2
Feb
2024
0

الامبراطوريات المحلية الهشة

اللافت في السنين الأخيرة أن دور الدولة في تراجع نظريا وممارسة. تبدو الظاهرة للعيان في المشرق العربي أكثر من غيره. ما يحدث هو نتيجة للسياسات المتبعة، أهمها الاستبداد.

في بلدان عربية ميليشيات، بعضها للمقاومة ضد احتلال أجنبي، وبعضها نتج عن إصابة الدولة باهتراء، فتنشأ جيوش موازية غير الجيش الرسمي، أو أن الدولة تنشأ جيشاً موازيا (كحرس جمهوري أو سرايا الدفاع)، نتيجة عدم ثقة الدولة بجيشها الرسمي. وفي جميع الأحوال تفكك الدولة أمر لا بدّ منه حيال نشوب حرب أهلية أو حركة انفصالية، ذلك أن الحكومة الرسمية تخلت منذ البداية عن السياسة التي بدونها تفقد الدولة قوامها، ويفقد المجتمع انتظامه.

بعض هذه التنظيمات امتدادات لقوى أجنبية مجاورة أو بعيدة، ولكنها تأتمر بأوامر وسياسات غير دولتها الرسمية. لقد تشكلت امبراطوريات مركزها خارج المنطقة العربية، وهي تقرر ما يجري في بعض البلدان العربية. صار الانفتاح على الخارج ليس تجارياً أو ثقافياً تديره الدولة الرسمية المركزية بل ما يشبه فوضى سياسية وعسكرية تقود في النهاية الى انحلال النظام السياسي من الداخل.

صحيح أن المنطقة ذات موزاييك من الإثنيات والقوميات والمذاهب والتحالفات العشائرية إلا أن ما كنا نظنه مجرد تعددية لا يخلو منها أي مجتمع صارت دويلات ضمن الدولة وانقسامات تهدد وحدة كل قطر، وتذرر مجتمعه، وتفكك عرى العلاقات فيه، بحيث يصير صعباً مع مرور الوقت إعادة اللحمة، ناهيك بالانتظام السياسي.

واحد من أسباب ذلك هو خوف الحاكم والحاشية حوله من تغيّر الأحوال أو نشوب ثورات كما حدث في عام 2011، فيؤدي الأمر الى خسران السلطة. وهذا أشد على الحكام من أي شيء آخر لأنه يؤدي الى النفي أو الإعدام أو ما يشبه ذلك؛ هذا مع العلم أن هؤلاء الحكام قد جمعوا ثروات كبرى بالسلب والنهب والابتزاز، بحيث تم تشليح الطبقات الدنيا ما لديها من نتاج عملها، فلا يكون مصيرها إلا الفقر المدقع. ثاني الأسباب هو تبعية بعد هذه الجماعات لجهات خاريجة، صارت تتشكّل منها امبراطوريات وتفخر بذلك.

ثالث الأسباب أن دولاً مجاورة تعتبر نفسها وهماً وريثة سلالات قديمة،  وتريد أن تعيد أمجادها باقتطاع أجزاء من الأراضي العربية. يختلط بذلك اتجاه دعوي مذهبي دون الأخذ بالاعتبار كره العرب المحليين لهم ولو كانوا على نفس المذهب. رابع الأسباب هو ظهور النفط في مناطق عربية قريبة من حدود الجيران مما جعل لعابها يسيل طمعا بالثروة.

خامس الأسباب أن رسم الحدود إثر سايكس-بيكو لم يأخذ بالاعتبار التداخل الديمغرافي عبر الحدود، ولا توق الأقليات اللغوية للانضمام الى بلدان مجاورة تكون لغتهم فيها هي السائدة.

إن السبب الأهم في كل ذلك يبقى هو تخثّر السياسة والوعي بها وبممارستها في كل قطر عربي. طبعا، الاستبداد هو نقيض السياسة، وهو موجود في معظم الأقطار العربية. المقصود بتعبير السياسة هنا هو إدارة المجتمع، وبالتالي وعي الدولة وأهميتها. يظن الكثير من الناس أن السياسة هي لعبة الوصول الى السلطة والاستمرار بها. لكن معناها الأهم هو العيش سوية والعمل على ذلك بالتسويات وتراكمها وقبول التعددية، أي قبول الآخر. وهذا ليس التسامح وحسب، بل أن يرى الواحد منا ذاته في الآخر، وصولا الى المجتمع الذي يصير هو الدولة. السياسة هي أن لا تكون السلطة بالأمر، ولا بالقمع والانقماع، بل بالحرية واعتبار كل منا أنه هو الدولة، وأن المجتمع يتجسّد في ذاته. التماهي بين الفرد والمجتمع لا يعني إلغاء أي منهما بل هو علاقة ديالكتيكية، مصدرها حيوية المجتمع وقابليته للتطوّر، وأن يشكّل في كل لحظة تاريخه من جديد. وبذلك يصنع مستقبله. ليس التاريخ أن تكون كما مضى بل كما تريد أن تكون، وأن تسود علاقات اجتماعية تكون فيها الجماعة أو الدولة منغرزة في ضمير الفرد، كل فرد.

يفقد المجتمع تماسكه، ويصبح هش عندما تضعف الدولة (ليس مجرد السلطة) في الوعي والممارسة. وتتذاكى الامبراطوريات المحلية (العظيمى) بالظن أنها تكسب، عندما تتلاعب بمجتمعات مجاورة هشة، وعندما يؤدي تلاعبها الى تفاقم الهشاشة؛ وكما أن ما استند الى باطل هو باطل، فإن ما استند الى كيانات هشة فهو كيان هش، وامبراطورية من ورق.

معالجة ذلك في كل قطر تكون باسياسة، بمعناها العميق، أي ببناء دولة تستند الى مجتمع متماسك، وتكون قوتها (أي قوة الدولة) في تماسك المجتمع. اعتاد معظمنا على اعتبار الدولة كياناً عابرا، فاستخف بها لصالح الأمة الإسلامية أو القومية الإعلامية، في الظن أن كلا منهما موجود، وإن لم يكن في الواقع بل فيما يتعداه، وأنه سوف يتجلى يوما ما. تصلح أمورنا عندما تكون الدولة التي نحن فيها ملاذنا الأول والأخير، فلا نتعلّق بغيرها إلا عندما يكتمل بناء الدولة، ويتماسك مجتمعها لتزول منهما إزدواجية السلطة وتعددها. ليس المهم أن تكون الدولة مركزية أو فيدرالية بل هو أن تكون دولة، ولا تكون كذلك إلا بالتماسك والاندماج مع الحفاظ على التعددية التي لا يخلو منها كل مجتمع وكل فرد.

أما الامبراطوريات المحلية، وهي بالطبع لا عظمى بل عظيمى، فإنها مهما تلاعبت بالهشاشة لدينا، ستكون هي بدورها هشة إذا ستنعكس تلك الهشاشة فيها.