27
Apr
2018
0

تاريخ الجنس البشري (ونهاياته؟)

أحدث كتاب سابيانز عن تاريخ الجنس البشري ضجة كبيرة في الغرب. اسم الكاتب يوفال نوح هاراري. نُشِرَ أولاً بالفرنسية، ثم ترجمه المؤلف للانجليزية. نشره للمرة الأولى في 2011 ثم 2014، مع بعض التعديلات كما هو مشار في السياق.

ترتكز نظرية المؤلف الى اعتبار التاريخ البشري ثلاث مراحل، أولاها الثورة المعرفية، ثم الثورة الزراعية، ثم الثورة العلمية. ستؤدي المرحلة العلمية، ربما، الى نهاية الجنس البشري أو الى نسخة معدلة منه. كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث تؤدي الى كارثة.

في المرحلة الأولى عاشت الفصائل البشرية الثلاث، وهي السابينز، والنيندرثال، والدنيسوفان. ولما كان الدماغ البشري أكبر مما لدى الآخرين، استطاع الفصيل البشري القضاء على الإنسان النيندرثال والدنيسوفان.

أدت المرحلة الأولى الى الثورة المعرفية قبل 70 ألف سنة. اكتسب أجدادنا البشر السابينز ذكاء لم تكتسبه الفصيلتان الأخريان: النيندرثال والدنيسوفان. واستطاع الفصيل البشري القضاء على الفصيلتين الأخريين. كان الإنسان في ذلك الحين يعيش حياة التجوال والقطاف من الطبيعة. كان يستمد منها غذاءه وحاجياته الأخرى.

اكتسب الإنسان مهارات في المرحلة الثانية من وجوده أدت الى الثورة الزراعية بما في ذلك تدجين بعض الحيوانات مثل الكلب، والحصان، والقطط، والبقر، ثم الجمال. أدت زيادة الإنتاج الزراعي الى فائض، والى نشؤ طبقة حاكمة تستخدم بيروقراطية تجني الضرائب من هذا الفائض الذي تنتجه الزراعة. اضطر الناس في زمن الزراعة الى العيش في جماعات أكثر كثافة، وتعداداً، واستقراراً. سكنوا المدن والقرى. ازدادت كثافة المدن، وازداد انتقال الأمراض نتيجة عيش الناس في جماعات بيوتها لصيقة ببعضها. قرب الناس من بعضهم في العيش اليومي يؤدي الى تطوّر وازدياد الأمراض والأوبئة.

هنا ينطرح السؤال الأهم، وهو: هل أصبح البشر أكثر راحة وسعادة مع الزراعة؟ لا شك أن العمل الزراعي يتطلّب التكاثر في مواقع مستقرة، وما يؤدي إليه من فوائد إنتاجية يفيد في نشؤ طبقة من الكتاب والبيروقراطيين الذين يعملون لدى الملوك والأرستقراطية لتسجيل الفوائد وجباية الضرائب. ومن الطبيعي أن تكون الضرائب هي فوائض الإنتاج التي تزيد عما يكفي المزارع للحد الأدنى من العيش. كان ذلك مجتمعا لبداية تخصص في زراعة أنواع دون أخرى، ونشؤ مهن مختلفة تتطلّب اختصاصاً أو ما يُسمى بلغة الماركسيين تقسيم عمل. لكن العمل كان مضنياً والخضوع للتراتبية الاجتماعية كان كاملاً. يعاقب من يخرج عليه. نشأت الحكومات الملكية، ثم الامبراطوريات. وصارت مهمات المزراعين هي الإنتاج وقتال الجماعات الأخرى من أجل فوائضهم. عندما تتطوّر الدول-المدن الى امبراطورية، تصير الحرب ضرورية من أجل السيطرة والنهب.

الثورة الثالثة في تاريخ البشرية هي الثورة العلمية ثم الثورة الصناعية التي أدت الى تفوّق المناطق الطرفية في أوروبا الغربية، ثم اليابان، ثم الولايات المتحدة. تزامنت مرحلة الثورة العلمية مع الامبريالية التي أدت الى العولمة، وتوسّع التجارة التي ربطت مختلف المعمورة ببعضها، وكانت الأديان التوحيدية قد ظهرت من قبل مما ساهم في نشر العلاقات بين الجماعات القريبة والبعيدة.

