4
Apr
2018
3

المجتمع المفتوح

المجتمع المفتوح هو المجتمع الذي تتشكّل فيه السياسة في الساحة العامة، لا في الأروقة المغلقة. هو مجتمع العلانية لا الأسرار. هو المجتمع الذي يناقش فيه الأفراد ويختلفون، ويتساءلون، ويشكون، ويرفضون، ويتكلمون بصوت عالٍ من دون خوف من رقيب. هو الذي يهاجمون فيه السلطة ويمتدحونها حين تستحق ذلك، وهذا قليل. هو مجتمع النقاش المفتوح حول كل شيء بما فيه السلطة الدنيوية والسلطة السماوية، حيث لا يبقى هناك مقدسات مفروضة. لا مقدس في هذا المجتمع سوى الإنسان الذي تنبع منه الأفكار، وتنتهي إليه الأفعال. طوباوية المجتمع المفتوح تتيح لكل فرد أن يفصح عما عنده، وأن يناقش فيه، وأن يحاور الكبير والصغير. هو المجتمع الذي لا يتوقف عند حقائق نهائية أو مقدسة. ما يُعتبر حقيقة اليوم ويثبت خطؤه غداً بالتجربة والعقل يُرمى الى سلة المهملات. المجتمع المفتوح هو مجتمع التجربة والخطأ. اخضاع ما نؤمن بحقيقته للتجربة وازالته من الدرب حين يثبت خطؤه. الخطأ والصواب نسبيان.

لا نستطيع ولوج العالم والانخراط فيه بمجتمع مغلق. المجتمع المغلق عنده ثوابت فكرية يعتبرها ايمانية مقدسة. ثوابت لا يرقى إليها الشك ولا يجوز النقاش فيها. نغلق على أنفسنا فنختلف ونتأخر ونحكم على أنفسنا بالدونية. عنصرية ذاتية، عنصرية مضادة، نمارسها على أنفسنا. هي حكم على انفسنا بأننا تخلفنا عن ركب العالم. ولا نستحق الوجود فيه. نحكم على أنفسنا بعدم الاستحقاق وعدم القدرة على الانجاز. نخالف العالم، نرتكب ما هو غير قانوني، وما لا يتماشى مع مسيرة العالم.

يحكمون علينا بالإرهاب والتكفير، ليس بسبب الاختلاف في الأفكار، بل لأننا خرجنا على المسيرة العامة. خالفنا قانون الصيرورة. صارت الصيرورة في مهب الريح.

في المجتمع المفتوح ليست حرية الرأي والكلام هي القيمة الوحيدة، بل هي الحرية الاجتماعية والسياسية: هي حرية التفكير. هي الحرية في أن نتجاوز أفكارنا الموروثة وثوابتنا المقدسة. ليست هي مجتمع الحداثة. الحداثة المعطاة والمصنوعة لنا: هي الحداثة التي نصنعها نحن.

الحريات في المجتمع المفتوح أسلوب حياة. لا يمنحها الحكام للمواطنين. فهي ليست منّة، ولا يطالب بها الناس لأنها ليست مفقودة. هي طبيعة العلاقات بين الناس. الفرد فيها يمارس حقيقته، ويعتمد على ضميره، ويقرر بنفسه. هو المجتمع الذي يتكلم فيه المواطن لغة واحدة، وليس لغة للغرف المغلقة وأخرى للعموم؛ ليس مضطراً لإخفاء آرائه وعواطفه أمام من لا يعرف؛ خاصة وأن من لا يعرف يمكن أن يكون أحد الرقباء، الذي يمكن أن تقود العلاقة به الى ما لا تحمد عقباه. في المجتمع المفتوح أنت أنت في الداخل والخارج. لست بحاجة الى انفصام الشخصية. الحياة الخاصة  في المجتمع المفتوح حاجة شخصية، للمتعة أو غير ذلك؛ هي خيار لا إجبار. الحياة الخاصة في المجتمع المغلق حاجة أمنية. أنت مضطر لأن تخفي عن الرقيب ما يعتبر مهدداً للأمن، أي مخالفاً لرأي الحزب والطاغية.

حقيقة الأمر أن الحياة العامة والحياة الخاصة في المجتمع المفتوح تفصل بينهما الأخلاق والضمير. تمارس في السر والعلن ما يحتاج الى السرية أو العلنية، حسب حاجاتك. الأخلاق تنبع من ضميرك. التمييز في المجتمع المغلق، الفصل بين العام والخاص لا ينبع من ضميرك بل من احتياجات تفرضها عوامل خارجية عليك. ينتفي دور الضمير. يُلقى الضمير. يصير المرء محتالاً من دون ضمير. أنت مضطر للاحتيال من أجل العيش في مجتمع مغلق؛ لا تستقيم حياتك الخاصة إلا إذا كان المجال العام الذي يتحكم به الرقيب راضياً عنك. تضطر للاحتيال كي يرضى عنك.  المجتمع الذي اقترحه أفلاطون مكروه لدى كارل بوبر لأنه يوجه الفرد من الخارج، خارج الضمير.

