13
Jun
2018
0

الاستبداد بعد الاستقلال وتوريث السلطة

حكم بعد حروب التحرر الوطني أبطال الاستقلال. لدى بعضهم نزعات اشتراكية. الأولوية فيها للكفاءة الفردية. ومع ذلك مالت الى تشكيل سلالات يحكم فيها الابن بعد الأب، والأب بعد الجد. ولا تكون الأولوية لكفاءة. الأولوية الوحيدة هي لتأبيد السلالة. وكأنها نظام إقطاعي من العصور القديمة.

يعتبر الطاغية، أو من يتبعه من الأبناء في حكم الطغيان، أنه أنقذ شعبه من الاستعمار وزرع الوعي في شعبه. هو مصدر حريته وثقافته. بناء على ذلك يستحق الأبدية في الحكم. تتأمن الأبدية عن طريق السلالة. السلالة تجسيد للأبدية المزعومة.

يَحْذرُ الطاغية من شركائه في حرب التحرير. هؤلاء يمكن أن يعارضوا. مجرد المناقشة أمر مرفوض. المناقشة لدى الطاغية تمهيد للمعارضة. لن يكون طاغية فرداً مستأثراً بالسلطة إلا إذا استأثر بالسلطة. التعبئة السياسية والثقافية التي كانت ضرورية في أيام حرب التحرر الوطني لم تعد ضرورية. لا تنتقل السلطة لأن الانتقال يحتاج الى مجتمع مفتوح. يشكّل انفتاح المجتمع بما فيه من نقاش وطرح آراء ما لا يتناسب مع أحادية السلطة. يجب أن تُلغى. تُلغى معها السياسة. يخاطب الطاغية نفسه، ينغلق على نفسه. يحيط نفسه بالأتباع. مهمتهم تنفيذ أوامر الطاغية. هو يفكّر عن المجتمع. يتوجب على الحاشية التنفيذ وحسب. نفّذ ولا تعترض. كل اعتراض خطر على صاحبه.

الطاغية لا يأمن الأتباع. هؤلاء يمكن أن يعترضوا: في هذه الحالة تتم إزالتهم. الاستمرارية مرهونة بالتوريث. ليس بغير الأبناء وأبنائهم يمكن تأمين الاستمرارية؛ استمرارية الحكم والثروة. الأتباع إذا ورثوا السلطة يمكن أن يغيّروا سياسة الطاغية. هو عبد لسياسته. فيها الخلاص. خلاص أمته هو ما يبغي.

لا يعيش الطاغية فقيراً. هو يمتلك السلطة والثروة. بغضّ النظر عن كيف حصل جمع الثروة، بالاستغلال والنهب والسيطرة على أملاك الغير، إلا أن الثروة يجب أن تورّث. لا تورّث إلا للأبناء. يحب الناس أبناءهم. هذه غريزة. يمكن للأبناء أن يعملوا في غير السلطة لكنهم مضطرون للوراثة. يحضّرهم أباؤهم لتولي السلطة، بغّض النظر عن الكفاءة. حاشية تتفرّق بشكل أو بآخر. الأبناء لا يتحملون فضائح القدماء في السلطة. الفضائح تتعارض مع أخلاقية السلطة. أهم ما يرثه الأبناء عن أبائهم هو الشك بمن حولهم؛ الأولى أن يشكّوا بمن كانوا حول آبائهم. معرفة الحاشية بمجريات الامور تشكل خطراً على وجود الحاكم الأوحد الذي يرث السلطة ويتفرّد بها، ويستمتع بذلك.

