24
Sep
2021
0

المحافظون الجدد الإسلاميون

الروح المحافظة لدى السنة والشيعة واحدة. في كل منهما يُجرّد الإنسان من إرادته. أحداهما تخضعه للجماعة المعصومة وثانيتهما للإمام المعصوم أو من يليه. في كل حالة، على الإنسان أن يجرّد نفسه من ذاته. كل منها يخيف أبناءه. يزرع في الانسان الخوف من الحرية. يدفعه الى السكن في الماضي. يخاف من التجدد. المستقبل يرعبه. فاقد الثقة بنفسه. يريد مرجعا خارج ذاته. يطلب الطمأنينة من غير روحه الساكنة. فاقد السؤال والتساؤل. يغلب عليه اليقين. يخفف السعي والعمل كي لا يرتكب خطيئة. يكره الاعتراف بالواقع. متلهف للنصر. يضطر لاختراع النصر من أتفه الحوادث. لا يعتقد أن في الأمة العربية أو الاسلامية ما يستحق النقد الشامل إلا ما هو معاصر أو من تلوّث بالعالم المعاصر.

تفيدنا تجربة أفغانستان. الروح المناضلة عند الإسلاميين الأفغانيين تستحق الاحترام.  لكنها تصلح لحرب تحرير وطنية.  ومن المشكوك فيه أن تصلح للسلطة وارساء أسس الدولة الحديثة، أو أية دولة من أي نوع كانت. ما يعتبرونه فوق الدولة هو الأساس. مرجعية عليا لا يعرفون عنها شيئاً إلا ما في كتب السلف الصالح. مرجعيتهم ليست من أنفسهم. ليست من ذاتهم. الذات أصلا مكرّسة  للمرجعية العليا. بين قطب الأرض وقطب السماء. يختارون قطب السماء. ويجيدون القتال من أجله. ضعفهم هو في الداخل. داخل مجتمعهم وداخل ذواتهم.

لماذا هذه الروح المحافظة؟ هي ليست فقط روح ما انقضى وفقدان الأمل بالعودة، أو الثبات على أمر كان وزال لكنه لم يزل في وعيهم مسيطرا عليه. هي روح الأبناء لجيل أصيب باليأس بسبب ما لم يستطع أباؤهم تحقيقه. أبناء هذا الجيل من الآباء الشيوعيين والتقدميين والإسلاميين يعتقدون أنك يجب أن تحقق ما يتاح لك تحقيقه دون القيود الأخلاقية والسياسية التي فشل أباؤهم بسببها. هم وقعوا في أحضان الليبرالية الجديدة التي تغرقهم بفقدان القيم، إلا قيمة المال. وبتهديم الدولة التي كانت عبئا على الجيل الي سبقهم. إذا كان لآبائهم قضية، فهم قضيتهم أن لا يكون لهم قضية. يثأرون من الحاضر (الماضي القريب) كما تثأر الأقليات من الماضي القديم. التاريخ لم ينصف آباء هؤلاء، كما أن الزمن المعاصر لم ينصف أولئك. يجتمع هؤلاء وهؤلاء على الحقد على التاريخ والحاضر الذين لم ينصفونهما. تنصفهما النيوليبرالية بأنها الإيقاع بالدولة، والإيقاع بالماضي باسم الحاضر، والإيقاع بالحاضر باسم ما سيكون. ما سيكون ليس مهما بالنسبة لهم. يكفيهم أن يفككوا الحاضر، دولة ومجتمعا، ليصار الى بناء ما سيكون. لديهم دون كيشوت جديد. هو المعبود الجديد لديهم لا لشيء إلا لأنه ولأنهم يدعون أنه “آدمي”، بمعنى أنه لا يفعل شيئاً. الحجة أن خصومه كانوا عقبة في وجهه. هو وهم الأخلاق التي تتجسّد فيه وفيهم ولا ينبغي لأحد أن يناقشهم ويناكفهم. لا يتحملون المناكفة. وقد عبّر عن ذلك وزير إعلامهم الجديد. هم يشبهون المحافظين الجدد الأميركيين في الاعتقاد بالاستثنائية والاستبعادية والتعالي والتسامي. هم ورثة من أسس لفرادة لبنان، والشطارة اللبنانية، والقدرات الخارقة للبنانيين، وخلود التاريخ منذ الفينيقيين فيهم. يعتبرون أنهم يستطيعون استخدام أصحاب العمامة كما استخدم المحافظون الجدد الأميركيون التبشيريين الأميركيين. ليست كبيرة النقلة من تحت عباءة الماركسية الى تحت عباءة الدين. الدين لديهم ليس معياراً أخلاقياً، كما لم تكن الماركسية معياراً للثورية. المعيار الوحيد لديهم كارزمية صاحب العمامة، وصاحب النجوم العسكرية على أكتافه المثقلة بهم. وفي الحالتين انتصارات وهمية وانجازات لم تتحقق. تغنى الوزراء المستلمون والوزراء المسلِّمون، بما لم يتحقق، وأرجعوا تفاهة ما تحقق وما سوف يتحقق الى من ينافسهم على السلطة. هم في الحقيقة أتباع كبش الطائفة. استسلموا وسلموا أمرهم إليه. عزفوا عن ممارسة السياسة. الأكباش وحدهم يمارسون السياسة أو يحق لهم ذلك.