المواطن لا يكون مواطناً إلا في مجتمع مفتوح. الدولة الحديثة لا تتحقق إلا في المواطن. المواطن الحر ذو الضمير والذي يتصرف بناءً على ما يعتقده صواباً، والذي يطبق القانون لا لأنه مفروض بالقوة بل لأنه نابع من ذاته، يمثل ذاته، يمثل الطريقة الفضلى التي يعتبرها كذلك، هو المواطن الذي تتجسّد فيه الدولة. الدولة منغرزة في ضميره، وهي جزء منه؛ ليست مجرد سلطة. المواطن هو السلطة؛ الديمقراطية تحصيل حاصل. ممثلوها في البرلمان لا يمارسون بالنيابة عنه بل بالتعبير عنه. النقاش المفتوح يؤدي الى استنتاجات، يجعلها أهل السلطة قرارات. لا تقرر السلطة رأي الناس ولا طريقة عيشهم، بل هم يقررونها. السلطة ليست من أجل خلق القرار بل من أجل صياغته بعد أن تبلور في السياسة، في المجال العام نتجية الحوار، والنقاش، والتسويات.

المواطن في المجتمع المفتوح فرد تتشكل منه الدولة. الطوائف، والعشائر، والعائلات الموسعة ليست تشكيلات اجتماعية وسيطة بين الفرد والدولة. هي جماعات ضغط أشبه بجمعيات المجتمع المدني. رأيها مسموع إن كان له صدى لدى السلطة. يستطيع المرء ان ينتمي للدين الذي يشاء؛ هو الذي يحدد الدين أو المذهب الذي ينتمي إليه. ويستطيع أن يغيّر هذا الانتماء متى يشاء. ليس هناك حق الردة أو عدمها، ولا عقوبات عليها. ولا الانتماء الى عشيرة أو اثنية سوى نوع من الفولكلور. هناك المواطن من جهة والدولة من جهة أخرى. السلطة، أي أجهزة الدولة، هي الوسيط الوحيد بينهما، وذلك حسب قوانين يرسمها المواطن.

القانون في المجتمع المفتوح يضعه المواطنون. لا تفرضه قوة خارجية ولو كانت الهية. القانون طريقة عيش وليس قوة زجر وقمع. ليس القانون موضوعاً لمعاقبة الناس بل لمعاقبة المخالفين. القدرة على الضبط يختارها المواطن.

مأزق الدين الإسلامي والمجتمع المفتوح

يجتمع المسلمون نهار الجمعة للصلاة. وكذلك يومياً. نشأت بينهم وبين الدين علاقة حميمة أدت الى انتشار شعار “الإسلام هو الحل”. انتشر هذا الشعار بين غير الاخوان المسلمين من الصوفية والسلفية. من دون الدخول في تفاصيل الخلافات بينهم إلا أنهم جميعاً في علاقة يومية مع الله؛ يتجدد العهد مع الله. يصير الشعار مقبولاً رغم اعتراضات الكثيرين من الإسلاميين وغير الإسلاميين. إلا أنّ الصلاة اليومية في الجامع، إضافة الى صلاة الجمعة، وهي ليس ما يشابهها في الأديان الأخرى، تنقلب احتكاكاً يومياً مع هذا الشعار، وتأثراً به بشكل أو بآخر. توسعت السلفية بكثرة: اعتبر المسلمون أن تطبيق الشعار  هو العودة للعيش حسب السلف الصالح. صار الماضي دليلهم. تخلّوا عن مجتمعهم في سبيل ماضيهم. تخلّوا عن التاريخ إذ لم يعتبروا الماضي فترة انقضت بلا عودة، وأن الحياة الجديدة تطوّر جديد يفرض نفسه. انغلقوا على الماضي ولم يعد الحاضر يعنيهم إلا بمقدار ما يكون سلوكهك طريقاً للخلاص.

