5
Oct
2018
0

النظام العالمي وتداعياته الإنسانية والعربية – السلفية وإغلاق العقل

السلفية وعي سائد بين العرب. تقرر السلفية فهمنا للعالم ولأنفسنا. تغلق العقل. تلغي التاريخ. تعود بالماضي الى حيث لا يمكن العودة. ليست المسألة بالنسبة للسلفيين هي العودة الى مرحلة من الماضي، مرحلة السلف الصالح، للعيش على غرارها. لو كان الأمر ممكناً لما طلبوه. عدم الإمكان، ونشدان المستحيل هو ما يطلبه السلفيون. لا يمكن إلغاء التاريخ. يصادره غيرنا. لا يمكن العودة الى الماضي. أو هي محاولة الخروج من الحاضر، ومن المعاصرة، ومن الحداثة. حصلوا على إغلاق العقل؛ ربما كان هذا مبتغاهم. سلموا العقل لآخرين في الخارج. صار العقل العربي وما تبقى منه أداة لدى هؤلاء.

أنتم أعلم بشؤون دنياكم. لكن الدنيا لم تعد تعني شيئاً بالنسبة لهم. ما فوق الطبيعة، ما هو خارج الكون، ما هو غير الحاضر، ما هو غير الواقع، صار محور الوعي. اعتقدوا أنهم يقيمون علاقة مناسبة مع الله. خربوا الدنيا. صارت العلاقة مع الله مستحيلة. تقديس الماضي بالقفز فوق التاريخ الى الوراء يلغي العلاقة مع الله. الايمان بالسلف يتقدم على الإيمان بالله. صحيح البخاري يُتلى أكثر من القرآن في المساجد. ما عاد التسامي للاندماج مع السماء هو الهدف بل التراجع الى السلف الذي حل مكان التسامي. حل تقديس السلف مكان تقديس السماء.

لصرف الأبصار عن الدنيا، يتطلّب الأمر صرف الأبصار عن السلطة ووضع شروط ومطالب تعجيزية مثل تطبيق الشريعة. وهم يعرفون أن الأمر يؤدي الى حروب أهلية. اختلفوا  فيما بينهم حول الشريعة واقتتلوا. وكانوا أينما حلوا سبباً في حروب أهلية. وصار من حظ أي حاكم طاغية أن يكون هؤلاء خصومه. ساهم الحكام في دعمهم وتمويلهم واعتبارهم الممثلين الحقيقيين لمجتمع هو بالأساس رافض لهم. منبع تمويلهم أنظمة النفط وجامعاتها، ولم يكن الطغاة بمنأى عن التحالف معها، وتبنّي أساليب دعاتها المتخرجين من جامعاتها.

شؤون دنيانا تتعلّق ببناء مجتمعات قوية متماسكة منتجة، ودولة في كل قطر عربي. شؤون السلفية تتعلّق بالدين الجماعي لإقامة علاقة مناسبة مع المتسامي. تكفي ممارسة طقوس الصلاة والحج والحجاب وغيرها ليعلن المرء نفسه سلفياً. متى أعلن ذلك اعتقدوا أن لديه ترخيصا إلهيا بفعل ما شاء حسب معايير أبعد ما تكون عن الأخلاق. صارت السلفية بؤراً للأفعال المشينة. توصم بقلة الأخلاق، وتشكّل نموذجاً لسلوك متفلّت، رغم مظاهر التديّن. الكذب الاجتماعي صار منهج السلوك العام. المظهر العام هو الأساس. السلوك الفردي عليه أن يتقيّد بمتطلبات المظهر العام. الكذب هو الجوهر. إهمال العقل هو المنهج. صاروا يعتبرون أنفسهم حكاماً على المجتمع في هذه الدنيا. نسوا أن الحكم هو لله، والحكم في السماء، والدين يُسر، والدين فهم لهذه الدنيا، وانخراط في هذا العالم، وتعلم منه. انعزلوا عن العالم. رفضوا الغزو الثقافي. مارسوا عنصرية ثقافية. مارسوا عنصرية ضد أنفسهم وضد مجتمعاتهم برفض حضارة العالم، وإصرارهم على الحضارة الإسلامية القديمة حتى في الملبس والسلوك العام. اذا كانت العنصرية ضرورة رأسمالية، فالعنصرية المضادة الذاتية ضرورة سلفية.

