13
Nov
2020
0

الدين المدني شرط الدولة المدنية

يتحدثون بين الفينة والأخرى عن الدولة المدنية ولا يتحدثون عن الدين المدني. تنشأ الدولة عادة بالغلبة أو بطرق أخرى. مع تقادم الزمن تصبح خياراً. عندها تصير احتمال دولة مدنية. وهناك نوع آخر من الغلبة وهو في الدين. عندما يولد المرء يصير على دين آبائه دون خيار منه. في بلادنا لا يختار أحد دينه ولا طائفته، إلا في حالات أقل من نادرة. عندما يكبر ويصير ممكناً أن يختار، وتعطى له هذه الإمكانية، إمكانية الاختيار، يصير الدين احتمالا مدنياً. يتحرر من عبء رجال الدين. هؤلاء يصرون على أن يكونوا وسطاء بين المؤمن والله. هم عبء على الدين أيضاً. يصير الدين في قبضتهم ولا يستطيع المؤمن فهم دينه إلا  بإشرافهم. أو بإذن منهم. هم سلطة استبداد. كما هي السلطة العسكرية أو الأمنية أو الطبقية. ولا يستطيع المرء الخوض في أمور الزواج والإرث إلا في محاكم شرعية قضاتها مشايخ أو خوارنة.  طبعا، كلما علت رتبة المتقاضي، تعلو رتبة القاضي. المحاكم الشرعية تعكس بشكل أو بآخر سلّم العلاقات الاجتماعية.

لا تتحول الدولة الى مدنية إلا عندما يتحوّل  الدين مدنياً حيث يمكن أن تحكم المحاكم المدنية بقضايا الإرث والزواج حتى ولو لم تتوحد مصادر أحكامها دون تغييرها، وحسب قواعد وأعراف الدين المتبع. يعني ذلك أن تحكم المحاكم المدنية بأحكام الشريعة على مذهب يختاره المتقاضي أو المتقاضيان. يكون الأمر في البداية اختيارياً. ويتم تسجيله في المحاكم الشرعية التي مهمتها فقط أن تحفظ ما اتبع مدنياً في المحاكم المدنية. في ذلك إخضاع المؤسسات الدينية للدولة مع الحفاظ عليها. العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، ومؤسسات الدين عن مؤسسات الدولة. وتكون الأحكام لمؤسسات الدولة. الدولة المدنية هي التي يكون فيها المجتمع مدنياً عن طريق دين مدني، اختياري أو غير اختياري. في لبنان الراهن تكون البداية بأن يكون الأمر اختيارياً الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. في ذلك تحرر جزئي من سيطرة المؤسسات الدينية.

الدولة المدنية لا تكون بالانتخابات النيابية وحسب، بل هي لا تتأكد إلا في مجتمع مدني. هذا المجتمع له الحق بالاختيار. ما يُقترح هنا ليس إلغاء للمؤسسات الدينية، بل هو اخضاعها لضرورات الدولة. ليس الفصل هو الأساس في المجتمع المدني. بل هو في الإخضاع، إخضاع الدين للدولة. إلغاء الازدواج في المؤسسات القضائية.

هذا الأمر ليس إلغاء للدين بل إلغاء للأساس الذي نامت عليه الطائفية. وليس فيه خطر على الإيمان (الإيمان علاقة بين الفرد وربه) بل فيه تجريد للدين من الطقوس. على كل حال، لا يستقيم الإيمان، إذا كان حقيقياً، إلا إذا حُرر الدين من الطقوس. الشرط الضروري لذلك هو الدين الاختياري بعد جعل الأمور الإجرائية كلها بيد الدولة وقضائها. وهذا أيضاً شرطه الاختيار. لا إجبار إلا في أن تخضع كل المؤسسات الدينية كما غير الدينية للدولة. جوهر الدين هو الإيمان من الطقوس. الطقوس للدولة والإيمان للفرد. الإيمان لا يكون إلا ضرورياً، نابعاً من الضمير الفردي لا الجماعي. أما إتّباع الجماعة الدينية فهو شأن اختياري. الإيمان يوحّد، الطقوس تفرق. الاستبداد بجميع أشكاله يفرّق، الطوائف تفرّق. الدولة ذات الحريات والديمقراطية وحق الاختيار هي التي توحّد.

