2
Mar
2018
1

تدمير العقل العربي

تدمير التاريخ

كما أحدث نظام أتاتورك انقطاعاً مع التاريخ، أحدث النظام السعودي منذ نشأته انقطاعاً مع التراث والتاريخ. ألغى نشاطات دينية عديدة كانت تُعتبر تاريخياً من الطقوس المتبعة. فرض الدشداشة البيضاء. منع التجديد في اللباس. فرض المطاوعة. منع التجديد في الدين. توفّر المال جعله قادراً على استيراد التكنولوجيا بدل صنعها. بذخ في استيراد التكنولوجيا واستهلاكها. المعرفة ليست ما ينتجه العقل البشري بل هي ما يمليه النظام. لا حوار في المجتمع. كل شيء وجهة نظر. تعالت الذات على الموضوع وعلى الآخرين. دخل في وعي المواطنين أنهم قادرون على كل شيء بواسطة المال النفطي. تم اكتساب شعور فارغ بالقوة. ثوابت السياسة الخارجية قائمة على دعامة واحدة هي الدعم الأميركي للسعودية بهدف استمرار السيطرة الأميركية على النفط.

لم يعد للنخب الثقافية متكأ تستند اليه. كثرت الفتاوى غب الطلب. كلما احتاج النظام الى فتوى لخدمة خطه السياسي، استدعى الفقهاء لذلك. خضع الفقهاء نهائياً للسلطة السياسية. لم يعتمد التطوّر على فكر النخبة وما يمكن أن تنتجه من أفكار. هو فقط “الأحكام الشرعية” التي ينتجها الفقهاء لصالح السلطة. صار للمطاوعة سلطة إضافية على المواطنين من أجل فرض تطبيق الطقوس. لم يعد الايمان مصدراً للطقوس. صار تطبيقها مفروضاً خارجياً. عصا المطاوعة هي التي تفرض، وعندما تعجز فإن القواعد الأميركية قريبة.

مع انتشار الطائرات والمطارات والموانىء، لم يعد الجمل سفينة الصحراء، بل انتشرت السيارات والطائرات والسفن التي يفقه المحليون القليل عنها. صارت هي بالإضافة الى بناء الفيلات مصدراً للوجاهة الجديدة. أسرة حاكمة من الوجهاء والسماسرة. لا يلحق بالركب إلا من يصير منهم. تحولت الأخلاق التقليدية الى حب التباهي بالمال والوجاهة، والقدرة على الاقتراب من الحاكم أو الأمير.

كل ذلك يدر المال ويخلق نموذجاً ذهنياً يعتمد على ذلك. ليس الإنجاز الفكري أو الاجتماعي أو غيرهما ما يخلق للفرد وضعاً اجتماعياً مميزاً، بل هو القرب من الحاكم أو الأمير، وجني المال سواء بوسائل شرعية أو غير شرعية. صار الفرد السعودي أو الخليجي رمزاً للسلطة في المناطق العربية الأخرى. استقباله يعني استقبال الثروة معه. مع استقباله يجري تبني النموذج السعودي في إعلاء شأن المال وجعله جوهر العلاقات البشرية.

في السعودية والخليج، جرى ابتداع نظام الكفيل. نوع من العبودية التي لم تعد شائعة في العالم. القادم الى الجزيرة العربية لا يستطيع العمل  في التجارة والمقاولات إلا تحت كفالة رجل محلي تؤول اليه ملكية كل شيء، خاصة في حال نشوب نزاع. رضي العرب الأخرون بهذا النظام وخضعوا له. هم في الحقيقة تبنّوا النظام السعودي بالأفكار التي بني عليها. تبنوا دعائم النظام الايديولوجية.

ما اعتقد أنه زمن التحرر العربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية تحوّل الى خضوع كامل لنظام سياسي واجتماعي مستورد الى السعودية والخليج، كما هو مستورد منهما الى البلدان العربية. عملية اخضاع أخرى تلي الخضوع للاستعمار. تم القضاء على التحرر وإمكانيات التقدم. المال الموهوم رب الأرض، ويمثل رب السماء. كأن كنيسة القرون الوسطى تحكم القبضة. صكوك الغفران تضمن لك مكاناً في الدنيا والآخرة. المال رب كل شيء بل كل انسان.

