4
Feb
2022
0

دفاعا عن المجتمع المفتوح

يتسرب الاستبداد من باب كان غير متوقع. باب إلغاء السياسة ورفض المجتمع المفتوح لدى المنظومة الحاكمة ومعاقبة المجتمع اللبناني، بإفقاره ونهب أمواله المودعة أو ما تبقى منها، إضافة الى التعذيب والاعتقال المعتادان أيضاً في كل قطر عربي.

خلقت ثورة 17 تشرين هوية في لبنان. هوية وطنية فوق الهويات الطائفية. واجهتها الطائفية وأكباشها بكل شراسة. لا نعلم إذا كانت الثورة سوف تؤدي الى إلغاء الطائفية بالكامل أو طمسها. لكننا نعلم أن الثورة المضادة قمعتها بشراسة عن سابق تصوّر وتصميم. والتخطيط لمعاقبة المجتمع اللبناني حدث أنذاك في اجتماعات عقدها أرباب المنظومة الحاكمة. جاء الإفقار (مصادرة ونهب أموال وودائع الطبقة الوسطى، والتضخّم ورفع الأسعار بشكل جنوني غير مسبوق). جاءت “الأزمة المصرفية” على أعتاب الثورة. هرّب الكبار أموالهم. وقع الناس في الفخ. زالت الطبقى الوسطى. فرض نوع جديد من الطائفية. بزغ أسلوب الميثاقية. الطائفية تقرر وتتكلم وتمارس حق الفيتو. الأفراد لا كلام لهم إلا الخضوع والذل في الطوابير على أبواب المصارف ومتاجر الأغذية. تزايد الفقر. ينحدر المجتمع نحو التفكك بعد تفكيك الدولة. مجتمع منهك يكاد لا يستطيع لملمة أطرافه. مضت أيام كانت الطائفية خجولة. صارت فجاجتها علنية في وجه الناس، في الثورة وبعدها. الآن انقضاض آخر على المجتمع. وسيلة المثقفاتية. فيالق منهم يستطيعون استخدام لغات أجنبية والاستشهاد بكتب لمؤلفين غير معروفين. الحملة على المجتمع المفتوح يشنها مثقفاتية بأردية حديثة أو تتمظهر بألوان حديثة.

يتحقق المجتمع المفتوح بعودة السياسة؛ الحوار بين الناس لا بين الطوائف أو ما يسمى مكونات المجتمع. هذه الطوائف المكونات جماعات مغلقة يسودها أكباش الطوائف وأرباب المال، المصارف. الطبقة “السياسية” المغلقة تدير ما سمي بالثورة المضادة. أُفقر المجتمع كي يُنهك، أي يثقله ويقعده الفقر. المجتمع المفتوح استعادة القوى والمعافاة في وجه المنظومة الحاكمة. عودة السياسة هي جوهر صعود المجتمع المفتوح.

التناقض الأساسي ليس بين الاستبداد والديمقراطية. هذه يمكن أن تقود الى الاستبداد إذا كان على رأسها ديماغوج. كم من ديكتاتور حكم وتحكّم بعد فوزه بالانتخابات في مختلف بلاد العالم؟

مبدأ السياسة هو الاختلاف. أن يكون الاختلاف حق لهم. عدم الاعتراف لهم بهذا الحق يحصل حين الولادة. يُدحش الناس على قيود طائفة ما؛ طائفة والديهم. للطوائف فقط حق الاختلاف. عفوا، لا اختلاف بين الطوائف حول السياسة (إدارة المجتمع). كما هو مفترض (منذ أيام أثينا). بل الاختلاف حول المغانم التي تتيحها مواقع في الدولة (السلطة). عمل الطائفة ليس الدفاع عن أفرادها بل نهب ما لدى غيرها. ما يتحقق لغيرها يعتبر وكأنه خسارة لها (منهوب). الحوار بين الطوائف، بعد منح كل منها حق الفيتو، ليس حواراً بين مختلفين. هو آلية للنهب واقتسام الغنائم.

المجتمع المفتوح هو قبل كل شيء اعتراف للأفراد بفردية كل منهم. أن يكون الفرد متحررا من قيود فرضت عليه عند ولادته وبعدها. أن يصير الفرد غير ما كان عليه بتطوّر عقله وعقلانيته. تأكيد ضميره، وأن سلوكه ينبع من هذا الضمير لا مما تفرضه الطائفة وأكباشها. الطائفة جماعة مغلقة. بها ينغلق المجتمع. ينغلق عقله. يمنع الأفراد من التفكير. يصير كل منهم كالإنسان الآلي (روبوت). المجتمع المفتوح يتشكّل من أفراد لا من طوائف تنوب عن الفرد وتضعه تحت جناحيها. الاختلاف بين الطوائف مصدر للنهب والحرب الأهلية المعلقة. الاختلاف بين الأفراد مصدر للانتظام وتماسك المجتمع. ميليشيا الهجوم على المجتمع المفتوح هي ميليشيا حرب أهلية من نوع جديد.

