2
Dec
2022
0

أردوغان ومتلازمة العظمة

تخيّل مثلثاً رؤوسه الثلاثة دين وأمة وقومية. وكلها تعابير تشترك في مفهوم واحد هو الهوية. يزخر المجتمع الإسلامي (المجتمعات) بهذه المفاهيم، ويستخف بفاهيم الدولة والعقلانية والحداثة أو يستبعدها، أو يعتبرها مما لا يلزم لأنها مستوردة. مجتمع يستورد الحداثة، مثلاً، ويستهلكها بآلاتها ولا يصنعها. مجتمع يسكن الماضي ويعيش مظاهر الحداثة. هو بالتالي يفتقد الى أهم منجزات الحداثة، وهي الدولة، التي اكتفى منها بأجهزة القمع والبيروقراطية، وأحيانا الديمقراطية الشكلية. فما يُدعى الدولة في هذه المجتمعات هو نظام للقمع، والكبت، وإقفال العقل، وإغلاق المجتمع، وإعاقة الزخم الإنساني، وتخثّر الروح. تفاقم ذلك مع تدفق النفط والغاز، فتزايد الاعتداد بالنفس والمنفخة لدى الحكام. فاعتبر هؤلاء أنهم هم مؤدي حتمية التاريخ، ولا وجود لغيرهم من القراء، حتى في البلدان غير النفطية التي يتم الإحسان عليها بالمساعدات كمنة من الأغنياء. ايديولوجيا نيوليبرالية دون المرور بالليبرالية. امتلاء ذات الحكام بالعظمة التي تكاد تلامس الألوهية. فالجتمع مستمد منهم. مع تغافل أنهم هم مستمدون من شركات النفط وأربابها الدول الامبريالية. وانتقلت العدوى الى البلدان الإسلامية غير النفطية. فكأن السيد رجب طيب أردوغان طاغية ، يعاني من الانتفاخ الذاتي وما يؤدي إليه ذلك من الاستبداد. هو انتفاخ زاخر بالمغالطات التاريخية والأوهام الامبراطورية التي تغذيها ايديولوجيا الاخوان المسلمين.

ما لا يعيه أردوغان أن الدولة التركية التي أسسها أتاتورك ليست بأي شكل من الأشكال استمراراً للدولة الامبراطورية العثمانية، بل انقطاعاً وبتراً لكل ما كانته مادياً ومعنوياً. جرى في أيامه شطب الخلافة الإسلامية التي كان السلطان سليم قد ألغاها وعاد الي تبنيها السلاطين العثمانيون بعد معاهدة كجك-كينارجي، بإيعاز من الانجليز؛ وتبنى الخط اللاتيني للغة التركية مكان الخط العربي؛ ومنع أساليب اللباس، ومنها الطربوش الذي كان قديماً وقد استورد من الأراضي النمساوية؛ وكرّس العلمانية، ومنع الطرق الصوفية، الى غير  ذلك من الإصلاحات الثورية التي تستوجب الثناء لا الانقلاب عليها كما فعل أردوغان. إذ انقلب عليها، بالأحرى على بعضها.

يتعاطى أردوغان مع مفهوم المجال الحيوي وكأن هناك مدى حيويا لتركيا. وقد عبّر عن ذلك أحد حلفائه في السلطة في كتاب طويل قبل الفراق بينهما. إن عرض عضلات القوة التركية في البلدان العربية المجاورة دليل على أن هذه الرؤية ما زالت مستمرة في أروقة الحكم التركية. يشكل العرب كياناً ممزقاً. ومن الضروري المحافظة على دولهم كما هي، لا الإمعان بضربها كما تفعل إسرائيل وإيران؛ الأولى لتأكيد هيمنتها وزيادة مصائب العرب، والثانية بحجة ضرب الإرهاب الكردي الآتي، كما تزعم من إقليم كردستان في العراق. تركيا وإيران وإسرائيل يقصفون بلداناً عربية لأسباب القوة عندهم والضعف عند العرب. ليس غير القوة ما يدفع حكام بلد لاعتبار بلدانا مجاورة مدى حيوياً. أما كان الأجدر بالسيد أردوغان التطلّع شرقاً ليرى شعوباً في آسيا تتكلّم التركية، أم أن بلدانها تخضع لنفوذ من هو أقوى من تركيا، ويعتبرها مجالاً حيوياً له؟ والمقصود روسيا ونفوذها في آسيا الوسطى. العرب ليسوا مدى حيوياً إلا لأنفسهم، ولا يلزمهم امبريالات أخرى بأسماء مغايرة، خاصة وأن نظرية “المدى الحيوي” لألمانيا النازية ما زالت في الذاكرة.

