28
Apr
2023
0

الدين السياسي في مواجهة الدين العميق

الدين العميق يسبر غور الإنسان ويصله بالله؛ الدين السياسي يبقى على السطح. يقيم علاقات أفقية، ولا يستطيع فهم الإنسان في علاقته مع الله. هو علاقة قمعية. التناقض الأساسي ليس بين الدين السياسي المعتدل والدين السياسي المتطرّف، بل هو بين الدين السياسي بجميع أطيافه ودين الناس، الدين التاريخي، الدين العميق. تجربتهما مختلفتان حول الله، والتاريخ، والإنسان الآخر، والتطور، والدولة، والعمل السياسي، والحرية، حتى ليكادان يكونان دينيين مختلفين.

الدين السياسي سواء كان معتدلاً أو متطرفاً أو إرهابيا، هو تيار غاضب، منكر للسياسة، معتقد أن الله يجانب عدوه؛ دين كاره للناس. محتقر لهم. يعتبرهم كفرة أو أشبه بذلك. يرفض التطوّر. هو دين المستحيل، يعبّر عن حالة تخلف لدى الناس، ما كان يجب أن توجد. ينكر ما يمكن أن يوجد. عدوهم الأول إسلام الآخرين من القدماء والتقليديين؛ الإسلام الموروث والتقليدي. الإسلام التاريخي؛ الكتب القديمة تستخدم للفتاوى فقط.

في الإسلام التاريخي العميق، بعكس الإسلام السياسي، مصالحة مع الله؛ دار موادعة بينهم وبين الأجانب. لا خوف عندهم من غزو ثقافي. يفصلون الثقافة عن الدين. يحتفظون بالدين، وهم أشد تمسكاً بمقتضياته من أصحاب الدين السياسي. لا يخشون الغزو الثقافي بل يرحبون به. يريدون الاندماج في العالم الخارجي والأخذ بتلابيب علوم العصر، وليس فقط تقنياته. يريدون علماً وتقنية، انتاجاً واستهلاكاً. يخافون من الهزيمة. يعتبرون أن هي ما سوف يحاسبون عليه عند ملاقاة ربهم. في حين أن أصحاب الدين السياسي لا تهمهم الهزيمة. ويعتبرون أن حسابهم عند الله مقتصر على الجهاد وتأدية الطقوس، حتى ولو انهزموا. لا يريدون الخروج الى العالم والانخراط فيه. يخافون منه. لديهم دونية تجاه الآخرين. يضعون ذلك تحت عنوان الغزو الثقافي. الثقافة والدين عندهم شيء واحد. يأخذون الثقافة من الدين. يقفون ضد التجديد الثقافي  بحجة الحفاظ على الدين، والدين تكليف إلهي. وما هو كذلك مقدس. والمقدس يستحق الشهادة من أجله، كي يلبي الناس دعوتهم. يحيلون كل شيء الى المقدس، كي تصير الحياة كلها في عهدتهم. كل شيء يخضع لاعتبارات الحلال والحرام. لا يدركون أو ينكرون أن الصراع بين الأمة وأعداءها هو حول المباح. لا مستحب أو مكروه لديهم. كل شيء حلال أو حرام. بذلك يضطر جميع المسلمين للخضوع لهم. فهم أولياء الله، وهم وحدهم يعرفون الحلال والحرام، لذلك ينطلقون في كتاباتهم وأقوالهم حول الدين، وهي مطولات كل منها في أجزاء متعددة، من الطهارة. من يُشتبه بطهارته يُخرج من الهيكل. يجب على الداعي أن يكون مطهرا مادياً ومطهرا من كل أفكار غربية، كي يُقبل في الهيكل.

