21
Apr
2017
1

الواقعية: فساد الروح العملية وانتشار الشطارة

كثيراً ما يرد في خطاب ذوي “الروح العملية” طلب النزول الى “أرض الواقع” من أجل اكتشاف الحقيقة او الحقائق، سيان. يُطلب ايضاً التوقف عن الاحلام والامتناع عن التفلسف والتنظير. واقعية هؤلاء تعاني مشكلة مع الوقائع. عندها “وقائع بديلة” تُفرض عليها، تمليها السلطة. يبنى الفكر “الثوري” في انظمة الاستبداد على الوقائع البديلة، لا لتشكيل فكر بديل بل لتأكيد الفكر السائد. للاستبداد واقعيته، سواء كان استبداداً دينياً او سياسياً.

تتطلب هذه الواقعية ان نكون تجريبيين، بمعنى ان نراقب الاحداث كلاً على حدة، فلا نربط الاسباب بالنتائج، ولا نعلل ولا نحلل، لا نربط بين الاحداث نفسها كيلا نستخرج منها المبادىء العامة، الفلسفية او النظرية.

النظر الى كل حدث على حدة يمنع إقحام مبادىء الخير والصلاح، او عكسهما. هي معاينة تتم، أو يجب ان تتم، من وجهة نظر واحدة هي الربح أو الخسارة. ينتهي أصحاب هذه المعاينات الى حساب الواقع بغض النظر عن الحقيقة، الى حساب الضرورة المالية ذات الاولوية على المبادىء الاخلاقية، او الكسب المباشر على حساب الرأي وصحته. يحدث هذا في كل المجالات الاخرى، السياسية والقضائية، وحتى الاقتصادية والعسكرية والعلمية. الرأي بالحدث مجرداً عن الاسباب والنتائج يعتمد على حساب الربح والخسارة ولو كان ذلك من فتات المائدة. ويصير صاحب المال (والسلطة) هو الذي يقرر نتائج ومبادىء الفلسفة والأدب والسياسة والامن، وغيرها… مبادىء المال تطغى على كل قوانين المجالات المعرفية.

يفقد الفكر سياقه. تنفلت العلاقة المفترضة بينه وبين قواعده المعرفية والاخلاقية. تقيّم الاحداث لصالح الحاكم وصاحب المال، ان كانا منفصلين، ونادراً ما يحصل ذلك، اذ انهما يشكلان طبقة واحدة بوجوه متعددة. اصحاب المال يستفيدون من السلطة السياسية، وهذه تعتمد على اصحاب المال. العلاقة في غالب الاحيان غير شرعية وغير قانونية. القسر والاكراه دائماً حاضران لفرض تقييم للاحداث يكون في صالحهما. في ذلك ضمان لأن يسير كل التحليل والفكر لصالح السلطة. تصير السلطة هي مركز الفكر. يتحلق حولها وعاظ السلاطين. تصير عبقرية الطاغية، الذي يمنح وسام المعرفة في كل شيء، هي سبب وجود المجتمع. يرفع الطاغية الى مستوى الخالق، او هو على الاقل يمثله على الارض، ولو تناقض ذلك مع رجال الدين.

يضيق مجال العلوم الحديثة. السلطان ومؤيدوه يعرفون كل شيء، او هكذا يخيل اليهم. تتولى الاجهزة الامنية مراقبة كل من يخالف. العلم لا يستخرج من ملاحظة الطبيعة بل ينزل من الطاغية ومن حوله. لا يجرؤ وعاظ السلاطين، ولا الاحرار الذين يهتمون بالبحث عن الحقيقة، الا بالتقيد بما انزل اليهم. يضمر مجال التفكير، يذبل العقل، يسيطر التكرار والاجترار. تتفشى الانتهازية، اذ لايتقدم من الافكار غير ما يناسب ذوق اصحاب السلطة والمال. تسمى هذه الانتهازية دوماً “عملية”، اذ ان المطلوب هو الخلاص وليس الفكر الجدي، والمطلوب ارضاء اهل السلطة من أجل منفعة ما، ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامة وقوانين العلم الحديث. يظنون ان ذلك شطارة. تحل البهلوانيات الفكرية مكان مراكز البحوث التي تلغى ضروراتها.

يزداد نفاق الناس، خاصة بين الباحثين والمثقفين، الدينيين وغير الدينيين. هؤلاء يعرفون فن الكلام، الموضوع هو ما يملى عليهم، او ما يختارونه هم لصالح السلطة. يؤدي انتشار الانتهازية الى تقاعس العقول معرفياً، تتقاعس العقول عن مهمتها وعن السعي وراء المعرفة. العلم مستبعد. التكنولوجيا تستورد من الغرب. مجتمع استهلاكي غير قابل للانتاج بسبب عدم قابليته للتفكير والمغامرة والتجربة وخوض معركة الخطأ والصواب. يموت النزق الفكري. تغيب فكرة الانخراط في العالم. عقل مستريح يفرض على اصحابه نوعاً من العزلة. عنصرية مضادة يمارسها على انفسهم اصحاب المصلحة في مواجهة العنصرية والامبريالية وشتى انواع الاستتباع.

