3
Aug
2018
1

النظام العالمي وتبعاته العالمية والعربية: النيوليبرالية، الأصوليات، المال، الدين السياسي

تسيّد المال. صار مصدر القيم الأخرى، المادية والمعنوية. نادراً ما نرى زعيماً من دون مال. نادراً ما نرى مرشحاً لمنصب رئيس أو نائب من دون مال. نادراً ما يتعيّن موظف من دون بدل مالي. المال قيمة أساسية عند الجنس البشري؛ قاعدة الوجود البشري؛ استمرار الحياة مرهون به. قيمة تطغى على كل المجالات الأخرى والقيم الأخرى. كما السماء مصدر الإنسان، المال مصدر القيم الإنسانية. يزاحم الذات الإلهية على الخلق. يقول أصحاب المال إنه لولا الاستثمار لما كان الاقتصاد ولما كان المجتمع.

تأليه المال صار عملاً يومياً وحاسماً في هذا النظام العالمي. كما لم يكن الأمر من قبل عبر مختلف مراحل التاريخ. صار أصل البشرية، وكأنه يُروى عنه في كتب خلق الكون. يتنافس مع الله في تسيير الكون. بورصة نيويورك، وغيرها، محط أعين المهتمين بالاقتصاد. يدركون أن انهيار البورصات معناه انهيار العالم. يستطيع الله إشادة عالم آخر على أساس مختلف، لكنه سيكون عالماً آخر. حالما يُبنى العالم الجديد يستلم المال قيادة وسيادة وحكم هذا العالم. إذا كانت الأصولية الدينية هي العودة الى الأصل، فإن الأصولية المالية هي أيضاً العودة الى الأصل المالي. الأصل المالي هو الذهب والفضة، أو الأوراق المالية على أنواعها. عبودية المال مشتقة من عبودية الله، ربما تفوقت عليها. الناس لا ينتظرون وصولهم الى يوم الحساب كي يقرروا عبوديتهم. على هذه الأرض، عبوديتهم رضوخ لضرورات المال. ربما غيروا أولوياتهم عندما يصلون الى السماء. ربما غيروا ولاءاتهم هناك. أما هنا فالولاء معطى للمال من دون منازع.

مثلما يمتلك القديسون والأولياء كمية كبرى من الدين، فإن قديسي وأولياء المال يمتلكون الكثير منه. قليل منه لا يكفي للاتصاف بالقداسة. لدى قديسي وأولياء المال هياكل للعبادة لا تقل فخامة عن بيوت العبادة الأخرى. يصدرون الفتاوى، ويساهمون في تحريك الكون. يُبتهل إليهم من أجل البركة (كمية من مال التسليف). تُرهن ممتلكات في سبيل صكوك الغفران. جنة الله على الأرض هي الانتقال الى ردهات أصحاب المال. الايمان بالمال لا حدود له. مثل كل أنواع الإيمان بذات إلهية أو غيرها.

عندما كان المال وسيلة تبادل، مجرد وسيلة تبادل في عصور مضت، لم تكن له مثل هذه الألوهية كما في عالمنا المعاصر وفي نظام العالم الراهن. تسيّد على جميع مجالات النشاط الإنساني الأخرى. في مجالات العدالة والاجتماع والأنثروبولوجيا والأمور العسكرية والعلمية، صار المال سلطة عليها، سلطة غير منازعة. مصادر التمويل (الاستثمار) تفرض أنواع البحث التي تُقرّ وتجري في كل مجال إنساني. تنتشر كتب الاجتهاد في أمور المال كما تنتشر أمور الدين. إكليروس المال واسع الانتشار، لا تقل سلطتهم عن رجال الدين. في كل مدينة أو بلدة هياكل المال (البنوك) لا تقل عدداً عن هياكل العبادة الإلهية. حروب المال لا تقل فداحة عن حروب الدين. لا نعلم أيهما أكثر تدميراً، وتقتيلاً، وتشريدا. انتشرت الأديان ووسائل المال. ولم يكن انتشارها ممكناً لولا المال كوسيلة أو كفاية. بعد مرحلة من الانتشار تسقط الوسيلة وتبقى الغاية. صار المال غاية الوجود الإنساني كما لم يكن من قبل. صار الدين الذي يقرر مصير الأديان الأخرى.