أخطر أسلحة الدين السياسي هو الخلط بين الدين والثقافة. ينكرون أن في الدين الواحد والمذهب الواحد ثقافات متعددة، وأن الدين الواحد أو المذهب الواحد يمر عبر مراحل التاريخ؛ يمر بثقافات متعددة، وأن الدين ذاته والمذهب كيان متحوّل متطوّر. يثبتون الثقافة في الدين، والدين عندهم يقف عند مرحلته الأولى، ولا يعترفون بما أعقبه إلا بمرحلة أمجاد. وكل هذه لا تتكرر، لكنهم لا يشعرون بالمأزق. ينكرون أنهم أحالوا تاريخنا بالهزائم والحروب الأهلية الناتجة عنها الى مأزق. وعيهم هو مأزق هذه الأمة، بالأحرى هذه المجتمعات. كل ما يقولونه ويفعلونه بالغضب. والغضب ناصح سيء كما قيل. همشتهم أنظمة الاستبداد عبر التاريخ الماضي، لكنهم تحالفوا معها. وكانت النتائج عليهم وبالاً، فازدادوا غضباً. غضب يصل بهم الى الانتحار. وقد صار الانتحار شبه اختصاص بهم بين شعوب الأرض.

قال بعض الفقهاء الإمامة موضوعة لحفظ الدين وسياسة الدنيا. ينكرون السياسة بالتالي ينكرون الدنيا. قال فقهاء آخرون الأمة ولاية على نفسها. احتكار الإمامة والخلافة أدى الى إنكار الأمة أي المجتمع.

الدين العميق هو دين الناس، بينما أصحاب الدين السياسي يأخذون دينهم من بطون الكتب لا من الناس. الدين العميق هو على تصالح مع الله ومع الناس الآخرين. يرجو المؤمن الثواب بالتقييد بأركان الإسلام الأساسية دون افتعال صخب وكأن الله يعوزه السمع والرؤية عن بعد. هو واثق من رحمة الله. يؤدي ما عليه من عبادات. جوهر اعتقاده إيمان ثابت بالله، وثقة دائمة به، وتفاؤل دائم بأنها “بتفرج”. جوهر وعيه الإيمان بالله. يؤدي ما عليه من فرائضه ما استطاع إليه سبيلاً. ضميره فردي دائماً. الاستقامة نبراسه. ليس ذلك طريق للثورة، بل طريق لغيرها، أي التغيير التدريجي. في قرارة نفسه لا يتمنى الثورة ولا يسعى إليها. وإذا حصلت يشارك فيها. هو أصلاً يكره أن يفرض عليه الآخرون ما لا يستحب، فكيف يسعى لفرض أمور على الآخرين؟ تقليدي بطبعه، محافظ بسلوكه، تفكيره تراكمي. يقبل التعددية. يكره التعدي أو مهاجمة الدين.

في وعي صاحب الدين العميق الإيمان بالله جوهر رؤيته للعالم. الرؤية تراكمية في الأساس لا ثورية إلا متى فاقت التجاوزات والظلم حد التحمّل. يؤمن بالدولة. هي المطلق الوحيد لديه رغم جور الحكام وظلمهم في العمق. لا يحب رجال الدين، فهؤلاء من لزوم ما لا يلزم. لا يحتاج لأحد كي يتعلّم دينه. من حظه أن في دينه الكثير من البساطة، بحيث لا يحتاج لغيره لممارسة الطقوس. العلاقة بينه وبين الله سر يحتفظ به لنفسه. الإيمان له عنوان هو الشهادتين وكفى.

تلقى هذا الجمهور العريض، الذي يشكّل أكثرية المجتمع، الكثير من التقييم المهين من الإسلام السياسي، ومن الاتجاهات القومية، ومن الليبرالية، والمثقفين، وذلك على خطى الاستشراق. لم يظهروا الاحترام الواجب تجاهه. إرادة التغيير لديهم لا تقوم على التراكم، والثورة إن حدثت لا يشاركون فيها إلا من أجل “قطف الثمار”. لم تكن الثورة أو إرادة التغيير لديهم من أجل تغيير تراكمي في المجتمع بل من أجل تغيير المجتمع وإحداث رجة ينفذون من خلالها الى السلطة. الفرق كبير بين أن تحدث تغييراً في المجتمع وأن تسعى لتغيير المجتمع كله. جميعهم تشبهوا بالاستبداد إذ لم يأخذوا المجتمع بعين الاعتبار. نهجوا طريق الانقلاب. ما سعوا كي يواكبوا تطوّر المجتمع بل الى قيادته باتجاه يريدونه. الأهم أنهم لم يعرفوا ما يناسب أو لا يناسب المجتمع. هم يريدون مجتمعاً يخضع لهم وحسب. أنكروا السياسة والتراكم والانفتاح. كان المجتمع قبلهم على انفتاح كبير. لم يوافقهم. انفتاح كان يقود الى التقدم. وكان المجتمع قابلاً بالتقدم والتعددية. منذ أواسط القرن العشرين سكّروا هذا الطريق. وعندما انفجرت ثورة 2011 وقفوا مع أنظمة الاستبداد لأن بنيتهم الفكرية هي والاستبداد سواء. مجتمع محافظ، نعم، لكن من قال أن التقدم أو حتى الثورة يقوم بها إلا المحافظون اجتماعياً! ما أدركوا أن المجتمع يحتاج الى وصفات أخرى، وهو على أتم الاستعداد للتغيير، لكنه رافض لوصفاتهم.