الطاغية جبان بطبعه. يخاف من شعبه ومما يُكتب أو يُقال. لذلك يوجد نظام المخابرات لتسجيل دقائق ما يحدث. يتمنى رجال المخابرات الدخول الى دماغ الإنسان؛ يتمنون لو أن هناك جهازاً أو ماكينة تستطيع أن تخترق الدماغ لمعرفة ما فيه. ويتوسّع حجم المخابرات بمقدار ما يكبر الطاغية ومن يرثه. هم جبناء. لا يجب أن تفوتهم شاردة أو واردة. يكبر حجم البيروقراطية التي تعمل مع المخابرات. موارد الدولة محدودة. تزداد حصة المخابرات وأجهزتها، وتنقص حصة الوزارات المنتجة. تتعلّم المخابرات سماع الهمز واللمز وتسجيله. جميعه لا فائدة منه عندما يأتي اليوم الموعود وتفقد أوراق التسجيل قيمتها. وعندما يحكمون ويريدون الإيقاع بشخص ما، حتى لو كان من زملائهم وصادفه الحظ السيء بأن حلّ عليه غضب المسؤول أو الرئيس. يفبركون له ملفاً. يضربونه ويعذبونه. يعترف بما لم يقترفه. ربما كان معظم ما اقترفه لصالح شعبه، أو تعبير عن قرفه من نفسه، أو تماشياً مع عقدة ذنب تلاحق ضميره من كثرة ما يظلمون الناس وينشرون حولهم الأكاذيب. لديهم ترسانة تمتد من الفساد الى الخيانة. كل من أهان الشعور الديني أو القومي يُعتبر قد اقترف خطأ بحق الرئيس الطاغية. عقاب ذلك السجن والتعذيب. تتشلّع أعضاء الجسد في المعتقل، ولو بقيت المفاصل معلقة ببعضها البعض.

الطاغية أيضاً سخيف. هو خلق شعبه. دور الله له. الأبدية من حقه. لا يهتم بحياته هو بعد الموت. يهتم بأبنائه بعد الموت. كيف يورّث السلطة، ومع السلطة وجاهتها وأموالها. الحياة ما بعد الموت سوف تتجسّد في أبنائه. يعتبر هذا حلاً لمعضلة الموت. لا يدري أن هذه المعضلة حيّرت الفلاسفة والعلماء ورجال الدين عبر التاريخ ولم يجدوا لها حلاً. الموت هو الموت. هو أن نتوقف عن العمل والتفكير والفعل. ما أورثناه لأبنائنا ليس لنا عليه سلطان. مع اقتراب الموت، يرى أكثر فأكثر وهم السلطة. فات أوان الندامة. ما عليه إلا الاستسلام لقدره؛ الاستسلام للموت ولأبنائه.

الموت وما بعد الموت سبب للدين. يتلاعب الطاغية بالدين عله يرضي الجمهور المتديّن. يُسَرُّ في نفسه المظلمة بالتطرف الديني. هذا مبرر لوجوده العلماني الكاذب. الحقيقة بالنسبة له وجود أبنائه وأبديته. يجر التطرّف الديني الى الانتحار. يسر الطاغية بسبب انتحار الآخرين. يعتبر ذلك فداء له: فداء عنه وعن أبنائه وأبديته. هم لا أبناؤه الذين ينتحرون. يؤمن المنتحرون بالحياة بعد الموت. يقوده سخفه الى أن لا يدرك أنه غير معني بانتحار الآخرين. ينتحرون هم في سبيل جنة الله في السماء. لا يعرف أنه ذاهب بعد الموت الى مكان شديد الحرارة والعذاب.

يعمل الطاغية كل شيء كي يحيل المجتمع الى جحيم. المجتمع مجرم. لم يخضع له. ثار واعترض. لم يؤمن به. ولم يقتنع بسخافته. ولم يعط أجهزة المخابرات ما أراده. ممانعة حقيقية لدى الناس ضد الطغيان. الأصوات المكبوتة تعبّر عن غضب شديد. غضب يؤدي بالمجتمع الى الانفجار. يدرك الطاغية أو لا يدرك أن الانفجار سوف يحصل في عهد أبنائه. لن تسمح له جهنم بسماع أنين مجتمعه ولا “عنطزات” أبنائه، ولا تهديد الأبدية التي صادرها لنفسه. صادر أبدية الله وصارت في عهدته. في المكان الملائم له. كان في حياته يسمع المواطنين يقولون “إلك الله”. بئس المصير وبئسه.