مارسوا الدعوة في مجتمعاتهم. هؤلاء مسلمون في الأساس. ما معنى الدعوة لأناس هم في الأساس مهتدون ومسلمون؟ معناها الخضوع لقادة الدعوة والتقيّد بمطالبهم السياسية، وصرف النظر عن قضايا الناس الاجتماعية في العمل، والإنتاج، والمساواة، والكرامة. الخضوع يسلخ الكرامة عن الإنسان. أرادوا انساناً عربياً خاضعاً لا مفكراً. أرادوا الإيمان كافياً مكان العقل. الإيمان اعتبروه ملك أيديهم. فمن ينصت إليهم، ويسلم إليهم عقله، ويقلع عن عادة التفكير يكفيه ما يفكرون به. ويكفي الجميع ما تفترضه السلفية.

يضمر الدين والإيمان عندما تغيب ملكة النقد. كما فرضت أنظمة الطغيان ضرورة الانصياع والابتعاد عن النقد والتظاهر بقبول ما يقوله الطاغية، وأن يحل عقل الطاغية محل عقل المجتمع ومطالبه، كذلك طلب السلفيون الخضوع لأساليبهم في إعطاء الأحكام، بل تنزيل الأحكام على الناس. كأنهم يمثلون الطاغية في الأمور الاجتماعية والسياسية، كنتيجة لتمثيله للذات السماوية في اعتبار نفسه الطاغية والمفكر الوحيد في المجتمع.

ليست السلفية تنظيماً محدداً ذا برنامج يمكن مواجهته. هي وعي اتسع انتشاره مع الهزائم وكثرة مال النفط (الرأسمال العالمي)، ومع انتشار العنصرية والفاشية في الغرب. كما العنصرية وكره الآخر بناء على اعتبارات ثقافية، هم إفراز نظام عالمي متكيّف مع أوضاع المنطقة العربية. لم تكن القاعدة إلا تنظيماً شكّله الأميركيون والسعوديون بتمويل سخي. في الجامعات الدينية السعودية ومع التمويل النفطي، كان بالإمكان نشر هذا الوعي. الاستبداد في الأنظمة الأخرى طوّع لهم الفقر ودجّنه ليصبح ما يُسمى الوعي الديني واسع الانتشار، ويقبل أصحابه ما يقدّم إليهم على أنه هو القضية. منبع السلفية هو ذاته منبع النفط. النفط وأمواله منحة من الشركات والدول الداعمة لها. الاستبداد حليف دائم في القمع والإكراه والفرض القسري لما عجزت عنه السلفية بالدعوة.