المشكلة الكردية قائمة في تركيا نفسها كما في كل من إيران، وسوريا، والعراق. هي مشكلة لأن هذه البلدان منذ أن تشكلت، تغافل حكامها عن التعددية الإثنية واللغوية الشائعة في منطقتنا كما في معظم العالم.
لا تكون التعددية مشكلة في مجتمع حيث الدولة والمواطنة والسياسة والمجتمع المفتوح؛ وكل ذلك يعني السماح لكل فرد أن يكون انتماؤه القومي واللغوي والديني كما يشاء هو، لا كما تشاء السلطة، واختياره هو، لا اختيار السلطة، ما دام يتقيّد بالانتماء للدولة والانضواء فيها والقبول بمبدأ العيش سوية. أما قمع الجماعات المعتبرة أقليات ومنعها من التحدّث في خطابها اليومي باللغة الأم، كما اعتادت، ومنعها من الاعتزاز بأصولها مهما كانت، فذلك مما يولد المشكلة. والمعروف، مثلاً، أن السلطة التركية تمنع “الأقلية” العربية من الكلام اليومي بلغتها الأم. والمعروف أيضاً أن لواء الإسكندرون انتزع من سوريا بعد تشكلها، بموجب صفقة مع الفرنسيين قبيل الحرب العالمية الثانية. إن رفض السلطة للتعددية هو في أساس المشكلة الكردية وكل المشاكل الأقلوية. الأرمن في لبنان يتحدث قسم كبير منهم، وربما معظمهم، باللغة الأرمنية، وذلك لا يضير انتماؤهم لقومية الدولة اللبنانية. هذه منطقة شديدة التعددية، ومن غير المقبول أن يكون المدى الحيوي لأي دولة إلا داخل حدودها، وإلا كان في الأمر نشوء امبرياليات محلية كما هي الحال مع تركيا الأردوغانية الآن. استقرار المنطقة مرهون بالاعتراف بحدود الدول كما هي. وهو مرهون أيضاً داخل كل دولة بالاعتراف بالتعددية، لا فرض ثقافات، أو أنماط عيش، تختارها السلطة في أي بلد أو مجتمع.

تدور حول أردوغان شبهة اخونجية (الاخوان المسلمون). خطورة الأمر أن مفهوم الأمة (الإسلامية) عندهم يعلو على مفهوم الدولة. ذلك يهدد استقرار المنطقة، بل يزيد عدم الاستقرار الحالي حدة ويفاقم المصائب النازلة بهذه المنطقة؛ أم أن أردوغان لا يريد الاستقرار للعرب؟ وكأن أردوغان يهدد أمن المنطقة بل يزيد تهديده باسم مفاهيم اخونجية حول الأمة والحكم العثماني.

ومع الشبهة الإخوانية ميل شديد وسعي حثيث للانضمام الى الاتحاد الأوروبي، في حين أن بلاده عضو أساسي في حلف شمال الأطلسي. كما أنها عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها. يريد أن يكون مسلماً وأطلسياً وأوروبياً في وقت واحد. واحدة للحرب وأخرى للدين وأخرى للثقافة. هو محكوم بعلمانية ورثها عن أتاتورك، ولا يستطيع إلغاءها، إلا مناورة ونفاقاً، ولا يستطيع أن يكون في منظمة المؤتمر الإسلامي، وهو بشرقيته وإسلام بلده لا يستطيع أن يكون في الاتحاد الأوروبي، الذي مهما قيل عن هويته، إلا أنه يبقى مسيحياً علمانياً؛ وهو بروحه القتالية خادم عند الغرب، إذ أنه من غير الممكن سوى أن يخضع لقيادة الأطلسي، وينفذ أمر قيادته، ويستخدم سلاحه كما يراد له. يعتريه قلق وشك حول هويته، فكأنه لقيط لا يعرف من أبوه وأمه. لكنه جعل من الشعب التركي، عن غير رغبة منهم، مرتزقة ثقافياً وعسكرياً وسياسياً. ويمضي عمره يبحث عن مأوى لفكره الضائع، ما انتهك عظمة الأتراك وكبرياء مجتمعهم، كما على يد أردوغان.

يبدو أنه يريد مدى حيوياً في المنطقة العربية كي يكون نخاسها؛ يبيع ويشتري باسمها ومن أموالها. يمارس عليها الفوقية باسم “عثمانية” ملغاة. ويؤجر نفسه لمن يمنحه الجاه الكاذب. هذا معنى أن يكون أوروبيا يتباهى علينا بحضارة هو ليس منها، ويتباهى علينا بحلف عسكري هو مرتزقة لديه، ويتظاهر بالاستمرارية مع خلافة ألغيت وتمزقت امرباطوريتها منذ قرون عديدة. يعيش النظام التركي، وربما النخب الحاكمة السياسية والثقافية، انفصاماً شديداً في الشخصية. حالة ايرانية معكوسة. كل منهما يسير نحو المستقبل بآلة مكسورة الجوانح، ونفس ذليلة، تتآكلها أوهام العظمة، ومحاولة السيطرة على منطقة أوسع من بلاده ليؤجرها ويبيعها لمن هو أقوى. كلاهما يتاجر بدم الآخرين. عند الإثنين  تراجيديا يمثل الأدوار فيها ممثلون هزليون. تغيب عنهم مأساة الوجود البشري، وآلام شعوبهم وشعوبنا، وهم يضحكون بكل بلاهة على مسرح التاريخ.

لكن حالة الإنكار التركية أعمق من الإيرانية وأشد كارثية. يهيمون في ماض لم يعد موجوداً، ويعجزون عن بناء حاضر ترتاح إليه شعوبهم. ويبتعدون عن بناء مستقبل لا تسطيع عقولهم ذات الأفق الضيق تصوره. هم الآن على هامش التاريخ ويحسبون موقعهم في مركزه.