إذا كان الإسلام هو الحل فلينغلق الإسلام على نفسه، وليفتش عن حلول في كوامنه، وسيجدها. وضع الشعار المسلمين أمام أنفسهم لا في لحظة تقتضي البحث عن الحل خارج الإسلام، كما كان الاعتقاد خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وصاروا يبحثون عن الحل أو الحلول داخل أنفسهم، وما عادوا ينظرون الى الخارج. تقوقعوا، أغلقوا الباب على أنفسهم. لم تعد علاقاتهم مع غير المسلمين علاقة بحث وتبادل. حتى الحوار الديني صار بين جماعات مغلقة. انعزل الإسلام وانعزلت بنتيجة ذلك الأديان الأخرى، وصار الحوار على الأطراف. لم يعد عيشاً مشتركاً بل عيشاً متسامحاً. ألصقت بالدين تهمة المحبة والتسامح، وهو غير ذلك. ولولا ضرورات الحوار لم تلصق هذه التهمة بالإسلام والأديان الأخرى. صار مستحيلاً قيام مجتمع مفتوح سواء كان الحكم ديمقراطياً أو ديكتاتورياً. شعار الإسلام هو الحل هو شعار الانغلاق حول الذات عند المسلمين. وكرد فعل عند الأديان الأخرى، صار الحوار مع الأطراف بادعاءات المحبة والتسامح، لا حسب ضرورات المواطنية والعيش المشترك. لم يعد أصحاب الأديان قادرين على النفاد الى الأديان الأخرى. صار كل منهم مختصا بدينه. أصحاب كل دين يناقشون كل دين من جماعتهم فقط. لم يعد الدين موضعاً للنقاش. لم يعد ممكناً تطوير المجتمع، بحيث يصير البحث الديني ممكناً. صار التبرير الايديولوجي هو الأساس. كل يبرر دينه كما هو، ويستنبط منه بعض مقاطع للتصدير. زال تشابك الأديان، صار اللقاء على الأطراف. تخصص بعض العلمانيين من كل الأديان في شؤون الحوار؛ الحوار على الأطراف. واستفحل النفاق المتبادل بينهم.

صار النفاق هو الأساس في كل دين. يعتبر أصحابه أنه هو الحل. الحل النهائي. فلنبحث في حناياه عن الحقائق. تحوّل الأمر من البحث في المجتمع وأساليب تطويره الى البحث في الدين وتطويره. لم يدرك الباحثون أن الدين لا يمكن تطويره، وأن المجتمع يمكن تطويره مع الحفاظ على الدين كحقيقة ومجاز، مع تغييرات وتأويلات تتيح المجال للتجاوز.

انغلق كل مجتمع ديني على نفسه. وصارت التحديات المقابلة هي موضوع الحوار والتبادل. وتحوّل البحث من أساس الدين الى التبرير الايديولوجي الذي أنتج الإسلام السياسي بجميع أطيافه الاخوانية، والسلفية، والصوفية، وما نتج عنها من جهادية تستند الى جوهر الدين. جوهر الدين ليس ما يتحدثون عنه في جلسات الحوار بين الأديان، بل هو في الدين ذاته. جوهر الدين لم يعد مشتركاً، بل داخل الجماعة المتقوقعة قوقعة عنصرية داخل ذاتها. صار الطريق الى الجنة مفتوحاً عن طريقة الطائفة والتطرف لا عن طريق المجتمع وتقدمه. أُهملت دراسة المجتمع وسادت دراسة الدين. في دراسة المجتمع تكتشف حقائق جديدة. في دراسة الدين لا تكتشف الحقائق، إلا ما في بطون ومتون الكتب القديمة. صار الإسلام كله سلفياً، عن قصد أو غير قصد. وصار المجتمع مغلقاً على نفسه وعلى العالم. حكم المسلمون على أنفسهم بالعزلة. وهذه عنصرية مضادة. دونية تفرضها الذات على نفسها. انبهار بالتقنية من دون العلم الحديث. تكرار لما هو معلوم. عزوف عن الاكتشاف والمغامرة. تراجع عن النزق الفكري. انقماع ذاتي يفرضه المثقفون على أنفسهم.

المجتمع المغلق هو الذي يدور حول نفسه ويرفض العالم الخارجي. المجتمع المفتوح هو الذي يدور حول خارجه ويقبل الانخراط في العالم.

فرض شعار “الإسلام هو الحل” وعياً على المسلمين يقضي بالاكتفاء بالذات كطريق للخلاص. الخلاص لا يحدث إلا عن طريق هذا الدين. الجار من طائفة أخرى ليس له طريق الى الخلاص. محكوم عليه بجهنم في السماء، أو الإبادة على الأرض، أو على الأقل الهداية. جهنم محجوزة لمن لا يهتدي.

لم يعد الإسلام علاقة بين الفرد والله. صار علاقة بين المجتمع والله. لم يعد الفرد قادراً على أن يكون مواطناً، ولا الدول تصير دولة حديثة. طريق الخلاص مؤمنة بتقليد السلف الصالح ولا لزوم لمتاع الدنيا. السلف الصالح في السماء. ليس على الأرض جدوى من العيش سوى هداية من اهتدى، وإبادة من لم يهتد لكي تمهّد طريقه الى جهنم.

