11
Apr
2018
1

التجاوز

يتطلّب التجاوز لما نحن فيه تغييرات ثلاثة في وعينا حول نشاطات المجتمع، أهمها يتعلّق بالثقافي، أو بالأحرى بالوعي الثقافي، والثاني يتعلّق بالوعي السياسي، والثالث يتعلّق بالوعي الاقتصادي.

فيما يتعلق بالثقافة، يتعيّن علينا أن نزيح القدسية عن تراثنا القديم، واعتبار أبطال الأمس أناساً عاديين، يمكن مناقشة حياتهم اليومية وما فعلوه بخصوص المال، والنساء، والاقتصاد، وغير ذلك. ومع تقدير انجازات الرسول، إلا أنه يجب أن نعتبرهم أناساً عاديين، كانوا على علاقة جيدة بالرسول الذي دفع حماسة قوية في قلوبهم. فأقام دولة وأنشأ بداية لتوسّع هائل. أنشأ دولة كي تنمو وتتطوّر، وأنشأ ديناً أغلقه في خطبة الوداع. ما عدا ذلك يمكن مناقشته ويمكن تفسير الكتب المعطاة وكأنها نصوص أدبية لا دينية، بما في ذلك مجموعات البخاري، ومسلم، وأحمد بن حنبل، وأحاديث عائشة، والزبير، وطلحة، وعمر، وغيرهم. وإخضاع كل ما قالوه للنقد والتجريح؛ وتطبيق المناهج التاريخية الحديثة لفهم تاريخنا في المرحلة التأسيسية وما تلاها، وكأنها تاريخ بشر عاديين وليست تعبيرات قدسية: يتمتع الجيل الأول بعد النبي ثم أجيال التابعين، وتابعي التابعين، وإن بدرجات متناقضة تستدعي التعديل. وعلينا الإقرار أن كل ما كتب في التاريخ والحديث يعامل على أنه أدبيات تخضع لمتطلبات العلم، وتمحيص العقل، وإقرار واع بالشك فيها، وتأويلها، والأرجح درسها، وفهمها، وإيداعها في متاحف التاريخ لأخذ العبر لا للعيش على أساسها. السلفية تدعو للعيش حسب السلف الصالح، أما مقتضيات التطوّر والنهوض، فهي تقود للحرية والديمقراطية، وأن المجتمع يقرر طريقة عيشه ويفرضها على الدولة.

يستحيل التجاوز، أو بالأحرى إنشاء مجتمع مفتوح وحديث ومتطوّر عن طريق الدين. الدين مغلق ليس فيه إلا الفهم المغلق لحقائق بدائية وأخرى مشتقة منها. ومشتقة عن طريق الاستنباط، لا الاستقراء؛ الاستنباط من مبادىء أولية لاستنتاجات متضمنة في هذه المبادئ الأولية. وليس الاستقراء عن طريق ملاحظة الطبيعة والكون من أجل استنتاجات جديدة، وقواعد وقوانين جديدة. ليس في الدين جديد او أي تجديد. هناك فقط استرداد، ومضغ، واجترار لقواعد قديمة، وإن بألفاظ جديدة، وأحياناً اختراع التقاليد من أجل تأكيد هيبة هذه الاستنتاجات، أو اختراع أحاديث مرتدية ثوب القداسة ومنسوبة للنبي وأصحابه من أجل جعل الاستنباط أمراً محترماً عن طريق القداسة. ما دام التقديس موجوداً فلا إمكانية للتجديد. ما يُحكى عن التجديد الديني تزييف واحتقار للعقل والثورة على استخدامه.

