31
Mar
2023
0

حول القداسة والمنع والتحريم

تبدأ السردية التاريخية لكل جماعة من اللحظة التي تعتبرها نقطة الأصل أو البداية. يحب الأفراد أو الجماعات أن يكون لكل منهم أصل. وكلما كان أكثر قدماً كان أكثر استحساناً. فالأصالة صفة ايجابية يتغنى بها الجميع، بل يسعون إليها. تعني الأصالة تجزراً في التاريخ، وكأن المعني بها قد شارك في أمجاد الماضي. فكأن العرب الأقحاح، أو الذين يعتبرون أنفسهم كذلك، قد شاركوا في الفتوحات. كثيراً ما تزدهر صناعة “شجرة العائلة”. فأصحابها يريدون الانتماء الى أصل معيّن. فيستأجرون من يلفق لهم هذه الشجرة.

لكن المسألة تدخل أصحابها في صعاب. إضافة الى بداية التاريخ من الحاضر، فدول المنطقة التي ترجع الى دول غير موغلة في القدم، كإيران التي تعود الى الدولة الصفوية التي بدأت مع بدايات القرن السادس عشر، والدولة التركية التي تعود الى القرن الرابع عشر، تعاني صعوبة في شرح ما قبل ذلك، إذ لا يتفق مع الدين المعتمد. لكن اتصال الدولتين الزمني بدولتين سابقتين يساهم في حل مشاكل راهنة. فالحداثة تقضي أن يكون جميع من في الدولة متساويين في المواطنة، أو على الأقل يُعترف لهم بالتعددية، وهنا تبرز مسألة التناقض بين الأصالة والحداثة. فالأصالة تعني تفوّق بعض من في المجتمع الذين يعتبرون تاريخهم قديم، والحداثة تطمس ذلك وتعني بالنسبة لدولة ديكنتاتورية، وكل دولنا ديكتاتورية، أن يكون الجميع متساويين في الطاعة. وهذا يتطلّب أسلوب عيش لا بدّ منه كي يكون الفرد مقبولا لدى السلطة.

للأصالة مشاكلها وللحداثة مشاكلها. ذلك لا يحل إلا بالسياسة، وهذه ملغاة في دولنا الاستبدادية التي لا تتحمّل أن يكون المرء مختلفاً.

في رواية التاريخ الإسلامي يطغى الأصل العربي، لكن الحاضر العربي ليس فيه أمجاد وانتصارات نظراً للهزائم والحروب الأهلية وانقطاع تاريخهم فترة طويلة. فتاريخهم على مدى القرون الخمسة الماضية مرتبط بالدولتين الإيرانية الصفوية والتركية العثمانية، بشكل أو بآخر. لذلك لا عجب إذا حاول بعض الأتراك والإيرانيين والمستشرقين تجريدهم (أي العرب) من “أمجاد” الفتوحات والدول الإسلامية المبكرة، حيث كانت الخلافة عربية قرشية، وكانت أيضاً سلطة سياسية حقيقية. وهذه مشكلة حادة عند الإيرانيين، وهي ليست كذلك عند الأتراك، بل تصير كذلك إذا ربط هؤلاء تاريخهم بعهود وجودهم قبائل ودول في أسيا الوسطى. يعرف الإيرانيون أنهم ورثة فرس ما قبل الإسلام، أما الأتراك فإن الأصول التركمانية والتترية والمغولية تجعل الأمر صعب التحديد.

يعاني العرب صعوبة في سرد تاريخهم. إذ ليس فقط هناك دول عربية متعددة لكن، وهذا هو الأهم، هناك في وعيهم انقطاع في تاريخهم وتعددية في معظم مجتمعاتهم، كجماعات تعتبر نفسها إثنية أو قومية وتختلف مع الجماعات الأخرى في السرد التاريخي. ما زال التأريخ لمنطقتنا يقرره المستشرقون أو ما يسمى الخبراء الأجانب. في البلد الواحد لا تستطيع جماعة طائفية أو دينية كتابة تاريخها بما يتفق مع جماعة طائفية أو دينية أخرى. تستطيع الدولة الإيرانية أو الدولة التركية فرض قراءة موحدة على مجتمعها، ولا تستطيع أي دولة عربية أن تفعل ذلك. السردية التاريخية لبلاد ما تتعلّق بالوعي وكيف يرى المجتمع نفسه. ليس المطلوب أن تفرض دولنا العربية كتابات تاريخية موحدة لكل منها بل أن تتسامح مع الكتابة التاريخية الحرة والموضوعية، وأن لا تعتبر طمس التاريخ هو الطريق الوحيدة لمعرفته. نرى في عدد من البلدان العربية إلغاء مسلسلات تاريخية بعد عرض الحلقة الأولى أو الثانية، لأن مجرد ذكر أو إظهار شخصيات أو حوادث تاريخية مما لا يتناسب مع رؤية أو حساسيات بعض الجمهور يسبب هجومات شرسة من الجمهور أو بعض المتفرجين الذين يعتبرون هكذا مسلسلات مساساً بالروح الدينية او القومية. يضيق مجال الحرية الفردية أو الجماعية. لا تُعرض مسلسلات تاريخية إلا ما يرضي الجميع. فيحذف الكثير من التاريخ أو أننا نصير أمة دون تاريخ. أو أن تاريخنا كعرب يحافظ عليه المستشرقون أكثر مما نحافظ عليه.

