22
Sep
2023
0

عن البيئة الطبيعة والسياسة

هل يتواضع الإنسان إزاء الطبيعة؟ لا يبدو الأمر كذلك ما دام يحكمه نظام اجتماعي سياسي هو الرأسمالية التي تنظر الى الناس باستعلاء وعدائية فيما يشابه نظرته الى الطبيعة. فكل منهما عنصر من عناصر الإنتاج وكل منهما مسخّر لخدمة أرباب النظام. كما يستغل الرأسمالي اخوانه من الطبقات الدنيا الذين يعملون لديه، يستغل البيئة الطبيعية دون اعتبار لتوازناتها التي تثير اختلالاتها زلازل وأعاصير وفيضانات، وما ينتج عن ذلك من كوارث تصيب البشر.

مع خروج ” الإنسان” من فضاء الكرة الأرضية الي الفضاء “الكوني” تضاءلت الأرض بنظر أرباب النظام، وطمع هؤلاء بتنظيم رحلات “سياحية” ليس للاستكشاف فقط، بل تلوح وراءها التوقعات والتمنيات “باستعمار” الفضاء. الفرق بين اليسار واليمين هو أن اليسار يعتبر أن للرأسمال حدود، بينما يناقضه اليمين باعتقاده أن الحدود معدومة وأن الجشع لا حدود له.

كان القرن العشرون عصر حروب الإنسان ضد أخيه الإنسان. في القرن الواحد والعشرين يبدو أن الإنسان في حرب ضد الأرض؛ وهي ، كما يبدو من تتابع الكوارث في مختلف مناطقها، تأخذ بالثأر من الإنسان الذي تعالى عليها واحتقرها. لو كانت الأرض تتكلّم لذكّرته بالجرائم المرتكبة حيال البيئة الطبيعية والبشرية، وحروب الإبادة حيال الحيوان والإنسان والنبات والتراب والهواء، ولقالت له أنها ليست فقط مزبلة للنفايات والانبعاثات، وليست فقط منجماً للمواد الأوليّة ومصدرا للربح وتكديس الثروات، وعليه أن يتحمل مسؤولياته تجاهها كما حضنته هي عبر آلاف السنين.

بعد أن سادت فلسفات قالت بموت الله، جاءت حروب عالمية أدت الى موت البشر وإبادة كثيرين فيهم، والآن يأتي دور الأم الأرض (كما سماها المؤرخ العظيم توينبي) اعتقاداً من أرباب النظام بنظرية أن الأرض مجرد وعاء والطبيعة مجرد مجال للاستمتاع الرومانسي لدى ذاكرة يمتنع فيها آخذ المآسي بالاعتبار. في مطلع القرن العشرين صدرت كتب لمشاهير عن عالم جديد وشجاع، وفي أواخره صدرت كتب لمشاهير أيضا، في عالم السياسة والأكاديميا، عن عالم يحترق. يبدو أن الشجاعة كانت تهوراً وعدم قابلية لدى أرباب النظام لتحمل المسؤولية، مما أدى الى تحولات مناخية إزاء رفض تخفيض الانبعاثات الكربونية، فتشهد البشرية، بل تعاني ما تعانيه من كوارث. بكل صفاقة ألغى ترامب مفاعيل مؤتمري باريس وكيوتو الذين يحدان من الانبعاثات الكربونية من أجل الحد من ارتفاع حرارة الجو لأقل من درجتين مئويتين.

تتوازى علاقة الإنسان بالطبيعة مع علاقة الإنسان بالإنسان، أو ربما الأرجح أنها تنبع منها. يصعب تصديق أن علاقة تعاون أو نظام اشتراكي بين البشر لن تنعكس على العلاقة مع الطبيعة. إن نظام الحقد والاستعلاء الذي يعيشه البشر في جانب من جوانب حياتهم يمتد الى الجوانب الأخرى.

عندما يستبيح الإنسان نفسه ومجتمعه في نظام اجتماعي قائم على الخضوع لما هو خارج النفس البشرية وخارج الضمير أو في تنافٍ معه، ويجعل الربح هدفاً للحياة، لا الإنتاج بما فيه الربح، وسيلة للحياة أو أداة للعيش الكريم، يكون طبيعياً أن تصبح علاقته مع البيئة الطبيعية قائمة على التنافر لا على الانسجام. في نظام من هذا النوع يعيش البشر لا في تماه مع الطبيعة، ولا على أنهم جزء منها بما يوجب الحفاظ عليها، وكأن في ذلك الحفاظ على النفس. العلاقة مع الطبيعة جانب من جوانب النظام الاجتماعي السياسي. هنا يكمن خطأ جمعيات البيئة التي تفصل الأمر عن السياسة وخطر نظام الاستبداد الذي يستهين بالطبيعة، كما يستهين بالجنس البشري. والرأسمالية لا ينتج عنها إلا أنظمة استبداد مهما كان التشدّق بالديمقراطية، ولا ديمقراطية دون مساواة. والرأسمالية نظام اللامساواة التي بدورها لا تكون حقيقية إلا عندما تشمل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية كما السياسية.