رجال الدين، في كل دين، لهم مؤسسة تسيطر على وعي الناس. يولد المرء في الدين والمذهب، وبالتالي الطائفة. مؤسسة رجال الدين هي ما يؤسس الطائفة بما لها من محاكم ومدارس وأملاك. تصير هذه المؤسسة منظمة ترعى شؤون “المؤمنين” من أتباع الدين. لا سلطة للمؤسسة على الإيمان ولكن لها سلطة على الطقوس. هكذا تؤسس سلطتها على الطقوس وتأديتها، فكأنها تمارين رياضية. من الطقوس تتسلل الى الوعي. تصبح قاعدة الإيمان. تصير شرط الإيمان. يفترض بالإيمان أن يكون قائماً مستقلاً، وأن تكون الطقوس تعبيرات له لا شروط لبرهانه. عندما تنقلب الأمور، وتصير الطقوس شرط الدين، يختفي الإيمان. يصير ذيلاً للطقوس. يفقد الإيمان كمحتوى أساسي للدين. منافقو الدين الذين يخلون أحياناً كثيرة بالإيمان، هم الذين يشكلون غالب أعضاء المذاهب والطوائف. هذه لها فوائد مادية: أوقاف، محاكم، أحوال شخصية، مدارس، إعانات، حتى الخدمات التي تؤمنها الدولة. جميعها بيد الطوائف التي تمسك بجانب كبير من حياة الفرد اليومية. عملياً تفقد الدولة دورها، يُجيّر هذا الدور للطوائف. الوطن فيدرالية طوائف. الطوائف كيانات سياسية لا كيانات إيمانية. تُكثر الطوائف، كل طائفة، من الاحتفالات الدينية، وهي جميعها تمارين إخضاع للطائفة. تسيطر الطقوس، يصير الإيمان أمراً فردياً لا يمكن التصريح به إذا خالف الطقوس في دقائق الأمور.

الإيمان الحقيقي لا يكون إلا فردياً. يبني الفرد صلة مع الله. يعلن ولاءه له. لا يحتاج الى طقوس. هذه تُفرض عليه للبرهان على أنه ينتمي لهذا المذهب أو ذاك. الإيمان المجرّد هو الإيمان الوحيد مع ذلك لا تعترف به أديان الطوائف. ما يهمها هو “إيمان” الطقوس، إذا كان هناك إيمان طقوس. تلبية الطقوس مع أو بدون إيمان. يكاد يختفي كل ما يتعلّق بالإيمان من الدين. تصير الأديان عكس ما أنشئت من أجله. الله الذي كان في البداية ملاذاً للمؤمنين صار وسيلة الطوائف لتثبيت سلطتها على العباد.

مع تطوّر الطقوس والعقائد تزداد المقدسات. الله المقدس أعار بعضاً منه للأنبياء والرسل. وهؤلاء وزعوا القداسة على أتباعهم، أو بالأحرى انتزعت منهم. الخروج على المقدسات يصير جريمة لدى أتباع الديانة وغيرها: تقديس مقامات وأشخاص يصير أمراً مفروضاً. من يخالفه يُعاقب. عند المؤسسات الدينية سلطة على المجتمع لفرض المقدسات وفرض العقوبات التي تضمن التقيّد بها. هذه سلطة أخرى على المجتمع. صار المجتمع بيد الطوائف. وصارت هي مكونات المجتمع. الفرد لا يعود (بإيمانه أو عدم إيمانه أو إيمانه بشيء آخر) مكوناً للمجتمع. عملياً، المجتمع الطائفي هو مصدر آلية ثقافية. الكارثة هي عند تحويلها الى فيدرالية مكانية. بأن يتحوّل البلد الى كانتونات طائفية. هذا خطر جداً في بلد شديد التنوّع والتداخل بحيث لا توجد طائفة منعزلة في أماكن محددة لها إلا في حالات نادرة.

