20
Nov
2020
0

الأجيال القادمة واسرائيل

سجل أنا عربي. هكذا قال محمود درويش.

وتخجل العروبة من عروبتنا. هكذا قال نزار قباني.

الهزيمة جوهر وجودنا. تحدد هويتنا. تعبر عن وجودنا. نلجأ الى الماضي. فيه أمجاد الفتح. نخجل من حاضرنا. نصير سلفيين. السلفية الدينية تعوّض عن السلفية القومية.  حاضر منكوب نختبىء منه. عقلانية طالما تمتعنا بها على مدى القرنين الماضيين، نتخلى عنها منذ عقود. نلجأ للماضي ولأمجاد غابرة. نختبىء في الماضي كزرافة تضع رأسها في الرمل. في غالب الأحيان، نخترع ماضياً لم يكن. ليس التارخ تراكماً للانجازات. نلغي التاريخ. نستبدل به الماضي. نبحث بكل هبل عن لحظة توقف التاريخ. لحظة بطلان التاريخ. نعلن العجز عن التفكير والاجتهاد.

الرجوع للماضي وسلخ التاريخ عنه هو سلفية. سلفية الدين أمضى وأفعل من السلفية القومية. دين مع هزيمة يبعث على الهبل. الماضي هو الدين، الحاضر حداثة. نرفض الحداثة إلا لاستهلاك منتجاتها. حقيقة الأمر نرفض العقلانية. يختفي العقل وراء الخرافات. حلقات الذكر مكان الطرب. نكرر أنفسنا. ترتفع الأصوات. أساليب النضال حلقات ذكر. حلقة الذكر التي نقيمها اليوم تشبه كل حلقة ذكر على مدى التاريخ. بين الممنوع والمباح، يُسمح بالمباح. لا يُتاح لنا إلا التكرار. ينغرس التكرار في أدمغتنا. تصير أفكاره مقدسة. يسيطر المقدس ويختفي من وعينا الدنيوي. نعيش في سماء موهومة. في جنة موعودة.

 سجل أنا عربي. لم يعد لديّ إلا الهوية. الهوية فارغة تخجل من نفسها. ثورة أحيلت الى حروب أهلية. بلدان كان تُطعم العالم تطول فيها الصفوف كي ينالوا كيس الخبز. بلد آخر كان منارة (ولو الى حد) العلم والطب والترفيه، أُفرغ من جامعاته ومن المعرفة. هاجر أطباؤه. صار الترفيه بؤساً ودبرسة. صارت المعرفة شهادات تُعد بالآلاف وهي تُغرق البلد. انتشر الجهل. جهل لا يقاس بالأمية وحسب. وهي بدورها تزداد. العقل السليم في الجسم السليم. فقدت الأجسام سلامتها، تبعتها العقول.

العجز جوهر الهزيمة. نقيض الهزيمة هو الإنجاز. لا نحقق شيئا. لا نعرف ماذا نحقق لأننا لا نحدد أهدافنا. نتداول الألفاظ التي فقدت معناها (الدين، القومية، المقاومة، الأمة، التقدم، التنمية، الخ…). نتحدث بألفاظ فقدت محتواها. لا نحددها. لا نعرف معناها. وعينا محكوم بالحلال والحرام. فلا حوار. هناك أحكام وحسب. نحكم على هذا الفعل أو ذاك بموجب الرجوع لأصول من سبقنا. كل معرفة محفوظة في بطون الكتب. نسمي ذلك تراثاً. التراث الذي نحاكم الأمور بموجبه لم يعد له علاقة بالواقع. لا علاقة له بالحياة المعيوشة. رفعنا الدنيوي الى مستوى المقدس. له كل الاحترام والتبجيل. المقدس الوحيد الذي يستحق الاعتداد به هو الحياة البشرية؛ في هذه الدنيا، على هذه الأرض. هذا المقدس هو في حكم ما لزوم له. في الاستبداد، وعند أصحاب الايديولوجيا، خاصة الدينية، لا قيمة للحياة أو للدنيا، إلا بما يخدم الغاية العليا في السماء، ومن يمثلها على الأرض من طغاة سياسيين أو طغاة دينيين. المجتمع يخضع قهراً وقسراً لهؤلاء. وهؤلاء مع مرور الزمن يصبح الخضوع عندهم عادة لا بدّ منها. البشر أدوات. ليسوا غايات بحد ذاتها. ثالوث الطغاة وأصحاب العمائم واسرائيل لا يريدون تحديد شيء. كلهم يقولون تخضعون الآن ونحدد الأهداف فيما بعد. 

