6
Feb
2018
3

لمن يبحث عن حرب أهلية

 الطائفية هي نظام لبنان. ينقسم الناس الى قطعان. كلٌ حسب المذهب المسجّل في القيود. يقود كل قطيع زعيم أو أكثر. هؤلاء يمارسون سياسة تبادل المنافع فيما بينهم. هم يديرون الأجهزة. الدولة بفهومها الحديث مفهوم ناقص في الوعي وفي التطبيق. نظام الطائفية يأكل الدولة، يبتلعها. مشترك الدولة معرّض دائماً. السلطة (النظام) موجودة بجميع الأجهزة اللازمة. لكنها من دون هيبة. هيبة القوة ليس بالإمكان فرضها كي “لا يفرط البلد”. الانتظام ضمن القانون شبه معدوم. الالتزام بالدستور كلامولوجيا لا يعبّر عن عقيدة راسخة.

طائفية اليوم تختلف عن كل ما مضى، في الداخل والخارج. في الخارج، حتى حينما كانت الحرب الأهلية مستعرة في لبنان كان اللبنانيون يتآلفون ويتعايشون، كأنهم في الأساس ومن حيث جاؤوا هم فريق مشترك. لم يكن تكاذباً لأنّ الحرب الأهلية لم تنتقل للخارج. كان اللبنانيون حتى في خضم الحرب الأهلية يبحثون عن مخرج وعن تسوية تغيّر الأمر. الآن يبحثون عن إيقاد مشكلة فيما بينهم.

الفرق الطائفية الأساسية ثلاث. المسيحيون والشيعة والسنة. المسيحيون يعتبرون أنهم خسروا حقوقاً في اتفاق الطائف ويجب أن يستردوها. الشيعة يعتبرون أنه رغم الشراكة هناك حقوق ناقصة لم يحصلوا عليها ويجب أن يحصلوا عليها. السنة يعتبرون أنه منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري خسروا موقعهم. يتساءل المرء عن معنى أن توجد في بلد يعتبر معظم أهله (الطوائف، على أساس أن هناك لا طائفيين، وهم قلة) أنهم خاسرون. الخسارة تعني موقفاً سلبياً  من النظام ومن الدولة، وتشكّل عقبة في تحوّل النظام الى دولة. مع ازدياد الطائفية وتعميق الانتماء إليها، يضعف المشترك بين الناس ويزداد الشعور بالخسارة، ما يؤدي الى خسارة تحاول التخلّص منها. الحرب الأهلية شكل من أشكال التخلّص من البلد؛ على الأقل التخلّص منه كما هو. مجبورون أن نبقى ضمن الحدود الجغرافية، لكن مع تغييير نظامه. وقد سمعنا أصواتاً تدعو الى جمعية عامة لإعادة النظر بحصص الطوائف. وسمعنا أصواتاً أخرى تدعو الى الفيدرالية، أي أن يعيش كل فريق طائفي ضمن ولاية شبه مستقلة، رغم بقاء الولايات ضمن حدود الدولة المعترف بها. كل هذه الدعوات لا تتحقق من دون عنف ودم وقتل وخراب. حتى الآن، الأمن مستتب بقدرة قادر. هذه القدرة أرضية وليست سماوية. لو كانت سماوية لكان معنى ذلك أن الله يتدخّل. وحينها سيكون الخلاف أكثر عشوائية لأنه ما من أحد يعرف إرادة الله.  وإذا حاولوا المعرفة فإنهم سيجذبون الله الى طرفهم. لنتذكر أن الطائفية تزعم أنها ترتكز على الدين والمذهب والله، وأنّ كل طائفة تفترض أن الله يخاطبها ولا يخاطب غيرها.

الشعور بالخسارة هو ما يحرّك اللبنانيين. محاولة تحقيق المكاسب على حساب الآخرين هو ما يدفعهم للبحث عن حرب أهلية (ربما كنا الآن نشهد أحداثها الأولى). الشعور بالخسارة مع الإحساس بالقوة، التي يمكن أن يكون مصدرها محليا أو خارجيا، هما ما يدفع الأفرقاء الى الإمعان في الخطاب المتشنّج. نحن على أبواب انتخابات. يعتقدون أن التشنّج يفيد في الانتخابات، ويغيب عن بالهم بقاء البلد مهددا. ربما لن يستمر من دون تهدئة الخواطر. يخطىء السياسيون الكبار، مهما كانوا، إذا ظنوا أن النظام يبقى مع خطاب التشنّج. سيفيقون يوماً ويرون النار مشتعلة. ندعو الى الله أن لا يحدث ذلك.

