23
Dec
2016
0

داعش ونحن..

تتواكب مسيرة «داعش» مع الاستبداد والثورة المضادة (بعد 2011) وانتشار اليمين المتطرف في العالم، يمين يقارب الفاشية ويستند إلى تبريرات ثقافوية ولا يمانع في التدخل في أنحاء العالم حيث يحلو له، انتقائياً. ويمارس شتى أنواع النفاق تجاه مشاكل منطقتنا. لا تبرير لقيام «داعش» بأي من الحجج الثقافوية أو التنموية أو التدخلات الامبريالية أو الفقهية الإسلامية. «داعش» خارج السياق وحسب. يواجهون العالم بأفكار خاطئة إجرامية، وبأفعال أشد من ذلك تفاهة عند النظر لموازين القوى.

الرد على الثقافويين الذين يعتبرون الثقافة الموروثة ثابتة الجوهر، ويعتبرون أنه يمكن استخدامها لتفسير وتعليل وجود «داعش» والأحداث المرتبطة به. «داعش» خارج السياق العربي والإسلامي. هي دين آخر دفع التبليغ عند الشيعة والدعوة عند السنّة إلى نهاياتهما غير السعيدة.

أما حجة غياب التنمية (المستدامة)، فهي لا تفسر الظاهرة، هذا التراجع أنتج الانهيار الاقتصادي، وفي عداده توسع التصحّر وتراجع الإنتاج (غير النفطي) وتفاقم الاستهلاك البذيء. و «داعش» لا يعي ذلك ولا يرد عليه ولا يطالب بأي شيء يتعلق بالتنمية.

أما الذين يفسرون وجود «داعش» بالدين ويجعلون أفكار بعض الفقهاء القدماء تأسيسية في المسار الحالي، فالرد يكون بأن الدين الحالي في انتقائيته وفي الإصرار على التبليغ والدعوة قد أدى إلى تدمير «الطالبان» للأفغان وتدمير «الدعوة» لسوريا والعراق.

«داعش» هو ما حمل منطق الدعوة والتبليغ إلى نهاياتهما المنطقية غير السعيدة. في القرن الثالث عشر قام «الموحدون» بنشر المذهب المالكي عن طريق حرب إبادة ضد المذاهب السنية الأخرى. بعد قرون ثلاثة حصل الأمر نفسه لكن لحساب المذهب الشيعي على حساب المذاهب الأخرى. في الحالتين كان هناك تبليغ ودعوة وحرب إبادة.

رد آخر على الحجة الدينية يكون من خلال خطبة الوداع للنبي محمد: «اليوم أتممت لكم دينكم»، ومعنى ذلك أن كل خلاف، في المجتمع الديني بعد ذلك هو خلاف سياسي يفبرك العقائد الدينية لاستخدامها في السياسة والنزاع على السلطة.

أما الذين يستخدمون حجة المذهب ويستشهدون بأقوال ابن تيمية وغيره من الفقهاء الذين ناصروه، فيمكن الرد أن هذا الفقيه دخل سجن السلطان أكثر من مرة، ومات في السجن. والفتوى سياسية في الأساس. أما اجتهاداته فقد كانت أيضاً سياسية في مواجهة حملات المغول ضد مجتمعاتنا، وقد فقدت هذه الفتاوى قيمتها التاريخية، ولا معنى لها في عالمنا المعاصر.

لقد رسا هذا المجتمع على تعددية دينية ومذهبية. يمكن استخدام هذه العقائد من أجل الإيمان، لكن المجحف والظالم هو استخدامها في السياسة من أجل الدعوة أو التبليغ وإظهار فريق على آخر. تجنب الحرب الأهلية بين الأديان والمذاهب يقتضي ذلك.

أما تبرير ظهور «داعش» بالاستبداد، فذلك تعليل جزئي. ضرورة زوال الاستبداد لا شك فيها. لكن مواجهة «داعش» للاستبداد غير عقلانية، تستند إلى الغضب وحده. في السياسة لا مجال للغضب.

أما الذين يستخدمون حجة التدخلات الخارجية لشرح ظاهرة، فإن الرد على ذلك لا يكون بمشاركة فريق ما في هذه التدخلات، ووضع فريق آخر نفسه خارج السياق التاريخي للأمة، ووضع نفسه في مواجهة العالم، على ما في ذلك من قصر نظر لعدم أخذ موازين القوى الدولية بعين الاعتبار.

أما التبرير للظاهرة الداعشية بالثورة المضادة التي تلت الثورة العربية في عام 2011، فإن الرد يكون بأن الثورة تنتهي حال قيامها، ومن الضروري الانتقال بعدها إلى الإصلاح. لا يكون الإصلاح بهدم أو إلغاء كل ما سبق بل بتراكم الإنجازات.