يتحدث الطاغية عن الشعب الذي هو في نظره أداة خضوع. مقولة يبتز بها الناس. أصحاب العمائم أخضعوا الله لمشيئتهم. هم ينوبون عنه. قولهم هو قول الله. العلماء ورثة الأنبياء. لكن النبي لم يقل أنه وارث الله. قال الانسان خليفة الله في الأرض. يورثها من يشاء. لم يحدد من صاحب الملكية الإلهية. اسرائيل تقول تخضعون الآن ونقرر حدود دولتنا لاحقاً. التطبيع سيد الموقف. لا حاجة للاعتراف باسرائيل. الاعتراف يتطلّب حدوداً يُتفق عليها أو تفرض بالقوة. حالها يقول: حان الوقت كي نصبح كياناً طبيعياً بينكم. هذا مرشح طبيعي. وذاك نائب طبيعي، وذلك انسان طبيعي. معنى الطبيعة هي ما يصير مقبولاً بحكم قانون طبيعي حتمي. حلقة الله كذلك. اسرائيل تقرأ في كتاب العجز العربي. وجودنا الطبيعي هو الهزيمة. إرادة الله.

لم ندرك معنى السياسة. هي الإرادة الجماعية. تنتج عن الحوار في مجتمع مفتوح. في السياسة يقول القائد (المنتخب أو غير المنتخب) ما يريد الناس قوله ولا يستطيعون. في السياسة إرادة القول النابع من الضمير التي يعبر عنها القائد المنتخب لا الطاغية. في الاستبداد يقول الناس (أو هكذا يفرض عليهم) ما يقوله القائد. ليت القائد يعرف ما يقول. يقول قولاً واحد الاتجاه. يفرضه على الناس. ينسى قول الإمام علي عندما رفعوا المصاحف على الأسنة: الكتاب، القرآن، حمال أوجه.

عروبتنا حمالة أوجه. الأصل العرقي أقلها احتمالاً. هناك قومية فاشية أساسها الاستبعاد. ما أكثر القوميات الفاشية عندنا. قومية أخرى معنية بالاستيعاب. ننسى أن العروبة ازدهرت في زمن انتشرت لغتها حول العالم في سوق مفتوحة على مدى العالم القديم. كانت لغة التجارة والثقافة لدى معظم شعوب العالم. لغة الاستيعاب. لم نعرف أن نؤسس عليها قومية استيعاب. لا يكون ذلك إلا بالدولة. الدولة التي تستوعب الجميع بغض النظر عن الأصول الإثنية والثقافية.

لا تعني مرجعية الأصول شيئاً في الدولة. الأصل في الدولة الحديثة هو المستقبل. إرادة صنع المستقبل. الإرادة التي لا تصنع إلا جماعياً. الدولة الحديثة بما هي إرادة جماعية هي الديمقراطية. هذه “الجماعية” هي الديمقراطية بل هي الشرعية. لا شرعية في الدين. الدين يعطينا شريعة. الشريعة تتوزع بين المذاهب. وتتناقض فيما بينها الى أن يصير التناقض داخلياً منطقياً، لا حل فيه بين الفرضية الأولى والفرضية الثانية. كل فرضية تستبعد نقيضها. لا تركيب ولا استبعاد بين النقائض. هناك حرب أهلية وحسب. الشرعية شيء آخر. فيها ما يجمع بين النقائض بالسياسة. وهذه تعني التنازل والتسوية للوصول الى قرار مشترك. لا مشترك في قرارات الدين. بحكم العقيدة “هم” غير “نحن” والعكس صحيح. بحكم الدين تعيش الجماعات الدينية وحدها. تشكّل طوائف. في الدولة الضعيفة تُعطى امتيازات تدريجيا، وتصير هي الدولة أو تعلو عليها. ارتباطها بالدين يمنحها بعض القدسية. مصلحتها فوق كل اعتبار. القومية العربية انتماء واحتواء. تنتمي إليها بحكم الولادة. الدولة، أية دولة، خاصة أية دولة من الدول العربية، عليها أن تستوعب كل الأقليات. يتكلمون لغة واحدة مشتركة مع الأكثرية. المشترك بينهم يفوق ما يفرّق. اللغة مشترك لا يفوقه آخر. موضعها عند العرب لا يعلو عليه آخر في شدّ الروابط.