العزوف السياسي سمة بارزة عند المحافظين الجدد الإسلاميين. يتسرب هذا العزوف الى كل المجتمع. الركود السياسي. المزاج غير السياسي يفرضه حكم الملالي في إيران باسم ولاية الفقيه (الفقيه يفكر عنهم)، كما يفرضه طوعا طغيان ثقافي عند السنة في بلدان المسلمين قاطبة، كأن لدى السنة حياء من التورّط في السياسة؛ يتمنون قائدا فردا ظالما أو عادلا يتولى الأمر لهم وينقذهم. تتحوّل الثورة الى نضالية متقطعة تتخللها فترات طويلة من الركود. كلما قام المجتمع بثورة ضد حكم الاستبداد تستلم الدفة، لكتابة الدستور الجديد، فئة من العلمانيين الذين يخضعون للإسلاميين السياسيين، وتصوغ فئات منهم الدستور الجديد أجهزة الحكم الجديدة قبل أن يحكم هؤلاء. وسرعان ما يكتشف المجتمع أنه بحاجة الى ثورة جديدة. ثورة على الثورة؛ منها يتسلل العسكر الى السلطة؛ ويعود المجتمع الى حيث بدأ. لم يدخل في روح الثورة بعد أن الثورة الحقيقية ليست فقط ضد من هم في السلطة السياسية، بل هي ضد السلطة الذاتية في الرأس. ثورة في الوعي. إن الثورة ضد السلطة السياسية لا تحقق أهدافها إلا إذا كانت متزامنة مع ثورة أخرى في الوعي ضد الخوف الثقافي اياه الذي منه انبثقت.  الثقافة الموروثة تعلي شأن العزوف السياسي. تضع كل ثورة أمام مأزق التناقض: تناقض أنها ثورة سياسية ضد الظلم لكن عقلها هو عقل الظلم الذي يعتبره أمرا طبيعيا، كما في الماضي.  المطلوب ثورة على الماضي من أجل العبور الى التاريخ. الثورة الحقيقية لا تكون بجماهير غاضبة من أجل عصمة الفقيه أو عصمة الأمة. الثورة الحقيقية تحطّم وتدمّر كل عصمة ما عدا عصمة البشرية والإنسانية. مبدأ الإجماع السني أساسه مبني على عصمة الأمة (لا تجتمع أمتي على ضلالة). أليست الأمة مهزومة؟ أليست الهزيمة ضلالة؟ نكذب على أنفسنا في حالتنا الراهنة كلما صنعنا من الهزيمة نصراً، وكلما حققنا نصرا في زاروب أو صمود وراء جدران نحتمي بها، نتوهم أننا نحقق نصرا شاملا وإلهيا. النصر ليس في الصمود، ولا في المواجهة وحسب، بل هو في كسر إرادة العدو. ونعني بالعدو الامبراطورية الأميركية واسرائيل. لم نحقق بعد نصرا بالمعنى المقصود هنا. علينا أن نفتش عن أفكار أخرى ووسائل أخرى غير التي تعودناها منذ أحمد الشقيري مرورا بالمقاومة الفلسطينية ثم المقاومة الإسلامية. هذه مقاومات تحقق انتصارات محلية. هي في الحقيقة انتصارات على شعوبنا (لترسيخ الاستبداد والدفاع عنه)، وليست مقاومات حقيقية ضد العدو الأميركي والإسرائيلي.