تاريخنا، وماضينا، وتراثنا، وتقاليدنا، كل ذلك مُستوعب في مجلدات وكتب لا تُحصى. هي مطولات حول أمور مكررة لا يمكن للمرء أن يفهمها إلا إذا كرّس حياته من أجلها؛ هذا إذا استطاع ذلك. يصير التراث والدين عصيين على الفهم والاستيعاب، ومقتصرين على بعض الاختصاصيين. هؤلاء يلهث كل واحد منهم وراء ما حدث وما معناه، ويضطر الى التزييف كي يظهر في هيئة العالم. اعتبروا أنفسهم علماء وورثة للأنبياء. هم لم يرثوا شيئاً. ورثوا ما كتب اللاحق عن السابق منهم. يكرر اللاحق ما سبقه ويغرق فيه. يضيق نفسه. يغطس عقله في أعماق الأوراق الصفراء التي لا يغني العلم بها عن شيء. تُسمى علماً وهي تكريس للجهل بكل شيء آخر غير ما حدّثنا به فلان عن فلان. لكثرة ما يحدثنا فلان عن فلان يصير العلم جهلاً. تتبّع أثار السلف الصالح، أو غير الصالح، والعلماء يفضلون سمة الصالح، يغنينا عن العالم. فيه الخلاص وفيه ضمان الآخرة. ننهزم أو نهزم سيان، ما دامت الأخرة مضمونة، وكأن هناك عهداً مع الله. العهد هو اتفاق بين عدد محدود من مدّعي العلم والعلماء ليشكلوا طبقة منعزلة عن شعبهم وعن مجتمعهم، بل في مواجهة شعبهم ومجتمعهم من أجل تكريس وضعهم الطبقي. الوضع الذي لا يتكرّس ولا يمكن الحفاظ عليه إلا بقدرة قادر هو الطاغية. يحتاجون الى الاستبداد لتكريس وجودهم. “العلماء”، علماء الدين، بحاجة الى الاستبداد كقاعدة طبيعية لعملهم. طبقة العلماء ووجود الطاغية ضرورتان. كل منهما ضرورة للأخرى. لا لزوم لها إلا بوجود الأخرى؛ كل منهما تكمل الأخرى. يصير التراث أو الدين نوعاً من الطغيان أو الاستبداد؛ أو أي مسمى آخر.

طغيان المجتمع على الفرد هو في حقيقته طغيان الفرد المستبد الحاكم الغاشم على المجتمع. حين لا يتشكّل المجتمع من أفراد طهروا أنفسهم من القداسة، ومن التراث، ومن تجذيفات “العلماء” لا يمكن أن يكون المجتمع مفتوحاً، ولا يمكن التجديد والتجاوز. يعرف هذا “المجتمع” وهن قاعدته؛ يعرف أنه مرتكز على قواعد لا روح فيها ولا عقل. يعرف أنه مهدد من الداخل. يعرف أن التناقضات الداخلية تهدد وجوده؛ لذلك يضطر الى مزيد من القمع في سبيل البقاء. لا يتفق مفهوم “السلف الصالح” مع البقاء؛ لا يتناسب مع التحرر. لا يستطيع أحياناً التأكيد على وجوده مع الطاغية. لكنه لا يستطيع تبرير وجوده إلا مع الطاغية. يضطر الى الاحتيال كي لا يظهر على حقيقته.

يستحيل التجاوز (لما نحن فيه) من دون الإبداع. الإبداع سمّي بدعاً. العلماء ضد البدع. اخترعوا ضدها أحاديث قدسية. جعلوا مصير أصحاب البدع في النار. ماذا يعرفون عن نار جهنم غير الوجود الذي هم ونحن موجودون فيه. عقلهم، ووعيهم، وكل حواسهم، تساهم في خلق جهنم الأرضية. جهنم الهزيمة والعار والتراجع والجهل والبلادة، كي يعِدونا بالجنة الأخروية. جعلوا الأولوية لجهنم الأخروية على الدنيوية بدل أن يعملوا من أجل ازدهار الأرض أولوية على جنة السماء.