لا حاجة للسعودية أن تحكم أقطاراً أخرى. هناك ثقافة الضغط التي تسود البلدان غير النفطية باسم الأخوة العربية. استأثر السعوديون بالثوب الأبيض. هو أيقونة الانتماء للنظام السعودي (وأخواته) وللدين الوهابي. هو علامة على التميّز. طبقة تتحكّم بالوعي العربي وبالمجتمع العربي. هم يملكون المال، وبواسطته يملكون كل شيء.

صار الآخرون يبررون للسعوديين. قطعان من المنافقين الذين يبنون علاقات مع السعوديين ومع نظامهم من أجل المال. الى جانب شعور الاستعلاء، ساد الشعور بأن الآخرين من العرب أنذال يساهمون في السعودية بخبراتهم التقنية وغير التقنية، لكن لا همّ لهم إلا المال. لدى السعوديين استعلاء على العرب الآخرين مع اتهام هؤلاء بالنفاق وعرض أنفسهم للاستباحة. قبل الناس النظام السعودي وايديولوجيته، وقبلوا مع كل ذلك الخضوع والاستكانة.

ضُرِبت الندّية العربية من داخلها. سيطر أهل الجزيرة وأتباعهم. صاروا هم الذين يقررون السياسات العربية. وكانت مبادرة الأمير عبد الله في القمة العربية في بيروت عام 2002 قمة هذا التطوّر. صارت قضية فلسطين بيدهم؛ صادروها. ظهر تصنيف جديد للعرب بين سكان دول نفطية “أنعم” الله عليهم بمكرمة النفط، وآخرين حرموا من هذه النعمة. بالطبع، كل شيء يقرره الله. ولو لم يكن أهل الجزيرة العربية يستحقون ما أنعم الله به عليهم لما فعل ذلك. اعتبروا أنفسهم الأكرمين والأعلى شأناً وديناً وأخلاقاً. تحكمت بهم روح الاستعلاء. تمكّن منهم الأمر مع انتشار الدين الوهابي الذي تخلى عن نسبية الفقهاء (رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الخصم خطأ يحتمل الصواب). بالأحرى هم تخلوا عن التراث الإسلامي. لم يتجاوزوه، بل زعموا العودة الى الأصول، الى السلف الصالح. كانت العودة انتقائية. كل شيء مهيّأ لإثبات وجهة نظر. ليس في الايديولوجيا التي تخصهم مكان للبحث والتمحيص والشك. اليقين عندهم هو الحقيقة التي يقررونها هم. مرة أخرى يجدر القول ان ما اعتبروه ثروة نفطية كان مبرراً لهذه الايديولوجيا. كان اليقين وغلبة الظن عند الفقهاء القدماء، صار اليقين الوهابي حقيقة الوجود العربي.

جرى العبور الى ما بعد الحداثة من دون المرور بالحداثة، والى استهلاك التكنولوجيا من دون صنعها، والى النيوليبرالية من دون الليبرالية. حافظوا على ما يسمى التقاليد من دون أن يدروا أنها غير موروثة. لم يكن مهماً عندهم البناء على ما سبق. ليس مهماً التجاوز؛ أي تأكيد المعطى التاريخي وتجاوزه في آن معاً. ليس المهم التاريخ. هم ليسوا أبناء التاريخ بل ورثة السلف الصالح. السلف الصالح انتقل إليهم من أيام الإسلام الأولى قافزاً فوق ما يزيد على ألف عام من التطوّر ليستقر فيهم. ليس التاريخ تطوراً بل هو انقطاعات. ليست السياسة تسويات بل أوامر. هم النبلاء، وعنهم يصدر الفعل الحسن. نيتشيون من دون نيتشه.  ذلك دفن لله، وهؤلاء يحيون أنفسهم باسم الله.

التاريخ العربي والإسلامي هو تاريخ مجتمع مفتوح. يتحرّك الإنسان فيه من الأندلس الى حدود الصين، ويكون مواطناً أينما حل. تعددت فيه السلطات والامبراطوريات والسلطنات، لكن الأفكار الدينية والمنظمات الصوفية والتيارات الفكرية تنتقل فيه من أقصى الأرض الى أقصى الأرض. وكل ذلك ينتقل على خطوط التجارة البرية والبحرية.

