصورة الملك فهد بن عبد العزيز

بدأت الاستعدادات باشراف شلق والمهندس عمر الداعوق. عملية حشد الاليات والعمال استعدادا ليوم انطلاق الحملة، واكبها مئات المتطوعين من جميع فئات المجتمع البيروتي. استعدادات واكبها رفيق الحريري عن قرب. قدومه الى بيروت في ظروف امنية كان العدو خلالها ما يزال يربض عند ابواب العاصمة، شكل مفاجأة للجميع. قال للفضل شلق عندما اجتمع به في منزل فؤاد السنيورة:”انه مشروع العمر. اذا نجح ننجح كلنا وان لم ينجح بفرجيك”. كلمة “بفرجيك” رددها الحريري ثلاث مرات وهو يغادر منزل السنيورة بعد منتصف الليل. في اليوم التالي، أطل الحريري من على شاشة تلفزيون لبنان مجتمعا برئيس الجمهورية الياس سركيس في القصر الجمهوري في بعبدا، ليعلن عن المشروع.

في السادس من ايلول/سبتمبر 1982، انطلق مشروع تنظيف بيروت.  135 شاحنة عملت على مدار الساعة على نقل الردميات الى منطقة النورماندي. وجود هذا العدد من الشاحنات اعتبره الحريري غير كاف. اتصل بشلق وسأله:”ماذا يلزمك من شاحنات وجرافات حتى يصل عدد النقلات الى الف يومياً”؟. سارع الفضل إلى تقديم الجواب. إتصل الحريري بمساعده في الرياض ثروت البرغوثي وطلب تأمين ما يلزم من شاحنات وآليات وشحنها الى بيروت على وجه السرعة. الصفقة بلغت كلفتها ثلاثة عشر مليون دولار (آليات من طراز “كاتربلر”). مع وصول الاليات الى بيروت، حاول وكيل “كاتربلر” اللبناني عرقلة اخراجها من المرفأ بحجة انه الوحيد الذي يحق له استقدامها الى لبنان. إستقوى الرجل بالقوات اللبنانية وهدد وتوعد. لم ينجح، فبادر إلى التشويش طائفيا، محرضا بأن مشروع التنظيف سيشمل فقط المناطق الإسلامية من العاصمة. ضجة تبين في نهاية الامر ان المراد منها فقط الحصول على “عمولة ما”.

مع بدء العمل بمشروع تنظيف بيروت، كانت آليات “أوجيه” ترفع كلها صورة رفيق الحريري. وصل الأخير في زيارة مفاجئة الى بيروت. إحتج وطلب استبدال صورته بصورة الملك فهد بن عبد العزيز. نجح المشروع فإرتفعت معنويات الحريري. لاحقا، طلب الحريري من الفضل شلق اصطحابه في جولة ليلية في شوارع العاصمة. في تلك الليلة تحديداً، ولد مشروع انارة بيروت الذي اراد الحريري أن ينجز قبل حلول عيد الميلاد (1982)، الذي كان يتزامن في تلك السنة مع عيد رأس السنة الهجرية. إحتج الفضل على المهلة الزمنية للمشروع، لكن الحريري قال له “معك شهرين لإنجازه.. والميزانية مفتوحة”. اكثر من 115 كليومترا من الطرقات تمت انارتها في شهرين في بيروت..

“مشروع اعادة اعمار الوسط التجاري هو مغامرة وكان يلزمه شخص مثل رفيق الحريري”، يقول الفضل شلق. هذا المشروع بدأ من عند سؤال طرحه الحريري عليه: “هل مؤسسة اوجيه قادرة على القيام بمشروع اعادة اعمار الوسط التجاري للعاصمة من دون مساعدة خارجية”؟. كان جواب شلق ان امكانات “أوجيه” لا تسمح لها بذلك. بعد عدة ايام، وصل الى بيروت، بناء على طلب رفيق الحريري، فريق هندسي فرنسي مهمته وضع تصاميم جديدة للوسط التجاري واعادة ترميم شارع المعرض وتنظيف مبانيه المشوهة بنيران الحرب الاهلية. وجود الفريق الفرنسي اثار حفيظة شلق. هذه الحساسية كانت ظاهرة لدرجة احس بها رفيق الحريري، فاستدعى الفضل وقال له: “افكر بانشاء مؤسسة لتعليم الطلاب واسناد إداراتها اليك. شو رأيك”. وافق الفضل بسرعة على الفكرة، وهو الأمر الذي أثار دهشة رفيق الحريري، وعندما سأله عن السبب، اجاب شلق “بناء البشر اهم من بناء الحجر وخروجي من “اوجيه” سيحل المشكلة مع الفرنسيين”.

