8
Jul
2022
0

للأنظمة العربية الديكتاتورية بنية فكرية

“كَنَاطِحٍ صَخرَةً يَوْماً ليوهنها

فَلَمْ يَضِرْها وَأوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ”

صدر “بيان الى الأمة” عن المؤتمر القومي العربي الحادي والثلاثين، المنعقد في بيروت بين 23 و 24 حزيران/ يوليو 2022. ينم البيان عن رؤية فكرية تمثّل السلطة في الوطن العربي، ولا تعبّر عن شعوب ومجتمعات هذه الأمة. يخاطب هذا البيان الأنظمة العربية بما تسمح به هي لا بما تحتاجه مجتمعاتها.

يؤكد البيان “تصوّر الحالة الاستقلالية” وتغيّر النظام العالمي من أحادية القطبية التي تحكم العالم الى تعددية القطبية في نظام عالمي مختلف، “وعلى العرب أن يحجزوا مقعدهم فيه”. ثم يذكر “فشل النظام الرسمي العربي” مما يلقي “المسؤولية على عاتق النخب العربية”. ثم يتحدّث عن “رهان الديمقراطية في الوطن العربي” التي يعتبرها ” ضرورة وطنية وقومية وتشكّل ممراً ومسلكاً اجباريا الى الوحدة العربية التي تُعتبر من أسمى أهداف الأمة العربية”.

ثم ينتقل الى الحاجة الى التنمية المستقلة، “حيث تبينت الحاجة الى وضع خطط ترمي الى تحقيق هذه التنمية في مختلف المجالات والقطاعات، لا سيما قطاعات التعليم، والصناعة، والزراعة، وأطر الإنتاج الأخرى…، سعيا وراء التكامل التام والإنتاج التصاعدي”. ولا بدّ من التجدد الحضاري  “حيث أن النظر الى الماضي وقياس الواقع عليه يقوم على إظهار الحاجة الملحة للتطوير والتطوّر المستمر مع التمسّك بالتراث من جهة ومواكبة العصر من جهة أخرى، على قاعدة أن البناء الحضاري هو احتفاظ بما هو إيجابي في تراثنا الحضاري”. ثم يتحدّث عن “قضايا العرب العادلة”.

ويصل الى قضية فلسطين. “ينوّه البيان بما حققته المقاومة الفلسطينية من إنجازات وأظهرته من بطولات في مواجهة العدو الصهيوني…”، ويشجب التطبيع ويعتبره “خيانة”، “ويدعو الى إلغاء اتفاقية أوسلو ووقف التنسيق الأمني والتشبّث بحق الشعب العربي الفلسطيني في أرضه التاريخية من النهر الى البحر…”،  وينوّه “بالصمود الأسطوري لسوريا شعباً وجيشاً وقيادة في مواجهة الحرب الكونية…”، ويدعو “الى الحوار الداخلي والمصالحة الوطنية الشاملة…”، ثم يشجب المؤتمر “استمرار أميركا وتركيا والكيان الصهيوني في احتلال أراضٍ سورية”.

يتلو ذلك أدعية وابتهالات تتعلّق بأقطار عربية مثل لبنان وثلاثية ” الشعب والجيش والمقاومة”، وليبيا والتأكيد على وحدتها وسيادتها، وتونس والمحاولات المبتذلة “لاختراق نسيجها”، والكويت وتثمين دورها، والدور الشعبي العربي  في “حماية الأقطار العربية من التفتت والتجزئة الذي يستهدف الدولة الوطنية في الوطن العربي…”، وغير ذلك من أقطار عربية يتهددها التدخل الخارجي الامبريالي وأطماع الدول المجاورة. لا يتحدث عن الجماهير العربية إلا عندما يريدهم أداة يؤدون دوراً شعبياً؛ هم أداة لأفكار، والأفكار يقررها المؤتمرون، والمؤتمرون لا بدّ لهم من الانسجام مع الفريق العربي الذي يعتبرونه يمثّل وجهة النظر الصحيحة، بما في ذلك العداء للناتو “العربي الإسلامي” والسياسة الأميركية بشكل عام.