«داعش» تظهير غاضب للاعقلانية في مجتمعاتنا. لا فائدة منها إلا أنها تثير ردات فعل شعبوية (ربما تقود إلى الفاشية الكارهة لشعوبنا حول العالم). في كل مجتمع لا عقلانية، هذه لا يمكن إضعافها إلا بمزيد من العقلانية والممارسة السياسية عند من يواجهون هذه الظاهرة. ما يصيب البشرية يصيبنا لكن بأشكال ومضامين أكثر تطرفاً ودموية وخراباً. صراع القوى الدولية والمحلية في منطقتنا يكاد يكون حرباً عالمية في هذا الموقع أو ذاك. نحن جزء من هذا العالم، لكنه الجزء الذي تنصب ضده كل لا عقلانيات الشعبوية في العالم. نكاد نكون كبشر المحرقة لانهيار النظام العالمي الجديد (المسمى عولمة). «داعش» وما يفعله في القرب هو المحفز لذلك.

يصيبنا ما يصيب العالم، وإن بأشكال أكثر حدة وكارثية. نعاني من رضَّة في العقل، صدمة في الدماغ، نشفان في الروح، انحراف في التفكير (بالأحرى غيابه) جبن في التصرف (قتل مدنيين بإدخال شاحنة إلى سوق ضيقة)، إسفاف في التفسير الديني والسياسي، احتقار للنفس البشرية (عمليات انتحارية تقتل الأبرياء في كل مكان في العالم)، أممية بلهاء. (أعني أممية داعش).

ما يصيب النظام العالمي يتكرر منذ مئتي عام. مؤتمر فيينا عام 1815، مؤتمر برلين في سبعينيات القرن التاسع عشر لاقتسام العالم، عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، الأمم المتحدة ومنظماتها، من مجلس الأمن إلى صندوق النقد الدولي إلى البنك الدولي إلى منظمة التجارة الدولية. في كل مرة نظام عالمي ينهار، حينذاك تتصاعد الشعبوية، وما صعودها في الغرب إلا احتجاج على النظام العالمي الجديد الذي سُمّي عولمة. يقابل ذلك «داعش» بأممية إسلامية هي أشبه بالفأر يصارع الفيل.

نحن جزء من هذا العالم، سوء حظنا أن صراع القوى الدولية يحدث في منطقتنا. دولنا فاقدة السيادة. تستجير هي ومعارضوها بالتدخل الخارجي، لا تستطيع الانتصار على شعبها إلا بالعون الخارجي. كلٌّ يشد البساط إلى ناحيته. بالتأكيد لا يفهم الدواعش ذلك. يتجاهلون الأسباب والنتائج. يفقدون العقل والعقلانية.

يختزل الكثيرون منا ما يجري بالمساهمة في الحرب العالمية على الإرهاب والتكفيرية. غاب عن بالهم أن الإرهاب تاريخياً هو من عمل الدولة، وأن التكفير تمارسه كل جماعة دينية تعتقد أنها تمتلك الحقيقة والحق، وتعتقد بالتالي أن الأزمة عند الغير.

أكثر ما نحتاجه هو أن نفكر وأن نشكك وأن نبحث داخل ضميرنا، داخل الضمير الفردي والجمعي، وأن نقول ما يجب أن يقال دون خوف أو وجل. أن تتولد لدينا نخبة تفكر في ما يؤدي إلى تلبية حاجات مجتمعنا ووجدانه، نخبة هدفها الانخراط في العالم لا الاقتصار على استهلاك منتجاته التقنية، نخبة تفكر وتطرح أفكاراً جديدة ومعرفة حديثة وتصنع هي التكنولوجيا وتسيطر عليها، نخبة ذات معرفة وشجاعة، تفكر مع شعبها لا بالنيابة عنه، تعبّر عن شعبها ولا تسعى إلى إعادة هندسته بالدعوة والتبليغ. الفساد هو أن تقصِّر في كل ذلك حتى ولو كان كل منا في أعلى مستويات الأخلاق.

أول سؤال نطرحه على أنفسنا: من هي هذه «النحن» التي ننتمي إليها. مشكلتنا ليست الخيار بين الإسلام والعروبة، بل بين العالم والانعزال عنه. بالانعزال عنه نمارس عنصرية تجاه أنفسنا. نظرية صراع الثقافات لم تكن إلا من أجل فصلنا عن العالم.

لا عمل إلا بالتفكير، بعد التفكير ومن خلاله. وهذا يجب أن يشمل كل شيء في حياتنا. تنتهي «داعش» بعمل وتفكير من لدنّا. لا يستطيع العالم إنهاء «داعش». نحن فقط نستطيع ذلك عندما نرفض الاستبداد، نرفض التدخل الخارجي، نرفض الحالة الراهنة. قبل ذلك علينا أن نرفض ما نحن عليه، نرفض الغضب واللاعقلانية. ننقل «النحن» من مرحلة إلى أخرى.

عجزنا عن هذه المهمة سيؤدي إلى كوارث أكبر.