28
Feb
2019
1

الاستبداد – وفقدان الشرعية ٥

تنشأ الدولة غالباً، بالغلبة، أو بقرار خارجي. تنشأ الشرعية مع تقادم الزمن. في البداية هي مجرد سلطة. في الحوار وتبادل التسويات بين الدولة والناس تكسب الشرعية. تحوز رضى الناس. تصادر بعض سلطات الجماعات المكوّنة للدولة. تتحوّل الطائفة الى المجتمع. تندمج فيه. تصير العلاقة بين الفرد والسلطة. يصير الفرد مواطناً، والسلطة دولة. دولة الطوائف مشروع دولة. دولة الأفراد هي الدولة الحديثة. كل الدول الكلاسيكية سلطات. تبقي على نفسها بالغلبة أو ما يشبه ذلك. الدولة الحديثة تحوّلت الى أن تكون دولة بكل معنى الكلمة بالحوار الدائم بين السلطة والناس، ومع حيازتها لرضى الناس. الشرعية هي رضى الناس لا أكثر ولا أقل. رضى الناس بالعيش سوية ضمن الحدود الجغرافية المرسومة للدولة. يرسم لها دستور وقوانين. الدستور يحدّد آلية عمل الدولة. القانون يصف آلية عمل النظام (السلطة). الدستور مصدر القوانين. الدولة مصدر النظام. السلطة مشكلة المشاكل. هي الخلط بين الدولة والنظام. لا يحصل هذا التمييز، وتتشكل الدولة (برضى الناس، لا بشيء آخر مهما كان)، ومع تعزّزها في ضمير الفرد الذي صار مواطناً.

الدولة شرط لما عداها. لا شرط عليها. النظام (السلطة) يعمل تحت مظلتها. من يخرج على السلطة يعارض. من يخرج على الدولة يخون. المعارض لا يحاكم. الخائن يعاقب. الدولة الحديثة فيها نظام ذو موالاة ومعارضة. المعارضة جزء ضروري من كيان الدولة الحديثة. ليس لدينا في كل البلدان العربية دول. لأنه ليس فيها لكل سلطة معارضة منظمة أو غير منظمة.

الاستبداد هو غياب الدولة، حتى ولو كانت السلطة قوية. الدولة القوية هي التي تنغرز في ضمائر كل الأفراد، والتي قرّر سكانها العيش فيها سوية من دون شروط. الدولة المتحوّلة من جماعات ومكونات الى جماعة واحدة متكونة من أفراد وحسب، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الأولية، هي الدولة الحديثة الديمقراطية.

ليست الديمقراطية أساسية للدولة. السياسة هي الأساسية. هي التي تعني أن يكون الحوار باتجاهين: بين السلطة والأفراد من جهة، وبين الأفراد والسلطة بالاتجاه الآخر. السياسة لا تكون بالحوار في اتجاه واحد. حينها تكون الدولة نظاماً للسلطة حتى ولو كان في الأمر ديمقراطية. تصير الديمقراطية الى مجرد حساب الأصوات في غياب السياسة. تصير قاعدة للاستبداد، أشبه بالاستفتاء. الدولة الحقيقية قرارتها حصيلة حوارات بين الأفراد كأفراد، وكأحزاب ومعارضات. الدولة بالاستفتاء هي دولة بالأمر. وهي نوع من نظام الاستبداد الذي لا يستحقّ لقب الدولة. انتخابات دول الاستبداد هي أشبه بالاستفتاءات. يجري اختيار المرشحين من دون حوار عام عن قضايا الحكم الأساسية وغير الأساسية. المرشحون في نظام ديمقراطي حقيقي يرشّحون أنفسهم على أساس أفكار وبرامج، سواء موالية أو معارضة. ديمقراطية الاستبداد هي اختيار المرشحين في مكتب الطاغية. يردّدون أقوال الطاغية. وينتهون الى امتلاء الصناديق بأوراق الاقتراع لصالحهم. هي ديمقراطية بالأمر، وهي زائفة بأساسها. عدد الأصوات ليس ديمقراطية. الجدل هو الديمقراطية. الجدل الحقيقي لا يكون إلاّ في العلن؛ في مجتمع مفتوح. الجدل بالسرّ في غرف أو مؤتمرات مغلقة، طريق للاستبداد. كم طاغية وصل الى السلطة عن طريق الانتخابات الديمقراطية. أدواته أحزاب ادّعت الديمقراطية.

