20
Apr
2024
0

حاضر الأمة ومستقبلها (3) – العقل والعقلانية

العقل غير العقلانية. هو أقرب للوجود المادي للدماغ الذي أعطي للبشر بكميات متساوية تقريباً، في جميع أفراد البشرية. وعلى كل حال، فإنه كما يقال، لا يستخدم الواحد منا إلا بضعة بالمئة من القدرة التي يمنحها العقل.

العقلانية شيء آخر.  هي ما يصدر عن العقل في طريقة وأساليب إنتاج الأفكار. هي أقرب للمنهج العقلي الذي يختلف بين الأفراد والمجتمعات، ويتكيّف بالثقافة والسياسة والدين وغير ذلك، مما يساهم في تشكيل الوعي.

العقل مادة خام للعقلانية التي يختلف أصحابها، بحيث أن ما يبدو عقلانياً للبعض يراه الآخرون مغايراً وضداً لما يفكرون به. هو القدرة على التمييز وحساب المصلحة، وهي ما بطريقها ينتج التمييز وما يقود الى الفعل لجميع البشر.. واستعمالاتها بأساليب متنوعة لدى البشر تتنوع مع تعدد الثقافات والدول.

يكاد الحديث عن العقلانية وارتباطها المزعوم بعصر الأنوار ثم الحداثة يُموّه لدينا حقيقة العقل، وأنه يستخدم فيما لا نعتبره عقلانياً. فاستخدام العقل في الدين هو غير ما نعتبره متعلقاً بالحداثة والتطوّر والتنوير. تفيدنا الفلسفة في التمييز بين العقل الديني والعقل العقلاني الحداثي. استخدام العقل في الشأن الديني استنباطاً أو استقراءً ينحصر في استخراج مجهول من معلوم، بينما هو في الحداثة يرمي الى تجاوز المعلوم الى المجهول، واستخراج مجهول آخر من مجهول صار معلوماً. العقلانية الحديثة لا تخشى المجهول، بل تسعى إليه، بينما العقل (المحافظ) يسمي المجهول من غير المعطى بدعة، وهذه ضلالة، وهي الى الجحيم. حاضرنا ينفر من البدع. فأصبح مجتمعنا محافظاً. حتى لو ادعى الثورة، إذ هي مغايرة لما سبقها، ليس إلا، أما مستقبلنا فهو مرهون بما يحدث لدينا من بدع. لذا فإن عقلانية الحداثة تكسر التقاليد المحافظة وتدمرها.

نحن أصبحنا نخاف بعد أن كدنا نلج وضعاً كهذا قبل الثورة الدينية. وما لا يعرفه أصحاب هذه الثورة أنهم هم أيضاً يكسرون التقاليد المحافظة، لكن وعيهم يبقى مرتبطاً بأوهام عن الماضي الذي يعتبرونه مرشداً للحاضر، ولا يمكنهم البناء على ذلك، إلا إذا أصروا أن يكون الحاضر صورة باهتة كاريكاتورية عن الماضي الذي تعترف به. وفي الغالب تكون هذه الصورة باهتة أو حتى مغايرة لماضٍ مقدس.

يفقد العقل قدرته على أن يصير مصدر العقلانية (الحديثة) عندما يصر على المقدسات، خاصة الإكثار منها. عند ذلك يحتاج أن يثور على نفسه من أجل التقدم، وإلا بقي حبيس ايديولوجيا مكونة من أوهام تتصلّب وتُنكر الواقع، وتُشكل غلافاً لا فكاك منه إلا بانفجار آخر. لا تنجو إلا بمجتمع متقدم هي ترفضه أصلا. صحيح أن معظم الثورات قامت بها جماعات محافظة مدنية في الريف، خلال التاريخ، لكنها إما انهارت تحت وطأة مواجهة الثورة المضادة لها، أو اضطرت الى تبني ما لم تكن تفكر به قبل الثورة.