التعددية في تاريخنا تاريخية وجغرافية. سادت مذاهب مختلفة في أصقاع مختلفة جغرافيا. وتنوعت المذاهب تاريخياً. وتغيّرت المذاهب مع تعاقب الأزمنة. جرى احياء السلف الصالح (رغم الشكوك حول صلاحيته) وجعله مثلاً أعلى يُحتذى. في إيران تمسكوا بسيد قطب، في السعودية تمسكوا بالوهابية. تعتمد السلفية على أن التاريخ لا قيمة له. نستطيع أن نقفز من فوقه للعيش كما السلف الصالح؛ وكأن هذا ممكن. ميّزنا بين التاريخ والماضي. التاريخ مراحل تطوّر. مراحل يحدث في كل منها تطوّر يتجاوز القديم. في الماضي مرحلة واحدة. وبما أنها مرحلة واحدة، فهي تُحتذى. علينا احتذاء الماضي وتدمير التاريخ. التاريخ يصير عدداً علينا تدميره. نعيش في الماضي، وندمّر التاريخ. العيش في الماضي، ماضي السلف الصالح، يتطلّب نسف مراحل من تاريخنا. الحاضر وحده يكفي. نتنعّم بما أنعم الله علينا من نفط ومواده. نرفع الحاضر الى صورة المثل الأعلى. يكون ذلك بأن نعيش حسب صورة منقحة عن السلف ليصير صالحاً. فعل ذلك الإيرانيون والجهاديون عن طريق سيد قطب، وأهل الجزيرة العربية عن طريق الوهابية. توج كل ذلك الاخوان المسلمون بشعار “الإسلام هو الحل”، وهذا ما يتبناه الأتراك.

في صنمية الماضي يتجمّد العقل. يتوقف عن الحركة. يدور حول نفسه. يصير كل سلوك معاصر مقاساً على ما كان يعيشه السلف. نفتّش في صحيح البخاري عما نبرر فيه الماضي، بعد أن زادوا عليه خلال التاريخ وأدخلوا فيه ما يناسبهم، ورسموا نموذجاً يُحتذى. تبعه بضعة مجمعين للحديث النبوي الذين اختاروا الاختصار من دون الابتعاد عن المنهج.

الحاضر أغلق الماضي ليقضي على التاريخ. الحاضر رسم صورة عن الماضي، وجعلها نموذجاً أعلى للوعي، وفرض على المجتمع تبنّي هذا النموذج. إغلاق الماضي أدى الى إغلاق المجتمع وإغلاق العقل. لم يعد البحث التاريخي سوى تكرار لما قاله الأولون. أما البحث في ثنايا المجتمع وتفنيد الغث من الثمين، وتمييزهما بالنقد والتساؤل، وكتابة التاريخ بعجره وبجره، فهذا أمر ممنوع.

العيش في الماضي يستدعي تقديسه. البحث التاريخي في الماضي يعني تفكيكه من أجل فهمه، لا من أجل العيش فيه، بل من أجل تجاوزه بعد فهمه واستيعابه. لا نستطيع العيش في العالم المعاصر. لا نستطيع التفاهم معه، لأن لنا ماضينا الذي نتوهم أنه يملي علينا حاضرنا (العكس هو الواقع). نحكم على أنفسنا بالعزلة. نحكم على أنفسنا بالتبعية. إذ أنه ما لم نشارك في العالم المعاصر في علومه، وثقافته، وتقدمه، سيفوتنا قطار التقدم، وسنبقى أمة متخلفة معرضة للتفتت. وهل يوجد دليل على ذلك أكثر مما يحدث اليوم؟ يتعاون بعض السلفية مع أنظمة القمع في سبيل السلطة. وذلك لأن أنظمة الطغيان عندها من البنى الفكرية القومية والحداثوية المزعومة التي تشبه السلفية. نستطيع أن نسمع نشرة أخبار على إذاعة يسارية، ونعتقد بأننا نسمع إذاعة دينية، والعكس أيضاً صحيح. كل منهما يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة، ويستمد نشرة الأخبار من هذه الحقيقة. كل منهما يستعلي على الحاضر وينكر التاريخ. واحد يقدس ماضياً مستحيلاً، والآخر يقدس مستقبلاً صعب المنال، إن لم يكن هناك استحالة تاريخية.