كي يعود الحوار وتعود السياسة، علينا الانفجار داخل أنفسنا، بالسؤال والشك، دون اليقين. نهوضنا مرهون بالصراع داخل الدين لا حوله، في الدين لا خارجه. الصراع داخل الإسلام لا حول الإسلام. متى أصبح الدين وحدة صلبة يمكن لأي قوة خارجية القبض عليه. لا نستيطع القبض عليه إلا من الداخل. القبض على الدين من الخارج يجعله عدة شغل لدى قوى خارجية لا نعرف مدى صلاح نواياها تجاه المجتمعات، تجاه الأمة، تجاه الهوية. قوى يشك في أنها تريدنا أمة، أو أنها ترتاح لبقائنا. تهتم للانسان هنا أو هي تسعى لحرب إبادة ضد شعوب مصابة بمواردها. النفط للشركات الأجنبية. الصحراء تزحف الى الشاطىء. الأراضي الزراعية تضمر وتتقلّص. أنهارنا الكبرى منابعها خارجية، وتُبنى عليها عشرات السدود. حرب إبادة من نوع جديد ضد العرب. المجاعة على الأبواب. ليس فقط منابع المياه بيد الخارج؛ والأمطار بمشيئة الله؛ ومحطات تحلية المياه يديرها خبراء من الخارج. يسهل ضربها أو تعطيلها. مواردنا الطبيعية بيد الخارج. ونحن لا نصنع شيئاً يذكر. الزراعة تتقلص. نعتمد على الاستيراد من الخارج. كنا قبل قرن من الزمان نصدر القمح والحبوب الى الخارج. ذلك عبر مراحل التاريخ. صرنا نستوردها كي نطعم. قرار خارجي بعدم التصدير إلينا يجعل المجاعة حتمية.

البطالة عالية لأننا لا نعمل. لا يوجد إنتاج حتى يعمل شبابنا في صناعته أو زراعته. حتى البلدان الغنية تستورد المصنوعات والمزروعات، بل هي أكثر ما يستورد المواد الغذائية. السياحة ضئيلة. التشدد الديني، بل التطرف الديني يبعد السواح رغم غنى المنطقة العربية بالتاريخ والأثار. كنا جزءاً من العالم يُعتد به ويساهم في اقتصاد وسياسة العالم. هذا عندما كان عالمنا الإسلامي سوقاً مفتوحاً من المحيط الأطلسي الى حدود الصين. صرنا مجتمعاً (مجتمعات) حزيناً مقهوراً بالانغلاق والوجوم. في ظلام الليل كل شيء معتم. لا يُقبل علينا أحد إلا للبحث عن الأثار أو التنقيب عن النفط وغيرها من “الموارد الطبيعية” كالمعادن وغيرها. تطبيع مع إسرائيل. قبول بالعدو من أجل البقاء. لم يعد أحد يحتج لأن القوى خائرة ضعيفة. النفوس محبطة. لا نرجو من المستقبل شيئاً. كيف يؤمل من المستقبل شيئاً ونحن لا نصنع شيئاً. المستقبل يُصنع ولا يُعطى. المعطى الوحيد فحش الأغنياء. وهم قلة نادرة. يقابل ذلك فقر الفقراء، وهم كثرة غالبة جائعة أو على شفير الجوع. حتى لبنان الذي كان يتمتّع بمزايا أصبح فاقد كل شيء، حتى أبناءه الاختصاصيين الذين يهاجرون بأعداد كبيرة. لا ندري إذا كانت الحكومة الجديدة ستجد عدداً كافيا من الاختصاصيين المهرة. أما المستقلين فحدث ولا حرج.