تكثر التناقضات في البيان. كأنه يتحدّث عن انتصار سوريا، بصمود نظام الحكم فيها، دون الإشارة الى الاحتلال الروسي-الإيراني من بين الاحتلالات، مع الدعوة الى المصالحة والحوار بعد أن أنكر الخلاف والاختلاف في سوريا.
يلقي البيان الملامة على المثقفين. فكأن الآلة الثقافية العربية ليست احدى أدوات النظام العربي لتطويع، وتدجين الناس، وإخضاعهم، ومراقبتهم. يغفل البيان أن الحرية بجميع أنواعها هي من المحرمات في كل الأقطار العربية، وأن السياسة بمعنى المشاركة ملغاة. فالناس قطعان في نظر كل طاغية، وكل قطر عربي يحكمه طاغية، وأن الدولة الحديثة غير موجودة، مع عدم مشاركة الناس في السياسة، وكل دولة عربية هي في يد نظام للسلطة، وأن خطاب السلطة هو أنك تستطيع أن تقول ما تريد ما دام ينسجم مع خطاب الطاغية، ومع متطلبات أجهزة الرقابة. وأصحاب البيان أنفسهم يعرفون أن بيانهم إن لم يخضع لرقابة سلطة عربية، فهو يخضع لرقابة ذاتية، ويمارس ما يسمى “الانقماع الذاتي”.

هم لا يأخذون بعين الاعتبار معنى الثورة العربية لعام 2011، ولا يأتون على ذكرها، وأن هذه الثورة طالبت بإسقاط النظام العربي. المؤتمر القومي العربي يدخل في سجالات ومناقشات النظام، فيؤيّد فريقاً ضد آخر، ويغفل أن المنظومة الحاكمة العربية هي منظومة الثورة المضادة، وأن تقسيم العمل فيما بينها يقضي أن يموّل ويدعم بعضها هذا الطرف والحرب الأهلية، والطرف الآخر يموّل ويدعم الطرف الآخر. وهناك أطراف أخرى تساهم بقدر ما تدعمها قوى من المنطقة أو الدول المجاورة أو قوى امبريالية. ويغفل البيان أن الاحتلال الأجنبي كيفما كان هو احتلال، إذا كان من قوة خارجية، سواء باستدعاء رسمي أو بغير ذلك. كل وجود لجيوش اجنبية على أرض عربية هو احتلال، حتى ولو كان برضى النظام، وأن كل نظام عربي هو على استعداد لاستقدام جيوش أجنبية عند وجود خطر يتهدده من الداخل، وأن التهديد في الداخل مصدره هذا “الدور الشعبي” الذي يتجاهله البيان. يتجاهل أن الانقسام العربي الأساسي هو بين أنظمة الحكم التي تشكّل منظومة واحدة، وبين الشعوب العربية التي تخضع لأبشع أنواع التنكيل الذي تمارسه مختلف أطراف المنظومة العربية. يغفل البيان أن المنظومة العربية هي التي استقدمت الاحتلالات الأجنبية، وهي قوى التحرر الوطني. أما الحرية فهي شأن الشعوب العربية في تحررها من انظمتها. فالتحرر الذي يقود الى الاستقلال لا يؤدي  بالضرورة الى الحرية الفردية وغير الفردية، وأن المطلوب هو الحرية الفردية التي صارت سرابا بفضل أنظمة التحرر العربي، أنظمة الاستقلال، الناجز أو الناقص. أنظمة تحرر المجتمع ليست هي أنظمة الحرية الفردية، وهذه هي مكمن ومصدر التحرر الحقيقي. فتحرر النظام صار يتناقض مع الحرية الفردية كمبدأ وممارسة. وهذه الحرية هي وحدها جوهر المواطنة. هي الركن الآخر للدولة الحديثة.  لا دولة حديثة دون مواطنة. الاحتقار القومي العربي للدولة هو في حقيقته احتقار للمجتمع العربي، أو لما يسمى الشعب العربي، والوطن العربي والعروبة. لا احترام للعروبة إن لم يكن هناك احترام للدولة العربية بالمطلق، الدولة بأي شكل كانت، قطرية أو وحدوية. والدولة الحديثة هي دولة المواطنة، دولة المواطنين الذين يشاركون في السياسة، وفي المجال العالم، وفي القرار، وبالنهاية يشاركون في الدولة. الدولة الحديثة هي دولة المواطنة لا دولة الرعايا. وكل الدول العربية هي دول رعايا. هي دول ما قبل الحداثة. المطلوب هو الدولة الحديثة. دولة المواطنة. دولة المشاركة في السياسة. دولة السياسة المعنية بإدارة المجتمع، وليست المعنية فقط بإخضاع الناس للسلطة. يتحدث بيان المؤتمر عن “دور الشعوب العربية”. فكأنها أداة لأفكار المؤتمرين ولمن يحكمون العرب. وهؤلاء منظومة حكم واحدة. تمارس تقسيم العمل فيما بينها لتأبيد الحروب الأهلية العربية ما دامت الثورة العربية يمكن أن تندلع مرة أخرى. إمكانية اندلاع الثورة العربية تجعل الشعوب العربية بنظر الطغاة مستحقة للعقاب. والثورة المضادة التي تقودها المنظومة العربية الحاكمة هي عقاب للشعوب العربية. ألا نرى حروبا عربية من نوع جديد تمولها أنظمة عربية بدعمها لهذا الطرف أو ذاك من الحرب أو الحروب الأهلية؟ يتجاهل البيان حقيقة أن الشعوب العربية تخوض نضالات ضد الأنظمة العربية بمن يدعمها من أجهزة وبعض الفئات التي تدعي أنها شعبية.