الثورة على المجتمع يمارسها هؤلاء: الغرب الذي يدعي محاربة الإرهاب والتطرّف الإسلامي. ثورة تأتي من خارج المجتمع، وهي أشبه بحرب إبادة. الثورة المطلوبة هي ثورة في المجتمع، داخله، في وعيه وعقله؛ في نخاعه الشوكي. ليست ثورة على نحن، بل ثورة في نحن ضد نحن. ثورة في الوعي ضد الماضي باتجاه أن يشكّل تاريخا. الثورة على التراث وعلى الماضي تتطلّب أن نكون داخله وخارجه في آن معاً. أن نكون داخله كي نفهمه؛ وخارجه كي نمارس النقد الجذري ضده. بذلك نعطيه حياة لا كتلة جامدة أشبه بالموت، بل حياة بمعنى أنه يتطوّر ويطوّر نفسه ويخرج من ذاته باستمرار. لا يبقى التراث حياً والماضي حيا إلا بأن يتجاوز نفسه باستمرار لمدة قرون طويلة. يمكن الاستعارة في ذلك من مختلف الثقافات التي تجاوزته أو سبقته. لم يجزع من الخارج ولا من الروافد الثقافية الخارجية لأنه كان واثقا من نفسه. لم تكن عنده عقدة الدونية. لم يذل نفسه ولم يتقوقع داخل قفص ذاته. اختصر كل الحضارات أو الثقافات البشرية في ذاته وأعطى الإنسانية ما أعطاها. لم يتخوّف من الثورات الداخلية ضده. لا من الخوارج، ولا الشعوبية، ولا الزندقة، ولا المعتزلة، الخ… على العكس اعتبر كل ذلك جزءاً منه. لم يختصر المجتمع نفسه الى سنة وشيعة (ثم صوفية) إلا بعد ما بدأ يخاف من الخارج وتتخاذل روحه، ثم ساد فكر يشبه المحافظين الجدد، الذين يريدون المحافظة على ما لا يمكن الحفاظ عليه. ما يريدونه هو إحياء الموتى، والانكفاء الى الداخل، واختصار الإسلام في سنة وشيعة. هو حرب أهلية متواصلة. أنهى الأوروبيون حروب الكاثوليك والبروتستانت التي دامت قرنا ونصف بقرار سياسي سمي صلح وستفاليا. محاولتنا البائسة للصلح كانت فاشلة. حاولنا أن نصلح ذات البين بالتقريب بين المذاهب. محاولة بائسة، أنيط لأصحاب العمائم القيام بها، وكان لهم مصلحة في أن تبقى الخلافات. بالسياسة لا بمناقشات دينية ننهي خلافات دينية أودت بنا الى حروب أهلية طويلة؛ حروب بالسلاح وحروب قمع الوعي. المجتمع غير الواثق من نفسه يحاول رتق الفتوق بالتقريب بين المذاهب. المجتمع المتماسك الواثق من نفسه يبقي على الفروق بين المذاهب، ويحافظ على تعددية ويعتبر التعددية مصدرا للوحدة لا للانشقاق. المفترقون يتوحدون لأنهم يعون الفروق فيما بينهم. السعي وراء التشابه يعبر عن خوف مما نعتقد به؛ خوف مما نحن فيه. علينا أن نسمع ونعي أراء المختلف كي نفهم وتتوسع مداركنا. عندما نسمع آراء الغير وكأنها الصدى لآرائنا ومعتقداتنا يصيبنا الركود والتخثّر. في الزمن الراهن يخافون آراء المخالفين من أهل دينهم كما يخافون من ثقافة الغرب. لا يرتقي العقل إلا من خلال سماع واستيعاب المختلف. عندها تكون الأسئلة حول ما نعتقد، ويكون التطوّر لما نعتقد.