البنية الفكرية للسلفية هي نفسها البنية الفكرية السياسية في ظل أنظمة الاستبداد: الخضوع والاستسلام. مع تطوّر النظام العالمي الرأسمالي باتجاه صعود الرأسمال المالي وطغيانه على الرأسمال الصناعي والتجاري والزراعي والخدماتي. توسّع شأن الدين السياسي والتعاطي بالشؤون الرمزية القومية والإثنية. المال والرموز المالية يلزمها رموز دينية، تبدو مختلفة ولكنها تؤدي المهمة نفسها، وهي تدجين الجماهير العريضة التي لا تملك شيئاً، والتي تمثل أكثر من نصف البشرية. الظاهرة عالمية، تبرز في انتشار العنصرية والفاشية حول العالم. جوهرها استصغار شأن الانسان واعتبار الفقر ظاهرة طبيعية تؤدي الى اعتبار الفقير مسؤولاً عن فقره؛ فالغني أكرمه الله بالثروة. في العام نفسه، حوالي 1980، بدأ استفحال الرأسمال المالي، وظهر جهيمان العتيبي في الحرم الشريف، وبدأ صعود الدين السياسي في تركيا. وحدثت قبل ذلك الثورة الإسلامية في إيران، ووقّع السادات على اتفاقية كامب دايفيد، وجرى احتلال أفغانستان ودخول الاتحاد السوفياتي، وتعبئة الدين السياسي بقرار واضح سعودي-أميركي. لا ننسى أنه في تلك المرحلة بدأ زحف الصناعات الأميركية والأوروبية الى الصين وبقية شرق أسيا. تقسيم عمل جديد على الصعيد العالمي. الأسيويون صاروا بروليتاريا العالم. الغرب خاصة الولايات المتحدة ومعها أوروبا الغربية واليابان مصدر الرأسمال المالي العالمي. عالم يُقاد بالمال والدين. تخضع له البشرية. الاستثمار المالي ينتقل من بلد الى بلد مثل البضاعة الدينية لجمعيات الدعوة الدينية والتبشيرية. على الثروة المالية أن تجد لنفسها صدى في العقيدة الدينية. يحتاج أصحاب الثروات المالية الى صرف الأبصار عن هذه الدنيا، كي تعتبر جماهير الناس، حول الكرة الأرضية، ان حل مشكلتها هو في السماء لا في مواجهة الرأسمال على هذه الأرض. لم تعد المسألة طبقية. تحولت الى عقائدية دينية. السلفية تقوم بواجباتها الدنيوية على أكمل وجه.

كأن المال (الرموز النقدية) والسلفية (الرموز الدينية) يلزمها رموز فكرية ذهنية من نوع آخر. فكان انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي منذ بداية التسعينات. انتشر معها ذهن مشتت قائم على تبادل جمل قصيرة غير مترابطة تؤدي الى ضمور المعرفة. تراجعت العقلانية (ربط الأسباب بالنتائج). لم يعد للذاكرة قيمة. كل ما تريده من معلومات مخزون في ألة ذكية ترقد في جيبك وترافقك من مكان الى آخر. التواصل الاجتماعي زال. صارت العلاقة بين الفرد والآلة الذكية في جيبه. كأنها فعل ايمان. علاقة السلفية بالذات المتسامية تتشابه مع العلاقة بين الفرد (في عزلته) والآلة الذكية. الرموز الديجتالية والرموز المالية (الثروات) والرموز الدينية تتداخل فيما بينها. الفرد المعزول يتعاطى مع الرموز. معظم الوقت يدوّنها ولا يفهم دلالاتها ولا ارتباطاتها ببعضها.

السلفية اليوم غير ما كانت عليه في القرن التاسع عشر. كانت تُعنى مثلا بالدين من أجل الاهتمام بالدنيا. سلفية محمد عبده، والأفغاني، ورفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وبن باديس حتى الخطيبي، ولا ننسى عبد القادر الجزائري، وغيرهم، كانت معنية بالمسلمين، وبالناس عامة. كان همها الإنسان أولاً. القضايا المتعلقة بالسماء تتأتى من الوعي والنهوض الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. أمور السماء مفروغ منها، هي في الكتاب المقدس. الناس يقرأونها كل يوم. الناس لم يكونوا بحاجة الى هداية في أمر الدين. السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان: لماذا تقدّم الغرب وتأخرنا نحن؟ كان سؤالاً يعبّر عما يجول في أذهانهم. اعتبروا المسلمين مؤمنين، ولا حاجة للبحث في ايمانهم وملاحقتهم في كل ما يفعلون. السلفية الراهنة، سلفية النفط والغاز والثروة المتلاشية في سلاح الحروب الأهلية وقمع الناس وإذلالهم. هي نوع من محاكم التفتيش الجديدة. يتغافل هؤلاء عن حقيقة أن عمر بن الخطاب تراجع عن تطبيق الحدّ عندما قيل له: تجسّست يا عمر (أي لاحقتنا ودهمت بيوتنا وقصدت أن تجد جرما ما).