يضيق أفق العقل المحافظ حتماً. فهو محاط بكثرة من التناقضات حول الماضي، وفي الوقت نفسه، ضرورات التغيير؛ يصير أسير نفسه مهما تبجح حول الحريات والتحرر الوطني. على الطرف الآخر، لا بد للعقلانية، وهي لا تكون إلا مواكبة للحداثة والابتعاد عن الإنكار مع الإصرار على الواقع. لا بدّ لها من مجتمع مفتوح تساهم في صنعه، وهي متحللة من قيود المحافظة والماضي وأوهام الحاضر والانتصار على مجتمع مكبوت. يستطيع المجتمع المفتوح التطوّر والتقدم بما يتجاوز المحافظ أو الاكتفاء بتجديد خطاب ديني هو في حقيقته أوهام الماضي، ومحاولة الحاضر فرض سلطة سياسية تجد نفسها في تناقض مع مجتمعها ومع العالم.

العقلانية لا تعمل في إناء مغلق، وإلا انفجر. فهي أمام فسحة التاريخ واندراج المستقبل أمامها لتُبدع، وتُجدّد المجتمع، وتؤسس للتقدم. ليس الأمر ما يتعلّق بمقارعة الامبريالية وحسب، بل التناغم مع المجتمع ليعود قاعدة للبناء والتطوّر؛ وهنا لا بدّ من استخدام تجربة اليابان (في القرن التاسع عشر، ثم في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية)، وبقية نمور آسيا. التعبير الذي لم يعد شائعاً برغم دلالاته. فقد أغرقه صخب المحافظة وما يسمى تجديد الخطاب الديني الذي لا يصلح إلا لمجتمع مغلق، سدّ على نفسه منافذ الخروج الى العالم والاندراج في ثقافته. الذين يريدون التجديد من الداخل يسيرون مكانهم، بالأحرى يدّعون حقيقة لمجتمع يُراوح مكانه بلا تقدم.

إن المجتمع المفتوح هو مجتمع العقلانية الحديثة (العلم الحديث) التي بكل صراحة دمّرت التقاليد ومزّقتها من أجل إنشاء مجتمع جديد. أما المجتمع المغلق فهو ضد الحداثة، ويتعامل مع العلم الحديث وكأنه تكنولوجيا، حيث لا أسئلة تتعلّق بـ”لماذا” بل “كيف”. ليس بالإبداع بل بالاستهلاك، حتى فيما يتعلّق بالسلاح. ليس بإنتاج سلع جديدة بل بتعليبها وتسويقها. ليس صنع المنتج الجديد بل بيعه والإعلان عنه من أجل التسويق.

في مجتمع العقلانية الحديثة (العلم الحديث) يبقى لله مكان وللإيمان به صدى. أما المجتمع المغلق فهو مجتمع الطقوس والضمير الظاهر، الذي يعلن غير ما يُبطن. وجود الفرد كمواطن منتج ومعتد بذاته يعتمد على بيئة المجتمع المفتوح والعقلانية.

المجتمع المغلق هش، تبدو أمامه الدولة قوية. إذ تستمد قوتها من الاستبداد. مع انهياره يزول غلاف الايديولوجيا الذي يحتوي المجتمع ويقمعه. يظهر المجتمع وينتج دولة لا تنطلق من الاستبداد السياسي. تصير السياسة تعبيراً عن السلطة لا المجتمع تعبيراً عن السياسة الاستبدادية وخضوعاً لها. يفقد مجتمع الحداثة المفتوح هشاشته، ويكتسب مرونة تجعله أقوى، وأكثر تماسكاً، وأكثر انفتاحاً، ويصير أهله مواطنون ذوو اعتداد بالنفس. وتصير الدولة قوية وإن كانت أقل قمعاً وقسراً. تقوى الدولة بالمجتمع لأنها بكلمات مختصرة هي المجتمع بكونها إطاره الناظم له، حيث الدين جزء من المجتمع الذي يمتلئ معظمه بالسياسة التي تتكوّن من مواطنين يعتقدون أنهم أعضاء في الدولة، شركاء فيها، ومرهون وجود كل منهما بوجود الآخر. وتصير الدولة هم ولهم ومنهم. والمجال العام أو القضاء العام لهم وحدهم، والدولة هي تجسيد لهذا الفضاء، بينما نظام الحكم وسيلة لا بدّ منها. الدولة تُقرّر النظام لا العكس.