السياسة العلنية هي الشرعية. لا شرعية بالسرّ مهما كانت الاجتهادات القانونية والدستورية. السرّ زمانه العتمة. العلانية زمانها النهار والضوء . في العتمة تجهيل وإبعاد. في العلانية، في وضح النهار، يعرف المواطن ما هي المسائل وعلى ماذا يحاور وفي أي اتجاه يصوّت. عندها لا يحتاج المواطن الى التكهّن لمعرفة ماذا يبطن الطاغية وحاشيته.

الشرعية لا تأتي إلا من الناس الذين يقرّرون العيش سوية، والذين يناقشون أمورهم سويّة، والذين يختلفون في الآراء ويتعدّدون في المواقف، ويصلون في النهاية الى الحسم، حسم القرار،  بالتسويات وفي صناديق الاقتراع العلنية. السياسة الحقّة ليس فيها أسرار. الدولة ليس فيها أسرار. أجهزة الأمن والبيروقراطية تعمل أحياناً بالسرّ. ربما كان ذلك من ضرورات العمل لحفظ الأمن. أمن المواطنين وأمن البلد. أما السياسة فهي للعلن، ولا تكون إلا بالعلن في مجتمع مفتوح.

المجتمع المفتوح مترابط متماسك يصعب قهره من قوى خارجية أو داخلية. حين ينخرط المواطنون، كل المواطنين، في السياسة، يكون المجتمع مفتوحاً وعلى كل فرد مسؤولية قراره، ومسؤولية الدفاع عن قراره. عندما يتحمل المسؤولية كل فرد في المجتمع المفتوح يصعب إذلاله وقمعه. أجهزة النظام تكون دوماً تحت المراقبة ويصعب عليها مخالفة القوانين من دون ردع أو عقاب.

بالسياسة يخرج الأفراد من الجماعات الصغرى (طائفية، إثنية، ثقافية، قرابية) الى الجماعة الكبرى حيث المواجهة الوحيدة هي بين الأفراد والسلطة. بهذه المواجهة تصير السلطة دولة. الجماعات الصغرى (الطوائف) تأكل من جسد الدولة، وتصبّ لمصلحة النظام. ليس المطلوب منعها، بل إزاحتها كيلا تبقى رازحة على ضمير المواطن وكاهله. الطائفة عبء على الفرد. لا سياسة حقيقية إلا بالحرية. من الضروري التأقلم. وأنا أقصد هنا تأقلم الدولة والأفراد مع الحريات قبل المسؤوليات. المسؤوليات يحدّدها القانون، الحرية يحدّدها ضمير الفرد. الضمير يجرّنا الى البحث في مسألة الأخلاق وعلاقتها بالسياسة. وهذا البحث يأتي لاحقاً.

للشرعية أوجه متعدّدة. بالأحرى يمكن مناقشتها من زوايا متعددة، أما هي فواحدة: رضى الناس بالدولة. رضى الناس بالنظام (السلطة والحكومة) شرطه الموالاة والمعارضة. على الناس أن يوالوا النظام إذا رضوا،

 وأن يعارضوه إذا رفضوا. وعليهم أن يتحاوروا وأن يتناقشوا لابداء ملاحظاتهم ومواقفهم من النظام (الحكومة). ذلك واجب عليهم. السياسة بهذا المعنى واجب. السياسة بمعنى التنافس من أجل السلطة (الفوز بالانتخابات أو غيرها) ليست واجباً. هناك فرق بين السياسة من أجل إدارة المجتمع، وعلى الفرد المشاركة في ذلك، وبين السياسة من أجل السلطة، وهذا أمر يتوقف على أشخاص يجدون في أنفسهم الأهلية لحمل المسؤولية والمشاركة في تولي السّلطة.