لا نستطيع أن نكون خير أمة أخرجت للناس ما دمنا لا نعرف الأمم الأخرى، لا نستطيع أن نعرف أمتنا، بالأحرى مجتمعنا، إلا إذا وقفنا خارجه. يكون ذلك عن طريق النقد والتجريح وتدمير المقدسات. لا يقوم العقل بعمله الحقيقي إلا عن طريق تدمير المقدسات. المقدس يحشرنا ضمن ما نحن فيه. يوهمنا أن ما نحن فيه مقدر لنا، ومُستساغ لأفهامنا ولخلاصنا. المقدس يتلاءم مع المجتمع المغلق؛ العقل المغلق والمستريح. باسم الدين نقدس التراث ونضع أنفسنا في قفص لا فكاك منه. علينا أن نخرج من القفص. نتحرر من سجن وضعنا أنفسنا فيه وقيدنا أنفسنا بقواعده. لا نتجاوز، لا ننتقل الى ما بعد ما نحن فيه، لا نتحرر، إلا إذا خرجنا على السلف الصالح وانتقلنا الى صلاح آخر. السلف الصالح هو فساد عصرنا. نقلنا فساد عصرنا، وفسادنا في هذا العصر، وهزيمتنا في وجه النظام العالمي، وانهزامنا أمام العالم، وانهزامنا عن الإنجاز والإبداع، الى السلف الذي كان صالحاً بمقدار ما كان مبدعاً وخارجاً على عصره. بدع السلف الصالح صارت فساداً بمقدار ما هي تنتج عقلنا ووعينا وهزيمتنا. لا نتجاوز إلا بمقدار ما نصير سلفاً صالحاً لأجيال لاحقة، إلا بمقدار ما يصير سلفنا غير صالح لنا، ونصير نحن سلفاً غير صالح لمن بعدنا.

التاريخ انقلاب على الماضي، خروج عليه وخروج منه؛ إنكار له. نؤكد الماضي كي نخرج منه وننكره. ننكره بالخروج منه. تكرار الماضي ليس تاريخاً هو خروج من التاريخ، ومن العصر، ومن المستقبل. لا نصنع المستقبل إلا بالبدع والإبداع؛ وأن نغامر بالمصير الى إلغاء نار جهنم. وما أدراك ما جهنم. هل غير ما نحن فيه؟ وطن مشلّع، منسلخ، مشتت، يسوده الجهل والتجهيل. وريث طغيان السلف الصالح لم يعترف بالهزيمة بإسرائيل للخروج من الهزيمة، بل من أجل تأكيد أن الهزيمة هي طبيعة العيش عندنا. اعترف من أجل أن يبدو حداثياً في بلد “ديزني لاند”.

يتعامل الدين والدولة مع الاقتصاد وكأنه جزء من الدولة التي يسيطران عليها بتدخل بعض “العلماء” الدينيين ليكتبوا عن الاقتصاد الاشتراكي أيام عبر الناصر، وعن “اقتصادنا” في مرحلة الصحوة الإسلامية. لكن الاقتصاد لا علاقة له بالدين، فباءت المحاولات بالفشل، وكانت نوعاً من الدعاية للنظام. ونشأت بنوك إسلامية لتطبيق التعاليم الدينية في النظام المصرفي. فكأن الأمر حملة تنصيبات مالية.

رأينا بعض البرامج التلفزيونية عن “الشريعة والحياة” التي أسهم فيها وأشرف عليها العلماء. هذا يفترض أن هناك شريعة، وأن الشريعة قانون للتطبيق، وذلك انطلاقاً من أن “الإسلام هو الحل”. كل ذلك لا يفيد إلا في الدعاية للعيش حسب السلف الصالح، والأهم من ذلك أن السلف الصالح هو ما تتضمنه كتب التراث، وأن لا تراث لنا إلا الدين.

أن ينتشر كل هذا “الدوز” الديني على الفضائيات، لبث وعي سلفي وغير عملي في عقول الناس، وتشكيل وعيهم على أساس الدين لتشكيل اقتناعات بأن الدين ليس جانباً من الوعي، بل الوعي كله في مجتمع معاصر. يرى المرء في ذلك انسجام استراتجية العلماء وطواغيت السياسية.