الدين العميق تنتج عنه محافظة وتثاقل تجاه التغيير الفجائي، لكنه قابل ومستعد دائماً للتدرج والتراكم. بينما النخب لا تفهم مجتمعها، أو هي لا تكترث للناس، بمقدار ما تكترث لقضيتها. وعلى الناس بنظرها مطابقة هذه القضية.

الدين العميق طاقة هائلة متى كانت الظروف مناسبة. وقفتهم مع عبد الناصر ضد الإسلام السياسي دليل على ذلك. لم يجد الإسلام السياسي إزاء ذلك غير تكفير المجتمع. ساهم الإسلام السياسي، بمختلف أطيافه، في وضع حد للنهوض الثقافي الذي بدأ في القرن 19، وذلك في النصف الثاني من القرن العشرين. المزاج الديني الذي انتشر بعد ذلك كان رداً عليهم، رافضا لهم، لا استجابة لهم. وكأنه يقول نحن على الإسلام لا الجاهلية. والجاهلية الجديدة أنتم. أصحاب تكفير المجتمع والداعون الى هدايته، ينكرونه ويتهمونه بما ليس هو.

الدين العميق هو المجتمع ولو سمي تراثياً محافظا، لكنه لا يرفض التغيير، ولا التقدم، ولا الحداثة، ولا التعددية، بل يرفض أشكالها التي ورث أصحابها مقولات الكولونيالية، وتبنوها ولو بتعابير أخرى. الدين العميق كان مع ثورة 2011. أصحاب الإسلام السياسي وقفوا مع الاستبداد والثورة المضادة.

يقدم أصحاب الدين السياسي شعارات سلطوية جوهرها ديني عندما تنشب الثورة، وفي كل الأوقات. يحتفظ أصحاب الدين العميق بإيمانهم وطقوسهم. ويطرحون للثورة شعارات سياسية. يحتفظون بدينهم وإيمانهم المطلق بالله. يعرفون أن الثورة عمل سياسي، تطرح للتداول مسائل غير دينية، وتتطلّب حلولاً فيها كثير من التسويات والتنازلات عن المطلقات والقبول بأقل ما يفترضه الحق المطلق. الدين للإيمان والسياسة للتداول والحوار والنقاش. يعرفون كيف يحافظون على دينهم وإيمانهم ويمارسون السياسة. إيمانهم ينبع من ضميرهم وهو سر بينهم وبين الله؛ السياسة للعلن في نظام ديمقراطي أو للمداهنة في نظام استبدادي. ما يبدو من انتشار المزاج الديني وغلبة الطقوس هو رد على الدين السياسي لا انصياعاً له.

لا شك أن هناك مشكلة في المزاج الديني الشائع لكن الحل والعودة الى سبل التقدم، لا تكون مع الإسلام السياسي، بل في مواجهته. الخلط بين السياسة والدين ليس إعلاء من شأن الدين، بل العكس، وهو في نفس الوقت ابتذال للسياسة.

الدين العميق هو علاقة بين الإنسان والله بينما الدين السياسي هو علاقة (أو مجموع علاقات) بين الناس. الدين العميق هو علاقة عمودية بينما الدين السياسي هو علاقة سطحية. الأول يسبر غور الإنسان، والثاني يبقى علاقة على السطح.