قذيفتان صاروخيتان اطلقتا على مركز تسجيل الطلاب في المدينة اقتصرت اضرارهما على الماديات وتبين انهما رسالة من حركة التوحيد الى مؤسسة الحريري

الفضل شلق مخطوفاً

“مشروع تعليم الطلاب لم يكن منفصلا عن مشروع رفيق الحريري”، يقول الفضل شلق. شارك الحريري في مفاوضات الاتفاق الثلاثي عام 1985 بين حركة امل والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية في دمشق، وهو كان يتوقع تعيينه رئيسا للحكومة في لبنان بعد انتهاء المفاوضات. وقتذاك، استدعى الحريري الى الرياض كلا من الفضل شلق وصباح الحاج وفؤاد السنيورة من أجل التحضير لمرحلة ما بعد الاتفاق الثلاثي. غير أن سقوط هذا الاتفاق على يد سمير جعجع لم يوقف دوران محركات الحريري السياسية في البحث عن حل اخر للأزمة اللبنانية.

لحظت الخطة التي وضعها الفضل شلق تعليم 350 طالبا سنويا على حساب مؤسسة الحريري للتعليم الجامعي، على ان تكون الأولوية للفقراء والمتفوقين وضمن سقف مالي محدد. طلب الحريري رفع العدد الى الف طالب ومن دون تحديد سقف التكاليف. إقترح شلق السفر الى الولايات المتحدة من أجل حجز اماكن للطلاب قبل ان تبدأ مؤسسة الحريري باستقبال الطلبات.

مسلحون من حركة امل قطعوا الطريق على سيارة شلق في منطقة الرملة البيضاء وقاموا باختطافه. اخذوا سيارته ونزعوا من معصمه ساعة يده الغالية الثمن. بعد ان قالوا له “مرفوض هذا الاستخفاف بالطلاب الشيعة”

مع الاعلان عن ولادة مؤسسة رفيق الحريري للتعليم الجامعي، بعد ثلاثة أشهر من الأخذ والرد بين شلق والحريري، تهافت الطلاب من كل انحاء لبنان لتقديم الطلبات إليها. وصل عدد المسجلين الى سبعة الاف طالب. عدد اعتبره الفضل شلق خارج القدرة على الاستيعاب.  أما جواب رفيق الحريري، فكان واضحا وبسيطا: “اعتبر انني انفق مئة مليون دولار في السنة على شؤوني الخاصة وكل دولار يزيد بعد ذلك تنفقه دون ان تراجعني”. اقبال الطلاب بكثافة عالية على تسجيل اسمائهم في مدينة طرابلس اثار حفيظة حركة التوحيد الاسلامي بزعامة أمينها العام الشيخ سعيد شعبان. قذيفتان صاروخيتان اطلقتا على مركز تسجيل الطلاب في المدينة اقتصرت اضرارهما على الماديات وتبين انهما رسالة من حركة التوحيد الى مؤسسة الحريري. في اليوم التالي، اتضحت الامور اكثر. حضرت زوجة الشيخ سعيد شعبان الى مركز المؤسسة في طرابلس مطالبة بتخصيص ولديها بمنحتين من اجل اكمال تعليهما في الخارج. الموافقة على طلبها جاءت من غير تردد. كان رفيق الحريري متحمسا جدا للمشروع وهو كان يتصل يومياً بشلق ويسأله عن الغلة وكان يقصد بها عدد الطلاب الذين سجلوا اسماءهم للحصول على مساعدة من المؤسسة. سال لعاب الأحزاب. زار رفيق الحريري برفقة الفضل شلق ورياض رعد ومحسن دلول رئيس حركة أمل نبيه بري في مقر اقامته في دمشق. اتفق في هذا اللقاء على تخصيص ثلاثمائة منحة لطلاب حركة امل. على هذا الاساس، باشر المسؤولون في المكتب التربوي لحركة امل بارسال الطلبات الى مقر مؤسسة اوجيه، ظنا منهم ان الفضل شلق ما زال يداوم هناك. عمد البعض في “اوجيه” الى اخفاء الطلبات وراح يشيع ان الفضل شلق لا يريد تعليم الطلاب الشيعة. هذه الامور لم يعلم بها الفضل شلق الا بعد ان وجد نفسه في سجن لحركة امل في منطقة برج البراجنة.  كان ذلك في يوم 29 ايار/مايو عام 1986. مسلحون من حركة امل قطعوا الطريق على سيارة شلق في منطقة الرملة البيضاء وقاموا باختطافه. اخذوا سيارته ونزعوا من معصمه ساعة يده الغالية الثمن. بعد ان قالوا له “مرفوض هذا الاستخفاف بالطلاب الشيعة”. خطف شلق اثار ضجة سياسية وتحركت الاتصالات على اعلى المستويات للإفراج عنه. خمس ساعات امضاها شلق في زانزانة ضيقة ومعتمة قبل ان يصدر القرار بالإفراج عنه. تولت مجموعة من حركة امل نقله بسيارة الى منطقة الاوزاعي، وهناك