لدينا مجتمعات ذات لغات ضاربة في أعماق التاريخ، وتعدديات ملازمة لوجودها، وإمكانيات عيش سوية، لم تأفل إلا مع النصف الثاني من القرن العشرين، مع بدعة الدولة الدينية والمجتمع المغلق. وقبلها الصهيونية ذات المجتمع التابع للامبريالية وجيوشها، إذ لا يمكن فيها أن يكون الفرد مواطنا بل عضواً في قطيع، يسوقه سادته، لخدمة التسلّط الكولونيالي/الامبريالي. في مثل هذا المجتمع، يقوى التيار المحافظ، ويُحوّل الدولة الى دينية الطابع، وتنشأ انقسامات تجعل البنية الاجتماعية هشة، مهما كان لديها من مظاهر القوة. فمجتمعها مغلق يتميّز بالعنصرية والأبارتيد والتبعية الامبريالية. هي تتحوّل من مجتمع مفتوح الى مغلق، ومن عقلانية الى عقل استهلاكي، إذ ابتعد العلم الحديث فيها عن الإبداع، وسادها الاستهلاك والوعي التقني، حيث يزول سؤال “لماذا”، ويسود سؤال “كيف”. التاريخ يسير باتجاهات متعددة وأحياناً متعاكسة. طريقهم اتجاهه عكس طريقنا، والمستقبل لن يحالفهم، إذ لن يكونوا إلا أدوات بيد الغير. أوضاعنا صعبة وأكثر من ذلك، لكن ليس لدينا خيار إلا أن نصنع مستقبلنا، وإلا..

تتلاشى المجتمعات العاجزة عن صنع مستقبلها. يستمر من ينتهج درب العقلانية (لا مجرد العقل إذ هو متاح للجميع حتى ولو بنسب متفاوتة)، وما يتبعها من مجتمع مفتوح وخروج الى العالم لا قوقعة في تراث مفهوم. من يتقوقع داخل التراث، يحكم على نفسه بالفناء بينما التقدم رهن العقلانية التي تجعل العقل وسيلة إبداع لا مجرد تفسير ما سبق.

هناك مجتمعات يهودية وإسلامية تستخدم العقل ولا تنتهج طريق العقلانية. مصيرها التراجع، إن لم يكن الانهيار. المجتمعات العربية، تبدو ضعيفة، وهي كذلك، لكن أمامها طريق العقلانية. مهما حدثت حروب الآخرين على أرضها إلا أنها ذات خيار واحد للبقاء، وهو طريق العقلانية. ذلك بالتأكيد ليس تجديد الخطاب الديني، إذ هو استخدام العقل وحسب، دون العقلانية المبنية على الحداثة. علماً أننا بتنا نعرف مآل تجديد الخطاب الديني الذي حدث ويحدث في أكثر من بلدين إسلاميين.

لا بدّ للعقل العقلاني من التمرّد على الموروث، بما في ذلك العقل السائد بحد ذاته. ولا بدّ له من الخروج وترك قوقعة المجتمع المغلق والانغماس في الماضي الموهوم، للانطلاق الى العالم، ليرفع مجال الضمير وتكون للحرية أسس يرتكز عليها المواطن، بعد انتقاله من حالة الرعية إلى حالة المواطنة.

علينا التنبه للعقل الذي نتحدث عنه، فهل هو العقل المحافظ أم العقلانية الحديثة؟