السياسة أيضاً فن التسويات؛ تزامن التسويات. تفترض الاختلاف. اختلاف الآراء والمصالح وتسوية الاختلافات فيما بينها. والتسوية لا تحصل إلا بالحوار. الحوار لا يحصل إلا بين مختلفين. إذا انمحق الاختلاف، تزهق روح الأفراد، يصير التشابه لا مطلباً لمن اختلف بل قاعدة لمن تشابه. مجتمع يتألف من متشابهين هو مجتمع مذرر رتيب، مستسلم العقل والروح. فاقد القدرة على التجدد والإبداع. الابداع ليس ضلالة، بل هو نتيجة قلق دائم وشك يحفّز التفكير ويثير العقل ويؤنب الضمير. هل كان إبتداع نظريات العلم والفلسفة على مدى التاريخ إلا نتيجة القلق؟ الفردية فرد مبني على القلق والشك. اليقين غلبة الظن، كما يقول الفقهاء. هو في الأساس تسوية بينك وبين نفسك. أنت تتطوّر. يشغلك العقل. تثيرك الشكوك، تهلوسك الظنون. تصل الى تسوية أو تسويات بينك وبين نفسك. الفرد ليس هوية واحدة. هو أيضاً متعدد الهويات والرغبات والميول. المجتمع المفتوح هو حصيلة أفراد يتواصلون، يرتكبون التسويات. في حالة نزاع دائم داخل كل منهم. ينتج تماسك المجتمع عن هذا النزاع الداخلي الذي لا يحسمه إلا الضمير. ضميرك يملي عليك من تكون وماذا تريد أن تكون. سلوكك ينبع من ضميرك لا مما يمليه عليك تأثير خارجي. تتحقق كإنسان فرد في ضميرك وعبره. عبر ذاتك. السياسة تعلمك  أن وجودك مرهون بوجود الآخر في مجتمعك. الاعتراف بالآخر والقبول به ليس منة منك أو من غيرك. هو ضرورة للعيش سوية. لا يتماسك المجتمع إلا بالسياسة. بإقرار ضرورة العيش سوية. تكتسب سويتك العقلية أو الذهنية من ذاتك كما من الغير. من العلاقة أو العلاقات مع الغير والأغيار. ليس الأغيار كم مهمل، أو يجب التغاضي عنه، والتسليم للطائفة. يحق الحوار معه. أنت كفرد واجبك التفاوض مع الغير والأغيار. حق الاختلاف واجب لأنه ضرورة للسوية. الضرورة غير كافية. تصير كذلك بالتواصل والتسويات. شبكة التسويات هي أساس تماسك المجتمع وهي في الوقت عينه المجتمع المفتوح. هي السياسة وهي احتواء التناقضات وهي تكامل العيش. إذا كانت الذرة في كل خلية حية، أو غير حية، تتشكل من ذريرات متناقضة، فالعيب كل العيب، أن لا نعترف بالتناقضات والاختلافات بين الأجسام التي يتكوّن منها كل فرد. الطائفة تفترض التشابه بين الأفراد. مجموعاتهم تسمى الطوائف أو المكونات للمجتمع. المجتمع المدني مفتوح بالتعريف. هو ليس تنظيما عسكريا يسير فيه الأفراد على إيقاع واحد. تعدد الإيقاعات يشكّل سيمفونية المجتمع المدني المتماسك. أوشاج المجتمع المدني متشابكة. المجتمع شبكة تواصل، شبكات تواصل، أساسه الحوار والتسوية. الإنسان حيوان ناطق. النطق يشكل اللغة. اللغة تواصل. هي مشترك بين الناس. المجتمع المفتوح هو بحث دائم عن المشترك بين الناس. الطائفة انفصال بين الناس منذ أن يولدوا أو يصادروا. الحرية هي أن تكون ذاتك. لست خاضعاً لإرادة غيرك. الاستبداد يفترض الخضوع والاستسلام للغير. يتشابهون في خضوعهم واستسلامهم وتخليهم عن الضمير، وصيرورتهم الى غير ذاتهم. المجتمع المفتوح صيرورة، تغيّر، تطوّر، بحر هائج، شكوك، وظنون، واكتشافات؛ مجاهيل تُكتشف. المجتمع المدني اكتشاف دائم. اكتشاف للغير وللذات. فضول دائم. نقيض المجتمع المدني استسلام لحقائق معروفة سلفاً. مفروضة قبلياً. قسرية مع الولادة. نقيض المجتمع المدني. نقيض المجتمع المفتوح. نقيض السياسة. نقيض الاختلاف. نقيض الحق بأن يكون الواحد منا كما يريد أن يكون، وكما يجب أن يكون. هو الاستبداد ومعناه أن تكون كما يريد الغير. ضرورة يفرضها ما في غير نفسك وضميرك. وجودك الإنساني يعتمد على ضميرك، أي على اختلافك، أي على عدم تشابهم وعدم امتثالك. يفقد الوجود انسانيته دون اختلاف.
وأخيرا لا آخراً الحرية؛ هي التمرّد على ما يراد لك. ما أنت عليه هو صنع نفسك. ذاتك تصوغك. كل فرد عضو في المجتمع. وكل عضو في البيولوجيا، حتى في الجسم الواحد، مختلف عن كل عضو آخر ولو كانوا يؤدون الوظيفة ذاتها. لا تستقيم الحياة إلا بالشعر. الشعر ألفاظ. كل لفظة تتخذ معنى آخر في سياق القصيدة. تعدد المعاني للفظة الواحدة سحر. الحياة سحر، دهشة، انجذاب، نفور، انعتاق. تعتق نفسك، تحررها من ضرورات التشابه. في التشابه ذل. في التمرّد حرية وكرامة. خروج من الهزيمة. ننهزم أمام أنفسنا، ننهزم في داخلنا، ننكر إرادتنا. ويكون ذلك مقدمة للهزيمة أمام مجتمعات أخرى وأمام ثقافات أخرى. نخاف من الثقافات الأخرى، خاصة الغربية، وهي العالمية التي يجب أن تُحتذى. لأننا نخاف من أنفسنا على أنفسنا. الاستبداد يزرع الخوف فينا. نعيش في رعب دائم من السلطة وتقارير أجهزة المخابرات فيها، كما نخاف من نظرة مجتمع التشابه إلينا. الطقوس الدينية تفرض علينا التشابه. تلغ مدنية المجتمع. تغلق العقل. ينقاد العقل لحركات الطقوس، لحركات التشابه. يُقاد العقل بغيره. تستولي غريزة القطيع. نعود رعايا. نفقد قدرتنا على أن نكون مواطنين. نفقد الاعتبار أننا لا نكون مواطنين إلا بالفردية والتمرّد والحرية. تتشكّل الدولة من مواطنين لا من رعايا. مكوناتها الأفراد لا القطعان. القطعان طاعة والأفراد تمرّد، حيث كل فرد مختلف. هو مختلف لأنه عضو في المجتمع.