يعود البيان الى معزوفة إلقاء العبء أو الملامة على النخب العربية. يعني بها النخب الثقافية، ويغفل أن هذه النخب إذا كانت معارضة فهي في السجون أو مهجرّة، وإذا كانت موالية فهي العدة الثقافية للأنظمة. والعدة الثقافية للأنظمة لديها من الوسائل والإمكانيات ما يفوق الثقافة المعارضة لها. فالثقافة العربية مصادرة وهي رهينة لدى الأنظمة العربية، ولا تطلب منها هذه الأنظمة سوى تبرير الأنظمة، سواء كانت في هذا الاتجاه أو ذاك. وجميع اتجاهات الأنظمة العربية هي اتجاهات قمع الثقافة الإبداعية، وقمع الرأي المغاير، بل قمع الرأي المجدي. إن الثقافة العربية الراهنة في وضعها المزري هي الثقافة التي ترعاها الأنظمة، وتعمل بدورها لتبرير الأنظمة ونشر آراء وأقوال الطغاة.

يعرف كتاب البيان أنهم بإغفالهم الحرية في مواجهة التحرر، والسياسة بمعنى المشاركة في مواجهة السياسة بمعنى السلطة، والدولة بمعنى الاطار الناظم للمجتمع في مواجهة النظام بمعنى السلطة القامعة للمجتمع، هم في حقيقة الأمر يتحدثون خطاب السلطة. مهما كان الحديث عن بطولات وصمود، نعرف ويعرف الجميع أنها جزء من الهزيمة العربية. الهزيمة العربية هي في قاع الخطاب الذي يمثله هذا البيان. هذا الخطاب الذي يبرر استقدام جيوش أجنبية الى الأرض العربية. اسرائيل أصبحت اسرائيلات؛ والخطاب الثقافي، خطاب الأنظمة، يعتبر ذلك صموداً. إذا كان هناك صمود فهو صمود دولة خارجية في وجه دولة خارجية أخرى على أرضنا، وفي هذا الأتون من الحروب الأهلية العربية التي تقودها وتمولها الأنظمة العربية بالمال والسلاح، وتزودها بالثقافة الرثة التي نراها على مختلف وسائل الإعلام “والتواصل” الاجتماعي. تخوض الأنظمة حروباً ضد شعوبها بالسلاح وبالثقافة. وهي تستعين بجحافل منظمات الإسلام السياسي في سبيل ذلك. استعرضنا في بداية هذا المقال بعض ما قاله البيان لكي ندل على تناقضاته وثقافة الأنظمة التي تجافي واقع الهزيمة لتتحدث عن صمود يثلج الصدر. ليس في واقعنا العربي ما يبعث على الفرح ولا الفخر إلا لدى من فقد النزاهة الفكرية.

المؤامرة الأدهى على بلادنا فيما يتعدى محاولات الانقلاب والغزو الثقافي هو إنبات وتوليد التفاهة التي تتبناها المنظومة الحاكمة، والتي تنتج مؤتمرات ومحطات تلفزيونية ووسائل تواصل اجتماعي، والتي هي على تنسيق دائم مع الأصولية الدينية، وإن كانت تحاول التمايز ببعض التعابير والمصطلحات، لكن البنية الفكرية واحدة، وهي بنية فكرية ثقافية مناسبة للانظمة العربية، بيسارها ويمينها.