الدولة شرط لما عداها ولا شرط عليها (مكرر). هذا يعني عدم جواز المسّ بالدولة. لكل فرد الحق بالمساس بالسلطة ومعارضتها وموالاتها، أو إسقاطها حين يستدعي الأمر. الدولة هي المقدس الوحيد. تعلو على كل المقدسات الأخرى الجماعية. مقدّسات الدين والطائفة والإثنية تبقى فردية. لكل فرد اعتبار. اعتبار الدولة يعلو ولا يُعلى عليه.

إذن لماذا الخلط بين السلطة والدولة. الجواب المباشر هو الوعي السائد. ليست الدولة جزءاً من الوعي السائد في لبنان وبقية الوطن العربي. سبب هذا الوعي هو عملية الانتقال بين “حروب” التحرّر الوطني الى الاستقلال.  استلمت سلطات لجأت الى تعبئة عامة سياسية وثقافية وعسكرية، معتبرة أن المؤامرات تحاك ضد الدولة. فاستعيض عن الدولة بالسلطة من أجل المواجهات الخارجية (والداخلية مع مرور الزمن). العيش تحت خطر المؤامرات الخارجية استدعى بنظر السادة التعبئة، واستدعى أيضا العمل، عمل الحكومة بالسر. انتهت الحكومة الى الاستبداد. أبرز معالم الاستبداد ظهور الطاغية. مع الطاغية تسود العتمة في وضح النهار. لا لزوم  لأن يعرف الناس وأن يحاوروا. الطاغية يعرف بالنيابة عنهم. مهما كان الطاغية يعرف أو لا يعرف. الأمر سيان؛ استئثار الطاغية وحاشيته بالمعرفة عن الشؤون الخارجية والداخلية هو الاستبداد بعينه. أغلق الطاغية على نفسه. بالمقابل أغلق المجتمع على نفسه. الاستبداد طريق الى المجتمع المغلق. عند ذاك تضيع الشرعية أو تختفي. عندما ينغلق الفريقان، كل على بعضه، كيف يمكن التعرّف الى رضى الناس (المصدر الوحيد للشرعية)؟ يخسر الطاغية شرعيته حكماً حينما ينغلق، وخاصة أنه يدّعي الأبدية. إله جديد موجود عن طريق حاشيته (المخابرات في كل مكان). ينقصه معرفة ضمير كل فرد وهذا أمر مستحيل. الضمير مغلق أساساً وفي جو العتمة لا يستطيع التعبير عن نفسه. لا يعرف الطاغية أنّ فقدان الشرعية يحصل حالما ينغلق المجتمع على نفسه. وهذه مسألة سياسية أملاها وجود الطاغية المنغلق على نفسه أساساً.

مهما فعل أرباب الاستبداد، ومهما كانت الشعارات التي يطرحونها، فإن سلطتهم (النظام) تبقى غير شرعية.

مهما فعل أرباب الاستبداد، ومهما كانت الشعارات التي يطرحونها، فإن سلطتهم (النظام) تبقى غير شرعية. الاستبداد يلغي شرعيّته تلقائياً. المجتمع وحده يمنح الشرعية؛ لا يكتسبها من النظام. النظام يكتسبها منه. ليس هناك دولة شرعية أو غير شرعية. النظام (السلطة) يكون شرعياً أو غير شرعي. ما يقرر ذلك هو العلاقة مع الناس. هو السياسة. الحوار، والنقاش، والجدل المتبادل في مجتمع مفتوح.

يمكن أن يكون النظام قانونياً ولا يكون شرعياً. يمكنه التقيّد الحرفي بنصوص القوانين والدستور ويبقى غير شرعي. معظم طغاة العصر الحديث جاؤوا الى السلطة بشكل قانوني لكنهم فقدوا الشرعية حالما انغلقت السلطة على نفسها. وبالتالي انغلق المجتمع على نفسه. انقطع الحوار والتواصل بين السلطة والمجتمع. بتعبير آخر السياسة هي الشرعية أو أداؤها أو مآلها. السياسة تعني اعتراف السلطة بالمجتمع. الاستبداد يعني تجاهل هذا الاعتراف، وصولاً الى إلغاء المجتمع من السياسة، وإلغاء السياسة من المجتمع. الدولة انتظام المجتمع. وفي هذا الانتظام الحرّ المفتوح تكون الشرعية.