لم ترف عين الغربيين من تعلّم بعض أصول الملاحة من ابن ماجد وابن المجاور، عندما بدأوا “اكتشافاتهم” لآسيا والأميركيتين. طبعا ابتكروا فيما بعد وزادوا على ما تعلموا. لم تنفر أنفسهم من الجديد بل تبنوه وبنوا عليه. هذا ما لا نفعله. وهل كانت الحضارة الإسلامية (العربية) سوى تجميع لحضارات سابقة وزادوا عليها ابتكاراتهم. ما خافوا من الجديد بل استوعبوه، وانطلقوا به ومنه الى آفاق جديدة.

اكتفى العثمانيون والصفويون بالتجديد العسكري. وأغلقوا الباب في مجالات الحياة الأخرى: العلمية، والفلسفية، والاقتصادية. فأصيب مجتمعهم بالركود والجمود ثم التأخّر. بقوا أقوياء عسكريا  حتى القرن السابع عشر (آخر مرة حاصر العثمانيون فيينا كان في عام 1683) لكنهم كانوا قد أصيبوا بما يشبه الشلل في نواحي الحياة الأخرى. ليست المشكلة في الإسلام، ولا في الدين ولا في مجتمعاته. وليس مكتوبا في اللوح المحفوظ أن هذه الرؤية الدينية المحافظة سوف تدوم، ولا المجتمعات الإسلامية ستبقى منغلقة على ذاتها، ولا أن تبقى متأخرة متخلفة. انفجار هذه المجتمعات من الداخل سيأتي حتماً؛ ثورة المسلمين على أنفسهم لا بد منها. بدأ الأمر مع الثورة العربية عام 2011، وانقضت الثورة المضادة عليها. المنظومة الحاكمة في بلاد المسلمين ستجد نفسها عاجزة أمام جحافل التغيير. ستفعل كل ما في وسعها لإبقاء حال المسلمين على ما هي عليه. التغيير حتمي. وسقوط المنظومة الحاكمة ومعها مزاج العزوف السياسي لدى السنة والشيعة أمر لا بد منه.

شرط كل ذلك سقوط المظلومية في وعي المسلمين. يرون أن الغرب وبقية العالم يعاملهم بظلم وسخرية. ويرون في قراءة أنفسهم أنهم في أسوأ أحوالهم نتيجة المواجهة، خاصة الثقافية، ثم السياسية والعسكرية والاقتصادية مع الغرب. ليس المطلوب الانهزام أو الاستسلام، وليس المطلوب أن يعتبروا أن ما يصيبهم قدر لا بد منه. المطلوب أن يستمروا في المواجهة لكن بطرق مختلفة. التخلّف والتأخّر والانغلاق لم يرفعه عنهم الغرب. هم فقط من يرفع هذا النير عن رقابهم. عندما ينفتحون على العالم وعلى أنفسهم، ويتحررون من ماضيهم ويعتبرونه تاريخا. السكن في الماضي استنقاع. التاريخ تطوّر وتقدم. هم وحدهم من يستطيعوا أن يصنعوا تاريخهم. الدفع لذلك سيأتي ولا بد أنه سيأتي، من داخلهم، من داخل وعيهم المتجدد.