الفيدرالية الطائفية، الكانتونات الثقافية الدينية هي في حقيقة الأمر فيدرالية ثقافية. أنت لا تنتمي الى قضاء أو محافظة بل تنتمي الى تشكيلة طائفية، تشكّل واحداً من مكونات فيدرالية الطوائف. يختفي أثر المكان في تكون هويتك المواطنية. أنت مواطن في دين معيّن، أو مذهب معيّن؛ عندما تعيش في منطقة أكثريتها من دين أو مذهب آخر، لكن انتماءك لا يتطابق مع الأرض (القضاء أو المحافظة التي أنت منها، بل الانتماء الى أكثرية أو طائفة أكثريتها في مكان آخر). يتضعضع كيان الدولة؛ وربما تلاشت الدولة.

الدولة ضمن الدولة. ليس سلاح هذا أو ذاك لطائفة معينة وحسب، بل هي الطائفة ضمن الدولة. الطائفية السياسية تأخذ مكان الدولة إذا كان سلاح الحزب “الفائض” يقرر الحرب والسلم. فإن هؤلاء أنفسهم يتجاهلون حرباً أكبر على المواطنية، وهي أن الطائفة تقرر صلاحية المواطن أو عدمه. تغرقه في المقدسات. تعلن الحرب عليه. هذه حرب كبرى مجتمعية لا تقررها الدولة. السلاح نتيجة للسلطة أو التسلط الطائفي. لدينا دول ضمن الدول. وسائلها أشد وأدهى من السلاح المادي. سلاح الايديولوجيا والثقافة. بالسلاح وما ينتج عنه من حرب يتوحد الوطن إذا هوجم. بالطائفية وثقافتها يتسلّخ الوطن يومياً؛ يفقد وحدته، وتتلاشى إمكانية العيش سوية. بالأحرى يصبح شعار العيش سوية نوعاً من النفاق؛ النفاق سوية. شعب من المنافقين. النفاق ينسحب على أمور المجتمع الأخرى: المالية والاقتصادية والحقوق الطائفية. هي غير قانونية إلا ما نص عليه الدستور إذعاناً. الدستور نص على المناصفة لإنهاء الحرب الأهلية. لكن الطوائف فرضت نفسها إكراهاً. وأدخلت البلد في حرب أهلية دائمة، وإن متقطعة في فترات الاستقرار. الحقيقة أن البلد يعيش حالة عدم استقرار دائمة. انعكس ذلك على مالية الدولة. صار المصرف المركزي مركزا للسطة. تحوّل من إدارة الى سلطة أخرى. ليس أن كل واحد من هذه المراكز سلطة، بل بشكل سلطة على حسابه. سلطة له في وجه الآخرين. دولة ضمن دولة. سلاح حزب الله واحد منهم. كذلك المصرف المركزي، الخ…

الكلام عن دولة مدنية لا يجوز، ولا يتحقق، دون خطاب الدين المدني، حيث تسلخ عنه مؤسساته القضائية وأوقافه، وحيث يُجرد من سيطرته على الناس، وتبقى مقدساته دون تمويل أو يتم تخفيض هذا التمويل تدريجياً. ليس المقدس إلا الله والمقربون منه كبشر. هؤلاء البشر يجب أن يعاملوا كبشر مثل غيرهم إلا في بعض الصفات التي تتعلّق بالله. وعلى مؤسسات الدين أن تحدد ذاته. وعلى الدولة أن تطلب من مؤسسات الأديان تحديد مقدساتها. لقد تمادى علماء الأديان في أفكارهم عبر التاريخ. فمنهم من جعل في أحد طرفي الذبابة داء وفي الآخر دواء. لا يمنع أن يكون عند كل فريق مقدسات. لكن الاعتراف بأنها من صنع البشر يجعلها قابلة للتعامل معها كأي شيء آخر من صنع البشر.