لا نخاف على ثقافتنا من التغيّر. نخاف عليها من الثبات والتشابه: التشابه مع ما سبق في الزمن، أي الماضي. مثل الماء الراكد الآسن بالطبيعة. عندما تركض المياه، تجري وتطهّر نفسها. مع كيماويات متدفقة الى الأنهار. صرنا نخشى التدفّق. الزمان يسيل، شئنا أم أبينا، ونريد لأنفسنا الثبات ولثقافتنا الركود. مع تقدم العلوم الالكترونية صار المكان أيضاً يتدفق إليك ويدخل غرفتك. يؤثر فيك. نرفض التأثّر بالتأثير. هل نحن جماد؟ الجماد لا يتمرّد إلا إذا كان بركاناً. البركان تمرّد على ظاهر الأرض. ونرفض التمرّد كبشر وكضمائر مختلفة وآراء مختلفة ومصالح مختلفة.

حرية الرأي مضمونة في دساتير كل بلدان الأرض.  يقضي عليها في البلدان الاستبداد. يُفرض التشابه. ليس إلا بالقسر يُفرض التشابه. بالنسبة للطاغية كل الناس سواء. يتساوون بالذل والطاعة إن شاؤوا؛ وإن شاؤوا فليتحرروا. حرية الرأي تكون بالتمرّد ورفض التشابه. هي في المجتمع المفتوح حيث الأبواب مشرّعة لكل رأي؛ ولا ضابط للرأي إلا العقل. العقل الفردي والضمير الذاتي؛ الذات المختلفة. لا ائتلاف إلا بالاختلاف وتوقع التسوية. مجتمع تسوده التسويات خير من مجتمع لا تسوية فيه بين الناس وبين الحاكم والمحكوم. خفنا من تقدم العلم نحو الاستنساخ لأننا لا نريد أن نكون متشابهين، ولأننا نتمرد ونكون مغايرين. ولا يكون التعارف إلا بالاختلاف. وهل التعارف إلا تسوية بين مختلفين.
تتلاعب الامبراطورية بالمجتمع المدني. ببعض منظمات المجتمع المدني أو بجميعها. هل تستطيع التلاعب بالمجتمع؟ المجتمع المفتوح تماسك. لا قوة على الأرض تستطيع التفوّق على مجتمع متماسك. والتماسك نتيجة المجتمع المفتوح والمدني. انشقت الامبراطورية على نفسها عندما واجهها مجتمع فيتنامي متماسك. تماسكنا لا تشابهنا هو ما يجعل المواجهة ناجعة لطرفنا. قوة التماسك في طرف غلبت الانشقاق في طرف آخر أقوى عسكريا بكثير. الأول هزم الثاني.