ليس صدفة أنت تنتشر الأصوليات الدينية لدى كل الأديان السماوية وغيرها. مع انتشار المال بأشكاله الورقية والتسليفية، كأن الذي كتب في بداية التسعينات من القرن الماضي عن صراع الحضارات كان يقصد صراع الأصوليات. لكن الأصوليات الدينية لم تنهزم أمام أصولية المال رغم أن هذه تقرر سيرورة البشرية. هي حالة من شمول الأصولية كل مجالات النشاط الإنساني ومنها الديني. الأصولية انعكاس للأصولية المالية. منذ سقوط الاتحاد السوفياتي لم تعد الأصولية مجرد محاولة عودة للأصول، بل في حالة إعلان نصر في كل المجالات. اتجهت الرأسمالية العالمية الى إعادة تشكيل العالم مادياً وروحياً، وهذا هو جوهر النيوليبرالية أو العولمة أو ما يُسمى النظام العالمي الجديد. نظام ليس فيه عودة الى الجذور أو الأصول، كما يوحي تعبير الأصول، بل الانتقال الى تحقيق أصول جديدة؛ استخدام أسماء قديمة بمحتويات جديدة.

الإحياء الديني كما الإحياء الرأسمالي، يحتاج كل منهما الى الآخر. ليس صدفة أن رفع القيود على البنوك المالية، بإلغاء غلاس-ستيفل آكت (قانون غلاس-ستيفل) الذي كان يمنع البنوك العادية من العمل في الاستثمارات. كانت البنوك العادية قبل ذلك للتسليف فقط، كان هناك بنوك أخرى للاستثمار. وكان هناك، وما يزال، تناقض مصالح في أن يعمل بنك التسليف في مجال الاستثمارات. حذّر مديرون رئيسيون في الإدارة الأميركية من هذا الإلغاء، لكنهم طُردوا من عملهم، أو لم يؤخذ برأيهم. ضغوط أصحاب الملايين الكبار أدت الى إفلات المال من عقاله.

في السنوات ذاتها، أُطلق الدين السياسي من عقاله. أشرفت الولايات المتحدة والمملكة السعودية، وغيرهما، على تجنيد منظّم لمقاتلين اسلاميين من أجل الجهاد ضد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. تغيّر عندها وجه الدين. مع عودة هؤلاء المقاتلين الى بلادهم العربية، نتج عن ذلك استقطاب جديد في المجتمعات العربية: بينهم وبين الأنظمة. وعندما قامت الجماهير العربية مطالبة بالحقوق الاجتماعية، منادية “الشعب يريد إسقاط النظام” لا الدولة، حاصر هؤلاء الثورات العربية، وبدأ بعضهم العمل لإنشاء دولة إسلامية جديدة. وكانت مطالبهم بإدخال الشريعة في الدستور إيذاناً بتغيير في مزاج المجتمعات العربية. وسط أزمة اجتماعية واقتصادية وسياسية خانقة، لم يطرح الدين السياسي أياً من المطالب المتعلقة بذلك، ولم يرفعوا شعاراً واحداً ينم عن احساسهم بعذابات الناس.

تودع “ثروتك” في بنك المال، وتسحب منه نقداً بين الحين والآخر. تودع عقلك في بنك المعلومات (الحاسوب مثلاً أو الايفون) وتسحب منه المعلومات بين الحين والآخر. في الحالتين ليس لك إلا الإيمان بأن بنك المال سوف يحافظ على مالك، وإن بنك المعلومات سوف يحافظ على عقلك. وفي الحالتين لا تعرف من يسيطر على البنك الذي تودع فيه الفلوس أو العقول. تؤمن بما تجهل.

تعني الإحيائية العودة الى الأصول: أن يكون الأمر كما كان في الأصل؛ ما كان في الأصل هو ما يجب أن يكون الآن. ما لا يكون كما يجب أن يكون شاذ عن الطبيعة. أن تكون الأشياء على طبيعتها هو المطلوب. بنوك المال وبنوك المعلومات اخترعها الإنسان. تكون على طبيعتها حين تكون كما يربدها الإنسان. يعادل الإنسان إرادته بالطبيعة (الإنسان هنا هو سيد البنك هذا أو ذاك). الطبيعة التي يتحدثون عنها هنا هي من صنع الإنسان. صُنعت بالأمر، كيانات مصطنعة غير طبيعية بالأساس، فُرض عليها أن تكون طبيعية؛ معطاة من ذات خالق. هم بحاجة لسلطة الخالق، للتشبه بسلطة الخالق في الطبيعة. هنا تستعيد البنوك تعابير ومصطلحات من الطبيعة كي تبدو على نفس المستوى من  “الطبيعة”، وكي تبدو إرادتها ربانية، وكي تبدو جزءاً مبرراً بل ضرورياً من الحياة الإنسانية. كلمة الدين في الأساس استعيرت من كلمة ديْن. دين لله وديْن للمصرف. في الأساس الدين ديْن، ضريبة لذوي السلطة في العصور القديمة.

