عن الأسماء والألقاب
كلُ إنسانٍ متعدّد الهويات، سواء ما يتعلّق منها بالانتماء الإثني، القومي، المهني (مهندس، عامل، عاطل عن العمل، إلخ..)، العائلي، العشائري، إلخ… وفي كلِّ هوية يتخذ لقباً؛ كما تتعدّد الألقاب زمنياً. يُمكن أن يكون موظفاً، مدرساً ثم مديراً، أحياناً فقيراً يُنادَى بإسمه، ويتدرّج إلى الغنى والثروة، فيسعى لاكتساب ألقاب جديدة، أو يُكنى بغير ما أعتيد عليه. والألقاب نعوت يُقصد بها الدلالة، التفخيم، وأحياناً التصغير.
يبقى اسم الشخص ثابتاً برغم تغيّر الألقاب والأحوال الخاصة به. ثبات الاسم ضرورة قانونية واجتماعية. ليس في هذا الكلام ذهاب إلى أقصى ما ذهب إليه بعض فلاسفة القرون الوسطى، وقالوا “الإسم عين المسمى”. لكن الاسم دالٌ ثابتٌ على مدلولٍ يتغيّر، والتغيير يتقرّر بقرار من صاحبه أو يُفرض عليه بحكم الظروف الاجتماعية وأحياناً بالقسر السياسي. كما قال صاحبي: تتغيّر الألقاب ويبقى الاسم ثابتاً. يبقى الدال ثابتاً برغم أنه في ظروف مختلفة يُشير أو يُعبّر عن مدلول اختلف وتطوّر.
مراحل عمر الشخص تتابع ومع مرور الأيام والسنين تتطوّر الموضة وأساليب العيش. نحن نعيش في عالم سريع الحركة، ومهما حاول واحدنا مقاومتها هذه السرعة، إلا أنها تفرض نفسها بشكل أو بآخر وبنسب متفاوتة على الناس. والتغيرات التي تبدو للعيان، والتي تعتبر خارجية بالنسبة لكل فرد، يُصاحبُها تغيّرٌ في جوانية الإنسان. في نفسه وروحه ومعتقده. يحرص المجتمع والإطار السياسي على القول بـ”ثبات المبادئ”، لأنّ استقرار المجتمع مطلب دائم عند أهل السياسة، وبخاصة الذين لا يعتبرون مهمتهم التعبير عن المجتمع. بعكس أنظمة الاستبداد التي مهما ادعت الروح الثورية، فإنها تُصرُّ على أن يبقى المجتمع في حالة استقرار، الأمر الذي يُسهّل احتواءه؛ هم لا ينطقون باسم المجتمع بل يريدون مجتمعاً ينطق باسمهم أو يما يعتبرونه واجباً عليه، والفرق بين الديموقراطية والاستبداد هو في اتجاه سلطة التعبير عن المجتمع إلى نظام الحكم أو بالعكس. لا يفهمون أو لا يريدون الاعتراف بأن مهمتهم إدارة التغيير لا إدارة الاستقرار، في نظام يُفرض عليه الاستقرار من دون السماح بالتغيير!
هناك مبادئ أخلاقية لا تتغيّر منذ حمورابي وقبله، مثل: لا تسرقْ، لا تزنيْ، لا تظلمْ، لا تقتلْ، إلخ… وهي تتعلّق بسوية كل مجتمع بشري، لكن ما عداها يتغيّر ويتطوّر تدريجياً في النظام الديموقراطي، وفجائياً في نظام الاستبداد والثورة عموماً. تتغيّر أشياء كثيرة تُشكّل مختلف نواحي المجتمع ما عدا المبادئ الأخلاقية التي عبّر عنها حمورابي.