صار الوعي الإسلامي آخروياً يبيح الجهادية والقتل والإجرام. لم تعد التنظيمات الإسلامية جماعات معزولة، بل يدعمها الوعي السائد.

أشاح المسلمون أنظارهم عن المجتمع فوقعوا في المحظور. حدثت ثورة 2011، ووقعت بين شعار ” الإسلام هو الحل” وبين الطغيان. سيطر الطغيان كثورة مضادة. والأمر يتطلّب العودة الى المجتمع والغوص في أعماقه من وجهة نظر العلوم الحديثة؛ من وجهة نظر التجاوز.

يدعي بعض الإسلاميين الحداثيين أن التقدم يحدث بالعودة الى الكتاب المقدس. لم يضعوا نصب أعينهم أن الكتاب المقدس لا يمكن الأخذ به إلا مجازاً، وان ما يستحق البحث، إذا أُريد التحرر، هو البحث في المجتمع على أساس المناهج والعلوم الحديثة. بقي هؤلاء يكسرون رؤوسهم في تفسير الكتاب المقدس على أسس ادعوها أنها علمية حديثة، وهذا خطأ كبير، بل جريمة. واعتكفوا عن البحث في المجتمع. وكان ذلك خدمة للطغاة، وتسييداً لفكر سطحي تبريري حول الدين، وغياب كامل عن المجتمع. تُرِكَ المجتمع للطغاة وأحزابهم. وتُرِكَ الميدان لمن يريد العبث بالمجتمع (والدين).

هذا البحث عن الدين الصحيح غير مجدٍ. الدين مكتمل منذ خطبة الوداع. المجتمع هو الذي يطوّر نفسه من دون ابتعاد عن الدين. المهم هو تطوّر المجتمع نحو احترام ذاته واحترام الكائنات الأخرى والأخذ بها. لم يعد ذلك وارداً. حكمنا على أنفسنا بالانغلاق. الدين الصحيح وهم في دماغ أصحابه. تعبير يستخدم لإرضاء الغير ونهايات الحوار. كل ما يرتكبه المدنيون يرتكز على بعض الدين. وفي الدين تطرّف واعتدال. ولا ندري أيهما الصحيح.

الانفصال بين النخبة ومجتمعها، سواء كانت نخبة علمانبة أو دينية، فاقمت الجهل بالمجتمع، والاستعلاء عليه، واعتباره قطيعاً وراء من يقوده. لم يكن في القرن العشرين غير عبد الناصر يفهم شعبه المصري والعربي، عموماً. ويصوغ السياسة والسياسات على هذا الأساس.

في المجتمع المفتوح تتصارع النخب. تنشأ مقدسات جديدة، أو تُلغى المقدسات في مجتمع علماني. تتبارز النخب بالأفكار مما يعني تطوّر المجتمع والفرد. يصعب تصوّر مجتمع يتطوّر من دون أفكار تشعل نار عقله، ودون حوارات تؤدي الى القلق والتساؤل والشك. العقل المستريح ينشأ عنه وعي مستسلم ومجتمع مستنقع. يدور المجتمع المغلق حول نفسه، يستعيد الأفكار المكرورة، يستنقع، يصير راكداً. يفقد قابلية التقدم. لا يتطوّر المجتمع إلا عندما يضع نفسه خارج ذاته وخارج ماضيه؛ وإلا عندما ينظر الى نفسه من الخارج. عندما تنظر الى نفسك من الداخل لا تجد إلا القديم والسلف المستهلك. مجتمع يستهلك ذاته، ينتحر؛ اللجوء الى الدين الخلاصي، الى الخلاص بالدين، يصير حتمياً. الخلاص أشبه بالانتحار. معنى الخلاص متضمن في تعبير الموت. الخلاص من هذه الأرض وما عليها. بالموت يستر المجتمع عورته. ينتهي من أزمته. يدفن رأسه في الرمل. فكأن لا هزيمة ولا تأخر، تأخر يؤدي الى الهزيمة.

توقف العلم. لم يبق إلا التفاعل مع الله؛ صار القرب منه نتيجة حتمية. بالموت نظن أننا نقترب من الله. بالدوران حول أنفسنا نحكم على أنفسنا بالتأخر والموت. تفاهة الجماعات جعلت الأمر ممكناً. لم تعد جامعاتنا نخبوية.

الخلاص الوحيد على هذه الأرض هو أن نكسر الدائرة؛ نزيل الحلقة التي ندور فيها. نواجه الخارج. نندمج فيه. نصير من العالم. نستوعب العالم في ذاتنا.