طبيعي أن تتشكل سلطة العالم من قوى ثلاثة، المال الذي يعتبر أن الاستثمار مصدر المجتمع، فهو بمعنى ما خالق المجتمع، إذ لا قوام للمجتمع من دونه؛ الدين السياسي الذي يعتقد أنه في علاقته مع الله ساهم في الخلق، أو على الأقل يمثل فعل الخلق، أو الإشراف على الناس بعد أن خلقوا؛ الميديا التي تعتبر أنها تخلق الحقائق الافتراضية والبديلة، وتعتقد أن الواقع ملك أيديها. هو عماد السلطة الكبرى التي لا منازعة فيها. الذات تحتقر الموضوع. الرأسمال المالي يحتقر الشعب ويعتبره مدينا له؛ الدين السياسي يحتقر الشعب ويعتبره مجرد أداة لا إرادة لها. الميديا لا تأبه للشعب، هي التي تقرر عقله بعد ان استسلم لها. الانتخابات ليست للتعبير عن رأي الشعب، والعمل يموجب إرادته. هي فقط تظهير لما انزرع في عقله وفي ضميره. لا يناقضون الانتخابات بإلغائها أو تزويرها. يتلاعبون بها، يضبطونها، يقررون نتائجها سلفاً. ليس الأمر والنهي سبيلهم. تستطيع أن تفعل ما شئت، لكن ما تشاء هو ما درّبناك على فعله.

موسيقى هذه الأيام نوع من أنواع السيطرة. آلات العزف الكترونية، الألحان متكررة ببلادة، زعيق المغنيين يحتاج أعلى مكبرات الصوت. تجلس في جمهور لتسمع ما يردك عن المسرح. لا تسمع أحدا من مجاوريك. ولا تسمع الأغنيات. تسمع فقط “ألحاناً” متكررة لخلق الأغاني. همّ المغني وفرقته أن يسيطروا عليك. إذا استمتعت يكون ذلك حياء من مجاوريك، والأرجح أن المشروب الذي يلعب بالرؤوس يدفعك للتمايل انسجاماً مع القطيع. الأمر كله كأنه “مارش” عسكري من أجل التمتع والتمايل مع موسيقى تخلو من الفن وتعتمد الايقاع. ايقاع يُراد لك أن تتجاوب معه. الأصوات العالية تمنعك من محاورة مجاوريك. أنت موجود في القاعة لسماع الجوقة فقط. هي توجهك. الغناء كما كنا نعرفه كان كلمات شعرية تخاطب روحك وألحانا عذبة تتركك تفكر وتتواصل مع فرقة الغناء ومجاوريك. غناء عصر الحداثة أو ما بعد الحداثة ايقاع وحسب. لا تفهم من كلامه شيئا. الأرجح أن الأغنية تخلو من الشعر ألا بعض الأوزان. ايقاع الموسيقى يسجنك بينك وبين نفسك. ان تجاوبت فذلك لأن هناك غير الأغنية ما يجذبك ولا يطربك.

انفصلت المتعة عن التفكير والمعرفة أو تذوّق الجمال. متعة جسدية وحسب. يتخيّل صاحبها أن لا محتوى. المحتوى الوحيد هو المتعة الجسدية المتخيلة؛ يتمايلون على أنغام موسيقى بأصوات عالية لا تحرّك شيئاً إلا بعض حماس غير مبرر. يسيطرون بالأصوات العالية.

يفضّل قادة الطغيان، الفاشيون وغيرهم، الزعيق لدى جمهور جالس في قاعة أو ملعب فوتبول. لا يحبون المظاهرات السيارة. جمهورهم أسيرهم وحسب. ليس مهما ما يسمع. ليس مهماً أن يفكر. المهم أن يتبع وأن يصفّق حين يُطلب منه، وأن يرفع يده طقوسياً لكي “يعرف” الزعيم أن الجمهور يعرف ماذا يُراد منه.

تكاد الحداثة تسير بالانسان نحو الفردية والحرية والعقلانية في الاختيار والأولوية في الاعتبارات السياسية. يتراجع الإنسان ذاته في عصر ما بعد الحداثة الى المتعة الجسدية والتخلي عن التفكير وروح القطيع، ووضع حد للعقلانية؛ الفاشية أكثر النتائج المتوقعة…

(يتبع)