حوّل المجتمع الى جحيم وأورثه لأبنائه. اعتقد انه أورثهم الجاه والثروة. لا يستطيع الأبناء التلاعب بالمجتمع كما كان يفعل هو. التفاهة المضمرة عنده ظهرت في أبنائه. يصبح الطغاة وأبناؤهم أسرى النظام الذي عمّروه لبنة لبنة. التوريث عند الإقطاعيين وغيرهم حق قانوني. التوريث عندهم ينافق أسس الحكم والنظام. يزوّرون الانتخابات لأنهم يكذبون على أنفسهم وعلى شعبهم. مبدأ الكفأة لم يعد وارداً.

نظام كهذا محكوم بالفساد. ليس فساد موظف يريد إضافة قروش الى راتبه الذي لا يكفيه. النظام وحاشيته يمتلكون الشعب. هم الألهة، بالتالي يملكون ما يملكه الشعب. لا يصادرون السياسة وحسب. يصادرة الممتلكات. تسود العشوائية. يختفي حكم القانون. تُعمى البصيرة. يرون أنفسهم واحداً مع الشعب. لا يرون أنه في السلطة من أجل الحكم، وأن ما بينهم وبين الشعب هو القوانين التي وضعوها هم. إرادتهم الآنية والظالمة في غالب الأحيان هي القانون/اللاقانون.

يقمعون الشعب ويصادرونه. ينفضّ الناس من حولهم. يفتشون عن مصدر آخر للقوة. لا يستمدون القوة من رضا الشعب. هم لن ينالوها. يلجأون الى القوة الخارجية. تعود القواعد العسكرية ويعود الاستعمار. يرحب الناس بالاستعمار علّ قوانين الاستعمار تحميهم من سلطة وعشوائية الحكم المحلي. عود على بدء. عودة الى ما قبل حروب التحرر الوطني. كأن الوطنية لم تكن. ألغاها الطغاة، وأنكرها الجمهور.

عندما ينشب الصراع، ثورة أو غير ذلك، يكون التنافس على السلطة، لا في الدولة ولا حولها. تفقد الدولة معناها. ليس الفرد ابن الدولة. ليس مواطناً. هو معارض وحسب. تحميه العشيرة أو القبيلة أو العائلة أو وجود أجنبي ما. حقوق الإنسان لها منظمات دولية. تتبعها جيوش دولية. غياب معنى الدولة هو غياب السيادة بعد أن غابت الحرية وغاب الحكم بالقانون، وبعد أن تحكمت العشوائية.

توريث سلطة الطغيان هو في حقيقته عودة الى العلاقات الأولية للتحكم بالمجتمع. قبيلة تحكم قبائل. لا ميزة اجتماعية لدى الطبقة الحاكمة عن الطبقات المحكومة. غرائز هي الباعث على كل سلوك. غالباً ما يكون هذا تدميرياً. ينتج عنه الكثير من القتل والانتحار. عمليات انتحارية سببها حكم الطغيان. يأس المحكومين. الحكام يخافون الموت. المحكومون لا يخافون الموت. شدة الظلم والرقابة وكتم الأنفاس تجعل الموت يساوي الحياة. الخلاص من الحياة هو كالخلاص من حكم الطغيان ومن حكم الورثة. هؤلاء يرثون الموت. اما العلمانية فنظام للحياة. الطغيان نظام للموت. مظاهر الحداثة والعلمانية التي يدعيها النظام كاذبة. الموت يتحكم بنظام الطاغية. كما الموت يتحكم بأيديولوجيا الدين. كلاهما يريد الخلاص.

توريث حكم الطاغية هو مثل توريث الأملاك للأبناء. الأمر سيان، الذي يملك الشعب يعتبره ملكية خاصة يمكن، أو يظن أنه يمكن، أن يورث الناس بأملاك للأبناء. الناس بحد ذاتهم أملاك. أشياء ومتاع، مثل فرش البيت. الناس فرش الأرض. هم أشبه بالمقاعد والكراسي التي تورّث. هم بضاعة. يورثها من يعتبر أنه يملكها. تحوّل الناس الى أشياء. اعتبروا فاقدي الحياة. انتحار مفروض عليهم.