العقل المستريح هو عقل “الروح العملية” و”الانتهازية الفكرية” والتجييش لصالح السلطة لقاء بدل زهيد هو فتات المائدة. اصحاب الروح العملية يحققون اهدافهم المباشرة المتواضعة. يحققون شيئاً لاشخاصهم. يسخرون من اصحاب الاحلام والامال العريضة. هؤلاء بنظرهم منظرون متفلسفون. ما نفع كل ذلك اذا لم يحقق منفعة ما، مهما كانت تافهة؟ هم ناجحون لأنهم حققوا شيئاً ما. الحالمون فاشلون لأنهم لم يحققوا شيئاً سوى الاحلام. الحقيقة التي يبحثون عنها لن تكون في متناول اليد. احلام واضغاث احلام.

تتراجع مكانة الضمير. ليس للفرد الا السعي وراء السلطة كي يحصل على شيء ما. وظيفة بيروقراطية، أو بعض من التكليفات لقاء نزر يسير من المال.

يمنع الحديث بين الناس. تلغى مراكز الابحاث. ربما جاءت هذه بأفكار جديدة، او بمعرفة مغايرة حول المجتمع والسياسة والعلم. هذا خطر على النظام. كل خطر من هذا النوع يستبعد اصحابه الى السجن، او الى المنفى. تجوز بنظر اصحاب الروح العملية السخرية من هؤلاء. يصير الباحثون الجديون والمثقفون الحاكمون موضع سخرية اقرانهم. يوصَمون بانهم غير عمليين، لم يعرفوا كيف “يدبرون انفسهم” والتقاط ما يُرمى اليهم. نظام الاستبداد ويعاقبهم. يستحقون العقاب لأنهم شردوا عن الصراط المستقيم بخروجهم عن الروح العملية أو النفعية.

يستنكف أهل البحث الجدي والعلم والمعرفة عن قول ما بأنفسهم. يضطرون الى مستويين من الكلام. كلام بين انفسهم وكلام للتصدير. الكلام بين انفسهم يحتفظون به خوفاً من الرقباء. الكلام المعد للتصدير كاذب لا يعبر عما في ضميرهم. يتراجع مستوى الاخلاق حتى عند هؤلاء. تكاد نزاهتهم الفكرية تتلاشى تحت عبء الضغوطات. يحكمون على انفسهم بالعزلة. يخسرهم مجتمعهم الذي لا يكسب الا منافقي “الروح العملية” والانتهازيين والشطار منعدمي الذكاء.

الذكاء قابلية للتفكير السليم. هو قوة الربط بين الاحداث وتحليلها وتعليلها. تتعطل هذه الملكة. اما ان يتحول الاذكياء الى شطار بهلوانيين، او يعودوا الى معازلهم للمحافظة على سويتهم العقلية.

ينفصل الواقع عن الحقيقة. الواقع تفرضه السلطة. يتناوله الشطار واصحاب الروح العملية بالتبرير والتبجيل. الحقيقة دفينة مريرة غير ملائمة لأهل المال والسلطة. أصحاب الروح العملية واقعيون. يتحدثون بإسم الواقع. يطلبون من الانتلجنسيا الحقيقية النزول الى “ارض الواقع”. لا يدركون، او انهم يدركون، ان الواقع كاذب، وانه من صنع اهل السلطة وان الحقيقة كامنة في المجتمع وان اكتشافها يتطلب الكثير من السعي والبحث والحرية والتساؤل والشك والرفض والنزق والمغامرة. هذه هي الحقيقة التي تنشدها الانتلجنسيا الحقيقية، اما الواقع الذي تنزله السلطة على اتباعها فما هو الا جملة اوهام، وفي غالب الاحيان اكاذيب، تملى وتطاع. تتطلب الحقيقة والسعي وراءها الكثير من المعاناة. لا يتطلب الواقع اكثر من عقل مستريح، وكثيراً من الانتهازية والنفاق حيال اطراف السلطة.

الفصل بين الواقع والحقيقة يؤدي الى تراجع المعرفة الجدية. مجتمع يحكمه الطاغية، يصنع الواقع الكاذب ويستورد الحقيقة مع التكنولوجيا، وفي غالب الاحيان يستوردها مع المواد الغذائية لاسكات شعب جائع. تتراجع وعود التنمية والنمو. يزداد الغضب الشعبي. يزداد القمع لاسكات الناس. يحدث الانفجار. ما أكثر الحروب الاهلية. هي في الاصل انفجارات.