ليست المسألة أن يكون لنا تاريخ موحد، أو أن ينتظم التاريخ وحوادثه في كل متناسق. التاريخ ذاته لكل بلد وكل منطقة في بلد ليس متناسقاً ولا نستطيع فرض التناسق إلا تعسفاً. والتعسف في فرض الرؤية التاريخية مؤشر على انعدام الحرية في مجتمعاتنا. لا يسود مناخ الحرية إلا عندما نُنزل عدداً كبيراً من مقدساتنا والمقدسين لدينا الى المجال العام لمناقشة فكرهم، ومناقشة الحوادث التي نتجت عن أفعالهم. هم في الأساس بشر ويتوجب علينا أن نعيدهم بشراً كي ننزع عن أنفسنا قدسية مفتعلة ناتجة في نظرنا، وبالنسبة إلينا، عن ارتباطنا بهم. كأن مجتمعاتنا صارت بسبب المنع والتحريم محاكم تفتيش تذكرنا بمحاكم التفتيش الكنسية في القرون الوسطى الأوروبية.

طريق الحرية هو أن نخفف المقدسات، وصولا الى إلغائها كي تصير كل أمورنا موضع بحث وتحليل وشك وتساؤل. ننغلق على أنفسنا، ونفرض على مجتمعاتنا أن تصير مغلقة، بمقدار ما تزداد مقدساتها. وتنمو العروبة بالمعنى الحديث بهذه الحرية. التعددية في المجتمع، وهي عامة في كل المجتمعات، تفترض قراءات مختلفة للتاريخ، وهذه تعبّر عن رؤى مختلفة حول الحاضر. المجتمعات السياسية والمنفتحة تتسامح حيال التعدد. ما زلنا غير قادرين على ذلك. في حاضرنا نحن غير قادرين على التسامح حيال التعددية كما كان أسلافنا، كائناً من كانوا.

نبحث في التاريخ ليس من أجل الأصل بل من أجل التطوّر. معرفة تطوّر مجتمعاتنا تفيدنا في فهم حاضرنا. وهناك فرق بين أن يكون فهم الحاضر نابع من فهم التاريخ أو العكس.

ما زلنا ندين، حسب معتقدنا، شخصيات تاريخية كان لها الأثر الكبير في زمانها، وفي الأزمنة اللاحقة. فكأننا نريد الماضي أن يكون متناسباً مع أمزجتنا. لا نتسطيع أن نتقبل تاريخنا بعجره وبجره. وذلك ضرورة لكي يكون لدينا فكر موضوعي، علما أن الموضوعية لا تفترض الحياد. علينا أن نعرف قبل أن نقرر الموقف من الحدث أو من فاعل الحدث. أما الإشاحة بوعينا عما حدث لأنه لا يروقنا، فهذا يقود الى الجهل. هناك طفولة معرفية في أن لا نعرف إلا ما نريد أن نعرف، كما أن هناك ضعف نفسي وعصاب في أن نشيح بوعينا عما لا يتناسب مع ما نريد. التاريخ سلسلة متواصلة. كما يهمل بعض الشعوب الإسلامية تاريخهم قبل الإسلامي، نهمل نحن العرب حقبة في تاريخنا عندما كنا في الدول الإسلامية غير العربية، ونسمي ذلك عهود الانحطاط. ربما كان بعض الأكاديميين أكثر نضجا وموضوعية من الجمهور، لكن الوعي السائد انتقائي في النظر الى التاريخ. عهد الأمجاد بالنسبة لمعظمنا هو عصر الفتوحات. وما عدا ذلك لا يكون موضوع الحديث والتداول. ألا نفقد أصالتنا حين نعود الى عصور “مجيدة” ونقفز فوق عصور نعتبرها عصور الانحطاط. بالمناسبة، كانت عصور “الانحطاط” السياسي، أي حين لم يكن العرب الأقحاح في السلطة، في معظم الفترات، عصور ازدهار ثقافي وإبداعات فكرية واكتشافات علمية. ولا ندرك أن العصور التي لم يكن فيها العرب الأقحاح أصحاب السلطة السياسية كانت في نفس الوقت عصور استيعاب شعوب غير عربية وتعريبها في الوقت نفسه. ومن يتكلم اللغة العربية، بأية لهجة، في الحياة اليومية، لا يستطيع التهرّب بسهولة من الانتماء العربي، والعروبة هي هذا الانتماء. وهي ليست الأصل والأصالة.

ما نحتاجه هو البحث في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لا الاقتصار على السطح السياسي. الثقافة أو الثقافات الرائجة في مختلف مجتمعاتنا هي وليدة تطوّر وتواصل لا انقطاعات. لو بنينا وعينا التاريخي على الانقطاعات لما كنا موجودين.

تنقصنا الموضوعية في النظر الى تاريخنا. وهذا سبب للهزيمة الثقافية أو الحضارية التي تنتج عنها الهزائم السياسية والعسكرية. حبذا لو ننزل المقدس من عليائه ليصير جزءاً من هذه الدنيا؛ يفيدنا في ذلك خفض منسوب المنع والتحريم.