ومع تطوّر المجتمع، تُسنُّ الدساتير والقوانين التي تأخذ تغيّرات المجتمع بالاعتبار، والتي يستدعي الخروج عنها ما يستحق عقوبة أو غرامة. ولذلك كانت وما تزال الحاجة للدولة أولوية أولى، تلافياً للعشوائية في العلاقات، كما نشهد حالياً في لبنان مع انهيار الدولة، حيث صار التعدي حتى على المبادى الأخلاقية المتجذّرة في أعماق التاريخ أمراً متوقعاً أو هي بالأحرى أمراً شائعاً. يقول المتنبي شاعر العرب الأول في مختلف الدهور:
وحالاتُ الزّمانِ عَلَيكَ شتى.. وحالُكَ واحدٌ في كلّ حالِ
فهنا خطأ سوسيولوجي أو أنثروبولوجي، لكن ما يُخفّف الملامة هو أن في هذا القول تمنٍ أكثر من تعبير عن واقع، وللشعراء الحق بالتمنيات والتوقعات، وحتى بالمبالغات التي تتجاوز الوقائع.. والمألوف.
نحاول في لبنان، وربما هو الأمر الشائع في كل البلدان، التمييز بين من هو “آدمي” و”غير آدمي” في الحياة العامة، وفي العمل في دوائر البيروقراطية والعمل السياسي، حيث تسود العشوائية والممارسات غير الأخلافية؛ وكثيراً ما يكون العمل غير الأخلاقي لا بمخالفة القانون بل بالنفاذ عبره من خلال ثغرات توجد في كل قانون، إذا لا يستطيع أي قانون الإحاطة بكل نواحي الحياة. كي يكون المرء “آدمي” ومنسجم مع نفسه، ومرتاحاً إلى ذاته، يتوجب عليه أن يتقيّد بما يمليه ضميره. وهذا عادة ينسجم مع شريعة حمورابي، التي ما فعلت الأديان أكثر من تعميمها بتلاوين مختلفة. ثم تأتي الطقوس لتحتال عليها. ومن الأمثلة على ذلك بعض الكتابات الفقهية في تراثنا، حيث يُعلّم الفقهاء أتباعهم الاحتيال على الشريعة المقدسة في ممارسات لا تتنافى مع مبادئ الشريعة، ولا تخالفها في الظاهر، أما الباطن فهو غير ذلك. يبدو أثر ذلك في المعاملات، بخاصة في مسائل الشراء والبيع واستيفاء الفائدة على الديْن والودائع، ولا يبدو واضحاً مدى تقيّد المصارف الإسلامية بمبادئ الشريعة إلا في الظاهر.
إن الهوية تتغيّر على صعيد الفرد مع تطوّر عمره، وعلى صعيد المجتمع مع مراحل التاريخ على المدى الطويل، (Longue Duree) كما سماها المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل. وما يحفظ أمتنا العربية، والأرجح أن ذلك سيستمر مستقبلاً برغم حروب الإبادة التي يشنها الغرب الامبريالي، ولا سيما صنيعته إسرائيل، (أقصد حروب الإبادة التي سوف تأخذ شكل حروب أهلية مدعومة أطرافها من قوى خارجية، كما هو الآن في بلدان عربية شتى)، هو اللغة، وهي تضم كل أسماء الدلالة. وما يسمى لهجات أو لغات عامية هي في معظم الأحيان كلمات من اللغة الفصحى طُوّرت بحسب مقتضى الحال.
الشائع أن الأصل في اللغة هو الفعل الثلاثي. وتُفاجَأ عندما تقرأ عند بعض اللغويين القدامى أن الأصل هو الاسم. على كل حال، كلمات مثل “أب”، “أم”، “عم” لا بدّ وأن تكون سبقت في ظهورها الأفعال وكل الكلمات الأخرى.
إن ما يُسمى “الألقاب” من الكنى (جمع كنية) وغيرها، تتبع الاسم. فهو دال ثابت على مدلولات تتغيّر؛ وهذا الدال رمز يدل على غيره مما هو في الواقع. واللغة التي تحوي الأسماء كلها، هي في أساس ثقافة أو حضارة كل أمة من الأمم، وهي الدال على واقع أمة عربية.