السياسة ليست صراعاً على السلطة إلا في واحد من وجوهها. السياسة صنع المستقبل. إنتاج الأشياء للاستهلاك. هي صنع المستقبل. عقل مغلق على العبادة ومرضاة الله بالعبادة لا على تلبية حاجات البشر بالإنتاج.

السياسة هي أن نسيطر على ما نحن فيه. أن نصير أصحاب قرار. أن نخرج من العجز. أن تصير لنا إرادة. الاستبداد عندنا خنق الشعوب. عند غيرنا، أو بعض غيرنا، قرارات حول المستقبل. الاستبداد عندنا يلغي السياسة. يلغي المجتمع. عند الغير استبداد، لكنه على الأقل يسمح للناس بالإنتاج، وربما يدفعهم إليه. الاستبداد عندنا ضعف وإذلال. عند الغير قوة.

ما أسهل القول “ما في دولة”. لا خطأ أفدح من ذلك. في كل بلد عربي دولة لكنها تفتقر الى القرار. القرار إرادة بشرية. إرادة يصنعها البشر في كل مجتمع عن طريق الدولة. الدولة وعاء القرار. الدولة هي ما يساهم المجتمع في صنعه مع ديمقراطية أو بدونها. لم يكن الدين يوما إلا سياسة؛ الاعتناء بالمجتمع. الإيمان شيء آخر. علاقة فردية بين الانسان وخالقه. إذا كان الدين لا يهمه حال المجتمع فقد أضاع البوصلة. وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (التوبة-105). شعوب لا تعمل ولا تنتج ولا تتمرد. إلا ما كان عام 2011. الثورة التي حولوها الى حروب أهلية.

أقطارنا العربية سحبت منها الشرعية. لذلك الاستبداد سيد الموقف. الشريعة ليست قانونا. الشريعة مليئة بالتناقضات والاختلافات بالتفسير. هي خلفية ذهنية. القانون موحد في كل بلد. يسن القوانين من خلفيتهم الشرعية. القانون ينقذ الشريعة من التناقضات. يجعلها تراثاً وحسب. إقحام الدين في السياسة جريمة فكرية ومادية. مأزق الأمة تناقضات الشريعة. الكتاب المقدس له تفسيرات عديدة. لا مشكلة دمج ما صلح منها في القانون. تصير جزءاً من السياسة. السياسة تنتج القوانين. توحّد الشرائع. تخضعها للدولة. لا تبقى دولة ضمن دولة. الدولة انتظام المجتمع. الانتظام يستدعي الدمج والتقنين لما اختلف من الشرائع. يصير الانتماء للدولة هو ما يستوعب اختلاف الطوائف والمذاهب، من كل الأديان.

أملنا بالمستقبل يتوقف على بناء بل توحيد كل دولة عربية بقوانين موحدة. دون وحدة القوانين لا تتوحد الدولة. شرط ذلك التحوّل من معطى سماوي موهوم الى معطى بشري يصنعه الانسان. شعار تطبيق الشريعة يعيق التقدم. يزرع الاختلافات. يؤدي الى حروب أهلية. ما يؤدي الى وهن المجتمع وإضعاف قدرته على المواجهة.

تعدد الدول العربية ليس ضعفاً. تشتت وعي المجتمعات العربية هو العجز. اسرائيل صورة هذا العجز. مجتمعات عربية متماسكة شرط إظهار العدو على حقيقته. عندما نصير أقوياء بمجتمعات متماسكة (منفتحة على العالم وداخلة بالعالم) تصير اسرائيل أوهى من خيط العنكبوت.