الدين المدني صناعة بشرية لا مقدس فيه إلا ما أنزل الله من أنبياء وكتب مقدسة، وحتى بعض أشياء الأرض. عدا ذلك كل شيء في كل دين، من بشري وغير بشري، هو عرضة للتداول. التداول الساخر ليس أقل احتراماً من التبجيل الكامل. نحتاج الى الاعتقاد أن السخرية أعلى الفنون البشرية. لا تتقدم المعرفة إلا بالسخرية. أمام المآسي التي نتعرض لها كل يوم يحق لنا أن نسخر، ونحوّل المقدس الى موضوع ساخر وربما شك. لا يرتقي العقل البشري إلا بالشك. يمكن أن يلتقي الشك بالإيمان في انسان واحد. السخرية غريزة بشرية. من يريد إلغائها عند الغير يجب أن يلغيها عنده، ومن عند الذين يشترك معهم في الدين أو المذهب. احترام النفس البشرية، احترام الانسان، أجدى وأوجب من احترام أي شيء آخر. في تاريخنا منذ بداية الفتوحات، تكررت الحروب بين أتباع الدين الواحد. غالباً ما كان قائد الغالبين يرسل رأس قائد المغلوبين الى الحاكم الأعلى. وذلك على مسافة أيام أو أسابيع بين بعضهما. أليس أجدر أن تدفن الجثة كاملة؟ هل يستحق أو يوجب الاقتتال على متاع الدنيا ” فصل الرأس عن الجسد” أو الصلب وعرض شلو المغلوب في الساحة العامة؟ من لديه شك حول ذلك، فليقرأ طبقات ابن سعد والطبري والمسعودي وابن الأثير. هولاكو دفع العنف الى أقصاه وقضى على امبراطورية كان العنف يفتتها من الداخل. لم يتوقف الازدهار الثقافي لا قبل هولاكو ولا بعده. يبدو أن التقدم البشري مرتبط بالعنف الذي يمارسه الانسان ضد الانسان، سواء كان من أتباع دينه أو أديان الآخرين. يتساءل المرء عن مدى العنف. هل كان أكثر عند الرومان أو الفرس أو العرب أو حتى المغول أو المدن اليونانية القديمة؟ في الأساس العنف هو المقدس لأنه يتيح الربح، السلب والنهب، والعيش على حساب عمل الغير من الشعوب المغلوبة. في الولايات المتحدة جيش ينفقون عليه ضعف ما ينفق بقية العالم مجتمعاً. جمعوا العنف المقدس في واحد كي يبقى الدين في الداخل مدنياً وسلمياً. حتى ذلك يحافظون عليه بصعوبة. هذه الصعوبة متأتية من العنصرية، وهي إحدى الأسباب الأخرى للعنف. هي اعتبار الآخرين المختلفين بالدين واللون والرأي دونهم في استحقاق المساواة. لكن المسلمين الذين تشكل المساواة ركناً أساسياً عندهم لم يتورعوا عن قتل بعضهم في سبيل السلطة. ألم يهدم أسلافنا مكة والمدينة (المقدستين) عدة مرات في التاريخ؟ الم يُمسح البقيع عن وجه الأرض باسم الدين الصحيح؟ ألم تتغيّر معالم مكة المكرمة باسم الحداثة أو ما بعد الحداثة. ما الفرق بين ذلك وهدم تمثال بودا في باميان منذ بضع سنوات؟ ألم يُقطع رأس تمثال أبي العلاء المعري؟ هل قطع بعض أعضاء الجسد عقوبة تطهّر الروح؟ وفي المعارك بين المسلمين خلال التاريخ كان قطع الرأس وإرساله الى الحاكم أو الأمير أو الخليفة بمثابة إثبات للغلبة، فيما الشلو (الجسد دون الرأس) يُصلب أو يحرق أحياناً.

يتوجب علينا النظر الى أنفسنا، الى تاريخنا وحاضرنا، بعين النقد الموضوعي. يبدأ ذلك بتحديد وتعريف الألفاظ حتى لا نقع فريسة لأوهامنا. العنف من أجل الدين جزء من تاريخنا. الطائفية راهنا تحيل الدين نوعاً من العنف. احتكار الدولة للعنف ولوسائل العنف طريق للخروج من فوضى قاتلة ومن ارتكابات متسلسلة ومتتابعة في الدين وبسببه، ومن أجل مقدسات هي في الغالب مبنية على أوهام.