بالطبع أنشأ الأباطرة الأهرامات وغيرها من المباني الكبرى لتكون معابد أو مراكز حكومية. الدول الامبراطورية بحاجة الى منشآت كبرى من أجل هيبة السلطة ومن أجل إسكان البيروقراطية التي تفرّعت منها النبالة، وتشغيل كل هؤلاء في خدمة الملك الإله بداية، ثم الامبراطور الذي أكسب نفسه صورة إلهية منذ البداية. الملك أو الامبراطور منذ البداية هو ذو طبيعتين، واحدة إلهية وواحدة بشرية. البشري يريد أن يكون إلهاً. الألوهية حل لمسألة الموت المستعصية؛ فموته ليس معناه نهايته.

بالطبع الألوهية نوع من الترف الذي لا يكون متاحاً إلا للملوك والأرستقراطية. كان هؤلاء يبنون أبنية كبرى (معابد، هياكل، أهرامات) وملاذات من أجل الحياة الأخرى بعد الموت. كان الملك أو الأرستقراطي يدفن مجوهراته وأدوات أخرى للاستعمال بعد الموت، ويدفن معه حاشيته لخدمته في الحياة الأخرى. تعالي الملك في هذه الدنيا دفعه الى التسامي الى مرتبة الألوهية. يكتشف الأركيولوجيون قبوراً للملوك قديمة وفيها الملك مدفون مع حاشيته وزينته وأدوات الاستعمال.

يناقش الكاتب مسألة الإله التوحيدي المجرد ويقارنه بمراحل سابقة حيث كان تعدد الألهة وتعدد الأديان. كانت الأديان الوثنية السابقة للأديان التوحيدية أكثر تسامحاً. تتعايش ألهتها مع بعضها وتشكل طبقة تتعاطى مع شؤون البشر. الإله التوحيدي متسام ومجرد، لا يمكن التعامل معه إلا بعهد مع الأتباع، وباسمه نشأ ما يُسمى الحلال والحرام على أيدي الكهنة. يكون يوم الحساب في الآخرة على أساس ما ارتكب الإنسان من حلال أو حرام في هذه الدنيا. الثورة العلمية نقضت التمايز بين السماء المنفصلة والأرض ذات الحياة الدنيوية. الجماعات الزراعية الأولى كانت كل واحدة منها لا تتجاوز بضعة ألاف. وكان لا يلزمها إلا ألهة صغار؛ وكل إله متخصص بمهنة أو مهمة. كان وضع تعدد الألهة، أو الوثنية أكثر ديمقراطية. تنشأ الألهة الكبرى مع الامبراطوريات وتصير أكثر سلطة؛ وصولاً الى الإله الواحد ذي السلطة المطلقة؛ ومن يتبع هذه السلطة ويتقيّد بها هو من جماعة المؤمنين، “النحن” التي تخصهم، والآخرون كفرة من جماعة ال”هم” الذين تتوجّب هدايتهم، أي أن هناك أسبابا روحية وغير مادية للحرب من أجل السيطرة على الآخرين وهدايتهم، ونهب ثرواتهم، وأرضهم، وممتلكاتهم، وتحويلهم الى عبيد.

بالطبع ينكر الكاتب الروح. هناك الأحاسيس وحسب. عن طريقها تكون المعرفة والسعادة أو الكآبة. الأحاسيس لا تقود الى معرفة الله. الروح وحدها تتصل بالله بطريقة لا يعرفها أصحابها، بواسطة الإيمان وحسب. لا يناقش الكاتب مسألة الإيمان. فهذا الأمر غير وارد في الأساس.

