29
Sep
2023
0

الحكم بالفراغ

الفساد على فداحته أقل خطراً بين التهم التي يمكن أن توجه للطبقة الحاكمة في لبنان. كي لا تكون هناك دولة تحاسبهم فرطوا الدولة، وكي لا يكون قضاء يعاقبهم دمروا القضاء، وكي ينهبوا ما تبقى من أموال الناس كرسحوا المصارف وحموا ما بقي منها من هياكل، وكي يحافظوا على سيطرتهم أمعنوا في التحريض الطائفي، فبلغت الانقسامات الطائفية حداً غير مسبوق؛ حافظوا على الأجهزة الأمنية والعسكرية ظناً منهم أن ذلك يبقي على الاستقرار وسيطرتهم بالتالي، وغير خاف أن هذه الأجهزة لديها مناعة، أو بعضها على الأقل لأسباب مهنية، الخ…

أن يكون الفراغ في سدة الرئاسة سنة، يصير وكأنه من تقاليد الحياة “السياسية” في لبنان، وأن يصروا على التوافق بشروط مسبقة دون التفاوض والتصويت فيه إلغاء للسياسة، وهي بالأساس تفاوض مبدأها التسوية التي تُحسم بالتصويت. يريدون أن تكون الدولة فراغاً دستورياً لا ينتظم فيها المجتمع تلقائياً، بل يكونوا هم الذين يجمعون الناس بعد تفريقهم طائفياً وإنهاكهم مالياً وتجويعهم معيشياً، خاصة بعد ثورة 2019 التي رأوا فيها خطراً على سلطتهم. خلقوا الفراغ في الدولة ليكون وسيلة لحكم لبنان. أسلوب جديد في إدارة الدولة.

ليس الأمر أن ليس في البلد دولة. الدولة الآن هي الفراغ. الحكم بالفراغ هو ما تفتعله السلطة الحاكمة والمسؤولون عنها. لا شيء يمنع رئيس المجلس النيابي من الدعوة لانتخابات رئاسية إلا لسبب التواطؤ الذي يكون مبدأه إما وجهة نظرنا أو لا أحد. يعتمد أصحاب هذا التواطؤ على أن جمهور اللبنانيين لن يستجيبوا لدعوات التحريض فيؤدي الأمر الى الأسوأ، ومعروف ما هو الأسوأ، فيعتبر ذلك عجزا عن المواجهة. ويتعالى أصحاب التواطؤ إمعاناً في احتقار شعبهم من مختلف الطبقات والطوائف والمذاهب. هم لا يسيئون الى البلد بخلق الفراغ وحسب، لكنهم يسيئون الى أنفسهم، إذ وضعوا أنفسهم في قفص الاتهام. وما عاد خافياً على أحد هوية من يحكم لبنان أو من بيده السلطة، سلطة الحل والعقد. هل يريد هؤلاء الإشارة الى أن العداء لإسرائيل ليس الأولوية، بل هي في مواجهة الشيطان الأكبر؟ وهذا يشمل الامبريالية الأميركية كما الثقافة المحلية التي لا تروق لهم. ولا مانع عند خصومهم من المواجهة الثقافية ما دامت لا تكلف الكثير إلا أنها تنم عن مكبوت الفيدرالية التي صارت ممارسة يومية بين ثقافتين.

ربما تأكد للنخب الحاكمة أن في ذلك فرادة لبنان واستثنائيته؛ عبقرية لا يجاريه فيها أحد على وجه الكرة الأرضية. المشهد في لبنان الآن ثلاثي الأوجه: فريق المقاومة وفريق الثقافة المغايرة، وسفارة أميركية كبرى يشير حجمها الى أن المقصود بها المنطقة وليس فقط هذا البلد الصغير، فيؤول الأمر الى بضع رصاصات يطلقها من تدعي الأجهزة الأمنية أنها لا تعرفه، فهي  غير معنية بصراع “يفوق” المهمات المكرسة هي من أجلها. مسرح الفراغ شغال، ويتعيّن عليها حمايته.

كل ما عدا ذلك من أحزاب وتجمعات نيابية وكتل نيابية وأقزام يروحون ويجيئون على المسرح، ما هم إلا ديكور يهدف الى ضمان استمرار المسرحية ذات الأبطال الثلاثة المذكورون أعلاه. ليست المسرحية عبثية إذ أن نتائجها المتوقعة، وما هو مزعوم أنه غير متوقع، يتقرر فيه مصير جمهور كبير من المشاهدين في صالة المسرحية من اللبنانيين وغير اللبنانيين، من أصحاب اخراج القيد ومن يفتقدونه حتى إشعار آخر.

ليس في لبنان مواطنون. هم جميعاً رعايا. إذ أن المواطن بالتعريف يساهم في السلطة بطريقة أو بأخرى، عن طريق الانتخابات، أو الأحزاب، أو التظاهر، أو ما يؤدي إليه تشكيل الرأي العام. فالمواطنية ملغاة بحكم إلغاء الدولة وتدمير السياسة وممارسة أو محاولة تطبيق مبدأ التوافق لا التسوية. والغرابة في لبنان هي الإصرار على مبدأ لا يمكن تطبيقه والعزوف عما هو متيسر ولوجه.

بين المشاهدين، النسبة بين من يملكون اخراج قيد والذين لا يملكونه متقاربة، وهم حتى الآن جمهور من المشاهدين، لكن وراء الأكمة ما وراءها. والذين يقبضون على السلطة مطمئنون الى أنه إذا حدث ما لا يريده أحد، وهو متوقع على كل حال، فإن لكل منهم طائفته التي يحتمي بها ويدفعها الى تشكيل جماعة مغلقة. في أحسن الأحوال ستكون هناك فيدرالية بين الجماعات المغلقة سواء كان لكل منها أرض متصلة أو لا يكون؛ لكن الاعتماد على “ثقافة” كل فريق طائفي؛ ولذلك الإصرار على مواجهة ثقافية حتى ولو تعلق الأمر بمنع كتاب أو تحريم فيلم سينما أو مقال صحفي، يزعم ذوو الحياء الثقافي أنه كان ذا أثر عليهم؛ على شعورهم الثقافي أو القومي.

مسرح الفراغ لا يدوم وأطراف الطبقة السياسية يعرفون ذلك. ليس في القانون الدولي فراغ. لا فراغ في السياسية. إن لم تملأه السلطة فإن الجماهير قادرة على ملئه وتعبئته كما لم يكن متوقعا.

لم يأخذ أهل الحل والعقد أن الفراغ وإن أخلوه إلا أن الجمهور يستطيع أن يملأه.  حينذاك سوف يقولون “لات ساعة مندم”.