أما دعاة الشريعة وتطبيقها فهم دعاة لدولة غير شرعية. ما يتّفق عليه البشر في مجتمع ما هو الشرعية. يمكن أن تتفق الناس على ما هو منصوص عليه دينياً، أو غير منصوص عليه ويكون شرعياً. والمصلحة ليست أمراً مادياً أو مجرد مكسب اقتصادي. هي ما يعتبره الناس مناسباً لهم وللعيش سوية. يجمع الناس على الدولة ويختلفون على الحكومة (السلطة) من أجل الشرعية. هناك اختلافات كثيرة بين النصوص الدينية وبين الفقهاء. والتقيّد بمذهب واحد مهما كان هو طريق الاستبداد واللاشرعية. هو طريق الى الحرب الأهلية. إذ يرى البعض أن الشريعة معطاة، لكن فهم البشر لها غير متعدد. يحتاج الناس الى اتفاق ما.  ومن الطبيعي أن يكون كل طرف في الاتفاق ملتزماً شأنا دينيا، أو مذهبا ما، لكنه مضطر الى التسوية مع الآخرين والامتناع عن محاولة فرض مذهبه أو وجهة نظره. لا خوف على الشريعة من عدم تطبيقها. الخوف هو من تطبيقها؛ ذلك يعني أن التطبيق سوف يكون متحيّزاً لوجهة نظر (دينية أو غير دينية) مخالفة في الرأي. ليس الله بحاجة إلينا، نحن بحاجة إليه. هذا إذا أردنا سوية عقلية سياسية.

الدين ليس مصدراً للشرعية؛ الخلافة منذ البداية موضوع خلاف، مشروع حرب أهلية. الحداثة في أن البشرية ابتدعت طرقا وأساليب جديدة للسياسة والحكم. لم يعد معها المسلمون قادرين على مضاهاة نظامهم الموروث بالنظام الغربي. هناك قصور لدينا. ولا مانع من تعلّم نظام ديمقراطي ووظائف الدولة الحديثة من الغرب. إذا سمّي ذلك غزوا ثقافياً فليكن. لا خوف على الإسلام إلا من أبنائه. عندما أبدع المسلمون في القرون الأولى في العلوم والدين والحكم، الخ… لم تكن عندهم عقد نقص دونية. لم يكونوا مهزومين عسكرياً وثقافياً؛ كانوا شديدي الاعتداد بأنفسهم وبأنظمتهم وبدينهم وبثقافتهم التي كانت تُبنى من تأثيرات الثقافات الأخرى. كان المجتمع الإسلامي كوزموبوليتياً بكل معنى الكلمة.

كان النظام السياسي دنيوياً. من الطبيعي أن كل مسلم أو غير مسلم يبحث الموضوع، يستند الى خزينه الثقافي. وهو في أجزاء كبرى منه ديني الطابع. النظام السياسي علاقة بين الناس. الدين علاقة بين الإنسان والاله. مفصولان منذ البداية، فلماذا الدمج الآن. عندما ضعفت الخلافة، نظر الفقهاء لوزارة التفويض نزولاً عند الأمر الواقع، ولمراعاة الواقع السياسي. لم يكن ذلك من باب أن النظام الديني هو صاحب القرار، بل من باب انّ هذا النظام يساهم مع المجالات الأخرى في النظام السياسي. لا يراد للمسلم أن يترك دينه كي يشارك في السياسة، بل أن يستخدم دينه في سبيل المشاركة وهو على علم أن الحياة الدينية جزء من الحياة البشرية، وأنّ الحياة الدينية تتطوّر على الرغم من ثبات النصّ القرآنيّ المقدس، وأنها أحلّت أموراً ما كانت تحلّها في البداية، والعكس صحيح.

تكون شرعية النظام عندما تتحرر السياسة من عبء أولياء الدين. لا مقدّسات في السياسة. المقدّسات الدينية تفسد السياسة. لا يستطيع القيّمون على الدين القبول بتسويات السياسة، ولا سوية للسياسة إلا بالتسويات. لا يستطيع القيمون على الدين إشهار سيف الله فوق رقاب العباد لإثبات وجهة نظرهم. وهي لا تخلو من الخطأ مثل جميع آراء الأطراف الأخرى. السياسة علاقات بين البشر، الدين علاقة بالخالق. لا يختلط الإثنان. الله ابتلى الانسان وأعطاه القدرة والاستطاعة بل والحرية كي يختارفيخطئ أو يصيب. ومن أخطأ فله أجر واحد، ومن أصاب فله أجران.