كأفراد لم نبلغ حد المواطنية بعد. تعني المواطنية أن تنغرز الدولة في ضمائرنا وأن تكون حركات الاحتجاج موجّهة ضد النظام ومؤسساته. معنى ذلك أن تكون الدولة منطلقاً لا شرط عليه، وأن تُفرض الشروط على النظام، وأن تكون المطالب موجهة إليه، بما فيه مؤسسات الأمن والاقتصاد والبيروقراطية، إلخ… كأفراد لسنا موجودين كمواطنين يُشاركون في النظام. أباطرة النظام يساهمون فيه. نحن قطعان نُساق ولا نسوق. لنتذكّر أن الانتخابات القادمة بلوائحها المغلقة لا تُفسح لنا الخيار بل تفرض علينا قبول سلة المرشحين المفروضة من قبل الأباطرة الخمسة. هذه الانتخابات أشبه بالاستفتاء. علينا القول بنعم أو لا. أكد قانون الانتخابات سلطة الأباطرة وتقسيمات الطوائف الموجودة مع خطاب حاد في سبيل مزيد من الاستقطاب والتشنّج.

لا توجد الدولة إلا في ضمائر الناس. وهذه مشغولة بطوائفها. النظام موجود من دون هيبة رغم القوى الأمنية. القانون لا يُطبّق إلا عشوائياً. الدستور ليس كتاباً يُهتدى به بل طابة يركلها هذا الفريق أو ذاك في “ماتش” التجاذب الطائفي (وهذا تعبير مهذّب). نعيش عشوائية كاملة لا تنضبط ولا يمكن ضبطها، إلا في إطار الطوائف. نظام عشوائي يهدد الجميع. لا تتعرّف كفرد تتوق الى أن تصير مواطناً ما هي حقوقك وواجباتك. تضطر عند كل مشكلة تواجهها للالتجاء الى زعماء الطوائف الأباطرة، حسب ما هو اسمك الطائفي المسجّل في القيود، لتحل المشكلة لا بالقانون بل بوسائل فوق قانونية. تسوقك الضرورة وحكم الضرورة. ليس لديك خيارات. الحرية وعي الضرورة. الضرورة لا تعيها بل تعي العشوائية. إذن الحرية مفقودة ولو كانت مظاهرها هي البقية الباقية التي ننعم بها، حتى اشعار آخر.

العقلانية مفقودة تماماً. العامة “ينزلون” الى الشارع ولا يرتفعون إليه. ينزلون لتدمير المجتمع وإحداث ضربة له على الرأس من أجل أن يتبخّر من الرأس ما بقي من عقل. في هذه الحالة يدافع الناس عن الطائفة وعن كرامة هذا الزعيم أو ذاك، ولا يدافعون عن حاجاتهم، وهي كثيرة. لا يهمهم الاقتصاد ولا البنى التحتية ولا ما يُحرمون منه من وسائل العيش. لا يهمهم أنفسهم بل الطائفة وزعماؤها. ليس مهماً لديهم تماسك المجتمع بل تماسك الطائفة. شعب يهدر نفسه. هذا هو الفساد الأكبر. الفساد هدر قبل أي شيء آخر. مع الهدر تصير كل أنواع الفساد الأخرى باهتة أو قليلة الأهمية، نسبياً.

ننتظر كل صباح اتفاق الأباطرة، وتسوية نتوقعها، بل نريدها، ولا تحدث. نعيش من يوم ليوم. حياة قلقة. تفكير لا بالمستقبل وإمكاناته، لا بالعالم ومصيره، لا بالله والإيمان به، بل هو تفكير بالراهن وكيف نبقى لليوم التالي. حياة تفرض غياب العقل وطلب النجاة حتى ولو على ظهر قشة في محيط هائج.

كان الزجال الكبير مطانيوس الحملاوي مسافراً الى المغترب. اهتاج المحيط وتلاعب بالسفينة. قال:

حاج تتلاعب يا أطلانطيك       والحملاوي مسافر فيك

خذنا ووصلنا على الشط         ونقرة دف منفرجيك

حتى نقرة الدف نحن محرومون منها. يحكمنا القلق بالحزن. خاصة وان الحروب الأهلية التي مرت علينا لم نستفد منها.

الحرب أولها كلام. وسائل العنف متاحة للجميع. مطلوب من القادة اجتراح التسويات. ننعم باتفاق الطائف لأنه كان تسوية، ولو كانت طائفية. ما بعد الطائف انقسامات خطرة أشد وأدهى مما قبله. المطلوب تخفيف حدة التوتر. مطلوب أن يعطينا القادة بعض الأمل بالمستقبل ولو الى حين، خاصة وانّ الظروف الاقتصادية والمالية لا تبشّر بالخير.