كل ذلك ساهم في الحملة التي قام بها السادات للتلاعب بالدين، وللتبشير بحقوق الفلسطينيين (على أية أرض) وانتهى به الأمر الى كامب دايفيد، وكل ذلك في ما يُسمى الصحوة الإسلامية. تختلف التفسيرات والمذاهب عند المسلمين، لكنهم جميعاً أجمعوا على السلفية والحل الديني، سواء عند الإخوان المسلمين في مصر، أو إيران الخمينية، أو تركيا الأردوغانية.

تراجع الوعي العام خطوات الى الوراء بفضل الصحوات الإسلامية، وساد اعتقاد، حتى بين الأكاديميين المسلمين في الغرب، بوجود علوم إسلامية في الاقتصاد، وعلم النفس، والفلسفة، والفيزياء، والبيولوجيا، إلخ… ونشأت مراكز بحوث أمتلأت بالنصابين الدينيين للإيهام بأنه يمكن التزاوج بين العلوم الموروثة الدينية والعلوم الحديثة. كل ذلك من أجل إنتاج حداثة إسلامية مكان الحداثة الحقيقية التي لا تكون إلا عن طريق الإنخراط في العالم، وبناء مجتمعات مفتوحة. وكل ذلك ساهم في إغلاق عقل المجتمع، وفي إصابة الوعي بنوع من الخوف الفكري حتى لدى الشباب. أصيبوا بأمراض الشيخوخة قبل بلوغهم الحلم. ساعدهم في ذلك استخدام الأدوات الحديثة (السلاح في أفغانستان، الكومبيوتر في كل مكان) وصار لديهم نوع من التعالي، ولم يدروا أنهم يحفرون قبورهم بأيديهم عن سابق جهل وتصميم. وكان طبيعياً أن تؤدي هزيمة السوفيات في أفغانستان، وبعدها نجاح القاعدة والنصرة في استخدام الانترنت، الى نوع من الاستعلاء عند هؤلاء، واعتقادهم أنهم سوف يسيطرون على العالم، ويعيدون الخلافة التي لم يعرفوا عن تاريخها شيئاً. ساد الجهل المقدس. استهلاك التقنيات الحديثة من دون مجتمعات حديثة تنتج هذه التقنيات هي طريق الى الجهل المقدس وتعميمه. جاهلية التكنولوجيا أرست دعائمها الصحوة الإسلامية الجديدة التي بدأت في عام 1979. ولم يكن صدفة أنها تزامنت (هذه البداية) مع كامب دايفيد؛ للدلالة على أن إسرائيل مسألة تقنية (وفيها تقدم تقني على كل حال) وليست مسألة سياسية من الطراز الأوّل. انعكس ذلك على قول العروبيين أن فلسطين جوهر القضية العربية، فصارت التقنية عن طريق الإسلام السياسي جوهر القضية العربية. ولم يعد الأمر متعلقاً بتحديث المجتمع العربي، وتخليه عما يسمى التراث، والإسلام السياسي، والصحوة الدينية، والنصب القومي الإسلامي. لا بل استعيض بالحداثة التقنية عن تحديث المجتمع لدى طاغية الوهابية؛ الذي اعتبر مؤخراً أنه ليس هناك وهابية، وهناك فقط الإسلام الصحيح الذي لا يعرفه أحد غيرهم. هناك إسلاموية صحيحة ولا أهمية لأن يكون هناك مسلمون مع تفسيرات مختلفة لديهم حول دينهم. مقولة سيد قطب عن الجاهلية، وأن هناك إسلاما صحيحا يجب أن يعود. حياة الناس ليست مهمة. المهم هو البحث عن الإسلام الصحيح والاقتتال حوله. وتنتهي الجماعات الإسلامية عند إسرائيل، واحدة بعد أخرى. ويحتضر المجتمع العربي خلال ذلك (في بداية شبابه ترجم الخامنئي كتاب سيد قطب “معالم في الطريق”).

 (وللبحث تتمة)