هذه ناحية، أما الأخرى فهي أن الشريعة ليست ما يقوله علماء الدين. الشريعة معطاة إلهياً. واختلف في تفسيرها المسلمون. فهي تتساوى مع السياسة في أنها ابتداع أو ممارسة بشرية. هذا لا يمنع أن يشارك رجال الدين في السياسة، لكن بعقلهم السياسي، لا بمعطياتهم الدينية، وهي غالباً لا تتعلّق بالسياسة وبأمور الحياة كالاقتصاد والحرب والعلوم الحديثة. المسألة لا تتعلق بفصل الدين عن السياسة، أو الدين عن الدولة، بل تتعلّق بأمور أهليّة الدّين كما ورثناه للتعاطي في شؤون السياسة والدولة الحديثتين.

يحرص رجال الدين على احتكار التعاطي بالأحوال الشخصية. لا ننسى أن رجال الدين المسلمين موظفون، خاصة السنّة منهم، هم موظفون عند النظام السياسي، ومضطرّون في مختلف مراحل التاريخ الى أخذ قرارات السلطة السياسية بالاعتبار. بهذا المعنى تخضع الشؤون الدينية للشؤون السياسية. وعلى كل حال، الأحوال الشخصية علاقات، فهي أولى بأن تخضع للسياسة. أنتم أعلم بشؤون دنياكم، كما قال النبي. هو أوصانا بالفصل بين الإثنين، وإخضاع الواحدة منهما للأخرى. فلماذا نخالفه. هل بلغ تقديس النبيّ، وهو لم يدّع ذلك، حداً جعله لدى رجال الدين فوق الاعتبار الدنيوي؟ ألا يتناقض ذلك مع أقواله؟

لا تستمدّ الشرعية إلاّ من الناس، ومن رضاهم، ومن إرادتهم في العيش سوية، ومن تسوياتهم السياسية. الشريعة ليست مصدراً للشرعية. السياسة وحدها مصدر للشرعية. الشريعة كما يراها المؤمنون هي في الأساس الكتاب المقدس القرآن، وما يستفاد منه لأجل علاقة إيمان بالله. لا يكون المسلم مسلماً جدياً إلا إذا استمدّ رأيه من ضميره، ومن الطبيعي أن يكون ضميره متأثراً بالمحمول الثقافي لديه، بما في ذلك الدين. لم يستطع الدين تنظيم حياة الناس عبر القرون. وهو أقلّ قدرة على ذلك الآن. فلتأخذنا الصراحة والجرأة الى اعتبار أنه حيثما يكون الحكم دينياً، تحت شعار تطبيق الشريعة، فإن الأمور تتّجه الى حرب أهلية. هذا إذا لم تكن واقعة فعلاً. وما أكثر الحروب الأهلية عندنا. لا تكون الحرية بجعل الشريعة ( أو ما يُسمى الشريعة، إذا اتفقنا على معناها والنصوص الدستورية التي توضع بمقتضى ذلك الاتفاق) مطلباً بالفرض على الناس، بل بكونها باباً للتحرّر من نفسها. وهذا يعني أن نكون أحراراً في البحث الديني كما في بقية المجالات الأخرى. “لا رهبانية في الإسلام”. قول معناه أن لا يتسلط أحد على الدين، وأن لا يحتكر الشريعة “علماء” يدّعون الاختصاص. العلاقة مع الله، أي الإيمان، أكثر سمواً من أن توضع بيد أوصياء عليها وعلى جماعة المسلمين. باختصار، الاستبداد هو إلغاء للسياسة. السياسة هي علاقة بين الناس. الاستبداد هو علاقة بين الناس والطاغية. الدين هو علاقة بين الناس والله. الخشية كل الخشية هي أن تستقرّ العلاقة مع الله في علاقة مع الطاغية، وأن يصير الدين وجهاً آخر للاستبداد.