أما السعادة، فعلى الرغم من كثرة التعريفات المتعلقة بها، فهي أمر يتعلّق بالمشاعر والأحاسيس الناتجة عن الجينات التي تولد عند الإنسان ميلاً الى الحبور أو الكآبة. البيولوجيا تلعب دوراً كبيراً في تقرير سلوك الإنسان ومصيره، رغم أنها ليست كل شيء. لكن العلوم الجينية التي كانت محرّمة بعد الحرب الكبرى ومآسيها التي أصابت من اعتبر أدنى في الذكاء على السلم البيولوجي-الجيني فرضت نفسها منذ عقود. وما زالت العنصرية ظاهرة أو كامنة في كل المجتمعات. مهما عدّلت البيولوجيا-الجينية في نتائجها، إلا أنها تبقى دائماً عرضة للاستخدام في خدمة العنصرية.

تطوّرت الثورة العلمية الى الالكترونيات والانترنت والذكاء الاصطناعي. لا شيء يمنع أن يحلّ الذكاء الاصطناعي مكان ذكاء البشر. ولا شيء يمنع أن يستطيع العلم صنع إنسان جديد ممتدّ الحياة. الأبدية للإنسان صارت ممكنة. وتستطيع الالكترونيات أن تنقل المشاعر، مع عدم وجود الروح. تصير هذه المشاعر أساس المعرفة والتواصل البشري. تستطيع هذه التكنولوجيا إنتاج حياة بشرية من نوع جديد، للأغنياء طبعاً. يمكن إيجاد تطبيقات جينية لإنتاج بشر أكثر ذكاء وقدرات فيزيائية وحيوات أطول.

 اذا كانت نهاية البشرية متوقعة، وهذا أمر ممكن، وقد تحدث جارد دايموند في كتاباته القيّمة عن انهيار حضارات بكاملها بسبب إمعانها في استعمال مواردها الطبيعية، فإن ظهور حضارات جديدة عن طريق الإنترنت أمر ممكن. ربما كانت حضارة واحدة. لكن الحياة التي نعرفها سوف تُقاد الى نهاياتها.

الأمر المفاجئ أن الكاتب اليهودي الإسرائيلي الجنسية، والذي يدرّس في جامعة أورشليم القدس، لا يتحدّث عن الأسلحة النووية التي توسّع انتشارها في أكثر من 25 دولة، ولا يتحدث عن خطرها الداهم على الجنس البشري. لا شيء يمنع انتهاء الحضارة البشرية، كما انتهت حضارات في مختلف أنحاء العالم، عن طريق التدمير النووي، وليس فقط عن طريق نضوب الموارد أو التطوّر العلمي الذي ربما يؤدي الى نشؤ إنسان من نوع بشري.

طبعاً، يُمنع في إسرائيل مناقشة السلاح النووي الذي تملكه هذه الدولة منذ عقود. ولا يتحدث عن كارثة نووية بل عن كارثة ربما حلّت نتيجة تطوّر الالكترونيات والأدوات الذكية.

ليس جديدا نقاش فكرة التقدم واعتبارها خطراً على الوجود البشري. لا يقود التقدم بالضرورة الى ازدياد السعادة، بل الى ازدياد الاستهلاك. المجتمع الاستهلاكي ربما كان أقل سعادة من مجتمع الصيادين. يناقش الكاتب فكرة السعادة باستفاضة. يعزوها الى قابلية جينية عند الإنسان.

يذكر الكاتب قصة ديوجين الفيلسوف الكلبي (Cynic) مع الاسكندر المقدوني، الامبراطور الذي جاء يزوره. كان ديوجين يرقد في برميل تحت الشمس. سأله الإسكندر إذا كان يريد منه شيئاً. أجاب نعم، أريدك أن تزيح من مكانك فأنت تحجب ضؤ الشمس عني.

يصعب على البشر قبول نظرية ديوجين الساخرة. يعيش البشر من أجل العمل والإنتاج؛ الهدف من ذلك التراكم والاستهلاك. التاريخ أعمى في تطوّره ربما قادنا الأمر الى المجهول: الى كارثة من صنع أيدينا. مع التطوّر العلمي لا بدّ من التساؤل، والشك، والسخرية، والتساؤل حول المصير. ربما كان التاريخ في