22
May
2022
0

تعليق على الانتخابات: تغيّرت قواعد اللعبة

لم يستطع حزب الله أن يقنع جمهوره أن الأولوية في الصراع الآن هي للمواجهة مع الامبراطورية العظمى. ولم يستطع أن يقنع جمهوره بجدية هذا الخطاب. ولم يستطع خصومهم إقناع جمهورهم بأن الأولوية يجب أن تكون ضد الامبراطورية العظيمى، إيران، وما سموه احتلالها للبنان. وكأن المعركة الانتخابية في لبنان جرت بين أنصار “المقاومة” الأوفياء لها، وبين أنصار “السيادة”. وكأن المعركة بين مقولتين: المقاومة والسيادة. يخوضها اللبنانيون بالوكالى (proxy) عن القوى الخارجية.  وكأن اللبنانيين غير معنيين بأزمات خانقة. الواحدة تلو الأخرى. مفتعلة في سبيل إفقارهم وإذلالهم، ثم معاقبتهم على ما اقترفوه من ذنب بقيامهم بثورة 17 تشرين، وتوليدهم هوية فوق الهويات. “سوبر هوية” تعلو على الهويات الطائفية.

دخلت الطبقة السياسية هذه المعركة الانتخابية وكأنها مصيرية. لكنهم لم يميزوا بين الخطاب الكاذب والخطاب الواقعي. بين خطاب المقولات وخطاب الوجود. الأوّل يعبّر عن ايديولوجيا وهمية للتعمية، والثاني يعبّر عن مشاعر وحاجات؛ حاجات ليست للترف فيما يتعدى متطلبات للوجود، بل حاجات ضرورية للبقاء؛ توفرها يعني الفرق بين الحياة الكريمة والذل، وبين البقاء والمجاعة. لم تفهم المنظومة السياسية مجتمعها، بالأحرى لم ترد أن تفهم أن ما يهمها يتناقض مع ما يهم الناس.  طبقة سياسية تكتنز الأموال المنهوبة وتعيش حياة ترف بحواصل هذه الأموال. تسلب وتصادر أموال وأملاك الناس بقيادة أكباش الطوائف وبواسطة المصارف.  هذه المؤسسات التي لا تستطيع ولو للحظة واحدة أن تفعل ما تفعله بالناس لولا مباركة الطبقة السياسية ومشاركتها في القرار بإنتاج الأزمة التي تتشكّل من أزمات متلاحقة ومتزامنة. أزمات تكفي كل واحدة منها لإسقاط نظام في بلد آخر لا يُحْكِم السيطرة عليه أكباش الطوائف وبيوتات سُمّيت لسبب أو لآخر بالإقطاع السياسي، رغم أنه ملحق أو تابع للزعامات الحقيقية التي تقرر الايديولوجيا الطائفية السياسية السائدة التي أصبح خطابها غير ملائم للناس بعد تغيّر حياتهم وانحدار معيشتهم نحو الانهيار الكامل والمريع.

حاولت المنظومة الحاكمة تغييب حقيقة أن المطلوب لدى الناس ليس هذا ولا ذاك. لا تلك المقولة أو هذه، بل هي الدولة. الدولة بما يجب أن تكون عليه ومن دون شروط. لا شرط على الدولة. الدولة شرط لما عداها. دولة تكون الوعاء الناظم للمجتمع. دولة تنغرز في وعي المواطنين، فيكون الواحد منهم مواطناً، لا رعية. وتكون الدولة فوق النظام والمنظومة. تتحقق الدولة وتكون هي المجتمع، ويكون الأفراد مواطنين يستطيعون العيش سوية، بحكم الضرورة، ويرى كل منهم في وعيه وبصيرته أنه هو الدولة وأن الدولة هو؛ عند ذلك تنحل “معضلة” سلاح حزب الله تلقائياً، بحيث لن يكون من الضرورة رفعها كشعار يهدف الى استفزاز الآخرين وتحريض الآتباع. هذا ما يتوجب على الجميع السعي إليه. وهو في حقيقته الشكل الأسمى للعيش سوية؛ وهذا ما ترفضه الطوائف. إذا يقطع عليها الطريق. فهي جماعات مغلقة تتحيّن الفرص لنهب المال العام وسلب الطوائف الأخرى، وفي المحصلة سلب المجتمع مادياً ومعنوياً.

المواجهة الحقيقية، بل المجدية، ليست بين أطراف خارجية تستخدم كل منها أتباعها في الداخل، بل هي معركة في الداخل. داخل الذات المجتمعية بين المجتمع الذي يريد أن يكون دولة، بمواطنيه ونظامه، وبين النظام الحاكم الذي يزدهر على فساد الطائفية وتمزيق المجتمع ليسهل سلبه معنوياً وسرقته مادياً.
أدرك الناس هذا الأمر. لذلك جاءت نتائج الانتخابات مخيبة لآمال جميع أطراف السلطة وأحزابها، الموالين فيها والمعارضين. مجتمع منهك بسبب ما اقترفه حاكموه من قمع وبلطجة وإذلال؛ كان القانون انتخابي أعوجاً وقمة من قمم التكاذب على الناس وعلى الديمقراطية، ومفصّل لتأبيد الحالة الراهنة، وتعميق الأزمة، الأزمات، وصولاً الى الانهيار الكامل، إضافة على ذلك التعمية لخداع الناس والتلاعب بالمجتمع. استطاع الناس اختراق المنظومة الحاكمة في عدة مواقع أهمها رموز تمثّل الرأسمال المالي (المصارف)، وهي حليفة لأحزاب السلطة، وعدد من أهل الكلامولوجيا الذين كانت مهمتهم التبرير لجرائم السلطة. المناطق التي سقط فيها هؤلاء كان أثرها موجعاً لأهل السلطة الذين رغم احتفالاتهم “بالانتصار” الانتخابي، ورغم الحذلقات في حسابات الأصوات، وإعادة حساباتها، بهذه الطريقة أو تلك، لدعم وجهات نظرهم، فإن الواحد منهم كان يحتفل ويبتسم “ويرقص متلوياً من الألم”. ما إن أعلنت نتائج الانتخابات حتى عاد أهل السلطة الى لعبتهم السابقة بتوليد الأزمات التموينية، وعادت طوابير الذل. يعاقبون الناس مرة أخرى.

تجرّأ الناس على أهل العرش نتيجة ثورة 17 تشرين التي كالوا لها شتى الاتهامات. مهما قيل عن السفارات وأتباعها، إلا أن في هذه الثورة احتلّ الناس الساحات العامة احتجاجاً على السلطة أو النظام، ورفعوا شعار “كلن يعني كلن”. وهو شعار صحيح، وإن وُجِدَ بين أصحاب السلطة أفراد من أصحاب الضمير الحي. صوّت الناس بأقدامهم في ثورة 17 تشرين، ومورست ضدهم شتى أنواع القمع والإرهاب حتى المرحلة الانتخابية. وفي الانتخابات النيابية كانت النتائج، رغم قلة عدد الناجحين من أهل مقولة التغيير، انتصاراً على السلطة. المجتمع انتصر على السلطة. فهل يستفيد أهلها من العبر؟ أم يصح القول أن الدرس الوحيد الذي تعلموه من التاريخ هو أن لا يتعلموا دروس التاريخ، وأن العبرة الوحيدة التي يدركونها من التجربة هو أن يتجاهلوا دروسها؟

لم يسقط النظام. أصابه بعض الخلل في التوازنات. لكن تغيرت قواعد اللعبة. ما عاد طرف يستطيع القول أنه أكثرية في طائفته أو في المجتمع.