لا يستطيع أي جمع منا في مقهى أو صالون إلا العودة الى خلافات القرن الأول الهجري، وأخذ مواقف من خلافات ذلك العصر. يسحبون ذلك على الحاضر. هم في الحقيقة يسحبون الحاضر على الماضي لأنهم يريدون العيش في الماضي أو الثأر منه. جميع الأطراف يريدون هداية الأجيال الراهنة، وإقناعها بالعودة الى العيش في الماضي.

الماضي مشلّع ومختلف عليه؛ حروب أهلية يعاد العمل بها، والثأر مما لا يعجبنا فيها. مهمة مستحيلة. نعيش المستحيل أو نركض وراءه. ندين أبطال التاريخ لأننا ننكر هذا التاريخ الذي ساهموا في صنعه. يصير الأبطال والإنجازات الكبرى ضحايا الخلافات الراهنة. نميت التاريخ. ندفنه، كي نعيش حاضراً يناسب الايديولوجيا الراهنة ويفيد صراعاتها الدموية. نرتكب التطهير العنصري والمذهبي في سبيل ذلك. تؤدي الحروب الأهلية الراهنة الى حركة سكانية هائلة، وإفراغ مناطق بكاملها. ونسمي ذلك هجرة ونزوحاً من مناطق غير آمنة. هذا ما تفعله الثورة المضادة. تقود الثورة المضادة أنظمة الاستبداد العربي. لا تمييز عند العقلاء بين نظام استبدادي وآخر. جميعهم لديهم بنية فكرية واحدة، وإن تصارعوا. في جميع الأحوال لا شيء يمنعهم من التحالف حين اللزوم، أي حين الدفاع عن السلطة.

العقل العربي محاصر بين القداسة والطغيان. أخرجت السلفية شخصيات وأفكاراً بالقدسية. فعل أتباع الاستبداد الأمر نفسه بقادتهم وأفكارهم وجعلوها أبدية ومقدسة. العقل العربي يدور حول الماضي. يدور حول نفسه. وضع نفسه في صندوق الماضي وأغلق الصندوق على نفسه.

إذا أراد الإسلام السياسي مملكة أو إمارة فهي وهابية. وإذا أرادوا جمهورية فهي إسلامية (سيد قطب أساسي في فكرها). وإذا ورثوا جمهورية علمانية، يحولونها الى كيان جديد شعاره “الإسلام هو الحل” (بتأثير من الإخوان المسلمين).

وإذا أراد الحزب العلماني، سواء كان بعثياً، أو ما يشبهه، فهو يجعل على رأس النظام امبراطوراً مقدساً يتوهمون أنه وخلفاؤه يدومون “الى الأبد”.

تحت هذه الجمهوريات والممالك والإمارات شعب يمنع من التفكير ومن استخدام العقل.  تحت هذه الأنظمة مجتمعات مغلقة لا يراد لها إلا اتباع الصراط المستقيم الذي يرسمه أسيادهم. يُمنع الناس من البحث في أسباب الكون (علمياً) أو تاريخ العلم والتكنولوجيا كي لا يبحثوا في الوضع الراهن. السؤال يجر الى السؤال. السؤال ممنوع، على العقل أن يقبل تعليمات الحكام وكأنها علم. يستعيضون بالايديولوجيا عن العلوم الحديثة، ويمنعون المجتمع عنها. مهمة المجتمع تكنولوجية وحسب. يتوجّب إنتاج العمال المهرة الذين يستطيعون صيانة وإصلاح التجهيزات التكنولوجيّة المستوردة. وإذا لم يتم إصلاحها، ستتحوّل الى خردة تُرمى على جنبات الطريق، وليستوردوا غيرها. أنعم الله بالنفط وأمواله بما يتيح ذلك.

تم إغلاق العقل العربي بواسطة نموذج ذهني انتجه النفط كمكرمة إلهية. سيطر هذا النموذج على الايديولوجيا العربية الراهنة. انضوى المثقفون تحت لوائه. باعوا أنفسهم لنموذج لا يتيح لهم البحث. أغلقوا عقلهم أيضا، لأسباب انتهازية. ليس صدفة أن مراكز البحث العربية ممولة نفطياً من أموال تتحكم بها ايديولوجيا دينية فرضت نفسها بالمال لا بالأفكار. مراكز البحث هذه هي أشبه بدور نشر ليس فيها بحث أو نقاش. تنتج اجتراراً، وتترجم ما هي ليست مسؤولة عنه، أو ما يناسب ايديولوجيتها.