السلفية الراهنة دين جديد يعتبر الناس في جاهلية جديدة. لا يقتصر ذلك على وهابية الجزيرة العربية؛ هي نبعت من سيد قطب الاخوان المسلمين في مصر في منتصف القرن العشرين. هي وليدة الإفقار الذي تمارسه الرأسمالية العالمية والمحلية، والاستبداد الذي تمارسه المنظومة الحاكمة العربية (من دون استثناء)، والتكنولوجيا التي تستخدم لمراقبة الناس وملاحقتهم بواسطة آلاتهم الذكية.

الدين الجديد (السلفية) ليس وليد التطوّر التاريخي لمجتمعنا؛ هو وليد نظام عالمي قائم على الافقار واحتقار الإنسان والاستبداد واعتبار الإنسان وسيلة للسلطة والثروة. الذي منا قارب عمره ثلاثة أرباع القرن يتذكر شيئاً من مجتمع الدين القديم، السابق للثمانينات، وحتى للسبعينات، يدرك أن التديّن كان أكثر ارتياحاً في التعاطي مع الآخرين، وأقل ارتياحاً في التعاطي مع رجال الدين. كان كل مسلم يعتبر الجار المقارب له مسلماً مهما كان تقيده بالطقوس، ويعامله كمسلم حتى لو أخلّ بمعظم الطقوس، وان الله غفور رحيم. وفي جميع الأحوال الحكم في السماء لا على الأرض. المسلم يحاكمه ربه في السماء. ولدى الحاكم الأكبر هامش أكبر للرحمة. أما الطقوس، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء غير ذلك فليفعل، والحكم عند الله. في الخمسينات، عندما اشتدّ الصراع بين الأخوان المسلمين وعبد الناصر، كان الناس مع عبد الناصر لا مع الاخوان. كان الدين أقل عبءاً على أتباعه، وكان للدين متعلقاته بالقضايا اليومية من دون تكفير أو إخراج من الدين، على أساس أن الحكم سيكون في السماء. كان الدين أكثر حميمية مع الله. لا تقنطوا من رحمة الله. لم يكن أحد من المسلمين يعتقد أن يوم الحساب سوف يكون عسيراً إلا إذا كان ذلك المسلم قد تجاوز كل الحدود في مخالفة أصول الدين. كانت الأحكام أكثر تواضعاً. كانت النفوس أكثر تواضعاً. لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي في جيب المواطن. وهي تزوده في الحال بجميع المعلومات بما يبيح للمواطن أن يكون غير متواضع أمام المعرفة. كان الاعتماد على الذاكرة، وعلى احتمالات الخطأ والصواب، وعلى الاتصال (بالآخرين). الحوار يوصل الى المعلومة، والمعلومة الى المعرفة، والمعرفة الى الوعي. تضخمت الذات مع التصاق الآلة الذكية (واحدة أو أكثر كاللوحة الذكية) بالإنسان. اعتبر حاملها أنه يعرف كل شيء عن طريق الآلة الذكية، وهو لا يعرف شيئاً في دماغه. المعرفة لا تتعدى الدماغ في تعرضه للعالم الخارجي ورؤيته لعناصره.

 الدين الجديد-السلفي فيه الكثير من الإكراه والقسر الاجتماعيين. أفراد المجتمع الآخرون ينوبون عن السلطة في أن ينظروا إليك شذراً وينتظروا منك الانضباط. ربما صحّ القول إن الدين لم يتغيّر؛ وما تغيّر هو طبيعة المتدينين. مجتمعنا مأزوم. علينا الإقرار بذلك. السلفية تفرض علينا انغلاقاً للعقل، وعزلة عن العالم. وتفرض علينا عنصرية مضادة. عنصرية تجاهنا نمارسها نحن ضد أنفسنا. هذه العنصرية هي حصيلة، لا الانغلاق على أنفسنا وحسب، بل أيضاً حصيلة الانقطاع عن العالم والعزلة عنه