المجتمع المفتوح هو العلن؛ أن يحدث كل شيء في العلانية دون تعمية أو أسرار أو اختباء وراء الأسرار. أن تعلن الأحزاب، وهي جماعات مغلقة، ما عندها. بالطبع عليها أن تخضع للقانون كبيرها وصغيرها. العلانية في صميم المجتمع المفتوح أيضاً. ليس لأحد، ولا لجماعة، أن يضمر غير ما يظهر. على كل حزب أن يظهر برنامجه ويعلنه. ويكون على استعداد لمناقشته والحوار حوله. عندنا أحزاب لا تعلن برامجها الحقيقية. تكتفي بإطلاق الشعارات وتعلن قدسيتها وتجترح التحالفات على أساسها وتلغي السياسة بموجبها. ليس همها السياسة بل إلغاء السياسة. لا تطيق قوى المجتمع المغلق السياسة. السياسة في مدينة كوزموبوليتيه كانت على الدوام مركزا وملجأ للحريات والأحرار من مختلف أقطار العرب. يسكنون في مدينة ولا يعرفون معنى المدينة. مدينة المجتمع المفتوح مركز للحريات وبؤرة للتمرد ومجال للعلنية. علنية للنقاش والمحاورات، وحتى المحاكمات. إذا كان التحقيق سرياً، لدواعي تقنية، فهذا ينتهي الى محاكمة علنية. عيب رفض العلنية باسم الحصانة. حصانة بعض السياسة، وقداسة بعض الشعارات. يتلاشى الحوار أمام طمس العلانية، تلغى السياسة. يفقد البلد هويته.  يريدون هوية جديدة تحوم حول الأسرار. العلانية تفضح الأسرار. تظهر المكنون. تبلور ملكة الخطابة والحوار. لا سياسة بالسر. المؤمرات تحاك بالسر. اللصوص يجولون في العتم. العلانية هي الوضوح. الخروج الى العلن يجبر أصحابه على الوضوع وتجديد الأفكار، بل إبداع أفكار جديدة. العلانية مدعاة للتطوّر. التجديد حتمي مع ابتداع الأفكار. التطوّر صنو التجدد.  بدونه يصير المجتمع راكداً آسناً تعف منه الروائح النتنة. عند محاربي المجتمع المفتوح أفكار نتنة حاصلة من انصياع للماضي. الابتداع يعني الخروج من الماضي والاندماج في العالم. يفقد ما لدينا قدسيته. تُصنع قدسيات جديدة بالعلانية في مجتمع مفتوح. لا يتحقق المجتمع المفتوح إلا في جو العلانية.

بالعلانية لا نخاف على أفكارنا. معظمها ما يتعلّق بطقوس الدين. لا نخاف على ديننا. نقتحم المجهول. نخرج من معلوم الى مجهول. يصير المجهول معلوما. ننتقل الى اقتحام مجهول جديد. ينتهي عصر الاستسلام للعتم والظلام. روح جديدة تصنعها العلانية ونصنعها بالعلانية. يزول الخوف على أنفسنا من أنفسنا ومن الغير. تفتح أبواب وشبابيك المعرفة. يولد الجديد. نسير مع التاريخ بعد أن خرجنا من الماضي. نخرج من الاستسلام الى الفعل. القوة الكامنة فينا كافية لإزالة الخوف. ما زلنا متكورين حول ذاتنا الموروثة. فرضنا على أنفسنا عزلة طوعية. بالعلانية واقتحام العالم نخرج من العزلة ومن الهزيمة. هُزمنا يوم خفنا على ما لدينا من أفكار مستخرجة من أوراق صفراء نسميها التراث. علينا الخروج من التراث كي نفهمه ونتجاوزه. ما لم نتجاوز أنفسنا نبقى مقيدين بالهزيمة. الانتصار على النفس هو الجهاد الأكبر. هو انتصار على الهزيمة في داخلنا وخارجنا. يمكن أن يستفيد العدو الامبراطوري من المجتمع المفتوح، لكننا نستفيد نحن منه بدرجة أكبر. لا يستفيد من المجتمع المغلق إلا هذا العدو.